ست سنوات من حكم عون: عهد متوّج بانهيار لبنان

30 أكتوبر 2022
انتُخب عون رئيساً في 31 أكتوبر 2016 (حسين بيضون)
+ الخط -

يغادر الرئيس اللبناني ميشال عون اليوم الأحد، قبل انتهاء ولايته رسمياً غداً الاثنين، قصر بعبدا الجمهوري، متجهاً إلى مقرّه في الرابية (قضاء المتن ـ شمال بيروت) التي تُعتبر عقر داره الحزبي والسياسي، بعد ست سنوات في حكم لبنان، عرفت تحركات شعبية واسعة عام 2019 وعزلة خارجية، وصراعاً داخلياً، وانهياراً نقدياً وتدهوراً اقتصادياً، وانفجار مرفأ بيروت، فكان أن شهد عهده محطات استثنائية تاريخياً ألبسَته رداءَ جهنّم، التعبيرُ الذي لوَّح به يوماً في أحد تصريحاته.

تعبير "جهنّم" طبعَ عهد عون، وهو الذي عطّل البلد سنتين مع حليفه "حزب الله" لتحقيق حلمه الرئاسي بين عامي 2014 و2016، الذي تعزّز مع عودته من منفاه الفرنسي إلى لبنان عام 2005، فكان أن ارتدّ كابوساً على اللبنانيين، على الرغم من إتمام ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية الخميس الماضي، الذي سعى عون لإنهائه بأي ثمنٍ قبل نهاية ولايته، من أجل الخروج بـ"إنجاز" يدوَّن باسمه.

في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2016، أقسم عون عند انتخابه رئيساً، بتسليم الرئيس المقبل وطناً أفضل من الذي تسلّمه، وبأن يكون "العهد قوياً"، مؤكداً رغبته في تحقيق "نقلة نوعية، في إرساء الشراكة الوطنية الفعلية في مختلف مواقع الدولة والسلطات الدستورية، وفي إطلاق نهضة اقتصادية تغيّر اتجاه المسار الانحداري، وفي السهر على سلامة القضاء والعدالة".

وشدد عون على أنه سيكون "بيّ الكل"، أي أباً لكل اللبنانيين، لا رئيس تكتل حزبي، في وعدٍ سرعان ما أسقطته الممارسات، ودعّم سقوطه صهره رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل، الذي يوصَف لدى المعارضين بأنه "رئيس الظل الفعلي للبلاد".

عهد متوّج بانهيار لبنان

قسَم الرئيس اللبناني تُرجِمَ عكسياً على لبنان، فكان انهيار العملة الوطنية، والانحدار الاقتصادي، مع توقّف لبنان عن سداد ديونه الخارجية، وتدهور القدرة الشرائية، وغلاء الأسعار غير المسبوق، واحتجاز المصارف ودائع الناس وتحريرها للنافذين ولجوئها كل فترة إلى الإقفال والإضراب.

ويُضاف كل ذلك إلى تعطيل مواقع الدولة والسلطات الدستورية وشل الإدارات العامة وضرب العدالة والقضاء والحريات، والصراعات الداخلية والأزمات الدبلوماسية، والعتمة الشاملة (انقطاع الكهرباء) وتوسع نفوذ السوق السوداء، والمهربين والمحتكرين، والطوابير على محطات الوقود والأفران والصيدليات، والإشكالات في السوبرماركت، واقتحامات المصارف، ورفع مستوى الخطاب التحريضي على اللاجئين السوريين.


علي حمادة: عهد عون عهد استيلاء حزب الله بشكل حازم على القرار الوطني

وبالإضافة إلى غرق الطرقات بالنفايات، وتفرج الدولة على أكبر الحرائق التي عرفها لبنان في تاريخه عام 2019، وارتفاع معدلات الفقر والجوع والبطالة والهجرة الشرعية وجرائم القتل والسرقة، وتراجع مستوى الخدمات الصحية، والاتصالات والانترنت، وغيرها.

وكان الحدث الأخطر انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020، الذي أدى إلى سقوط أكثر من 220 قتيلاً و7 آلاف جريح، علماً أن عون وغيره من المسؤولين كانوا يعلمون بوجود "نترات أمونيوم"، وهي بمثابة قنبلة نووية في أحد عنابر المرفأ ولم يتحركوا لإزالتها.

وسجل العهد أيضاً ارتفاع وتيرة "مراكب الموت" أي الهجرة غير النظامية بحراً، خصوصاً من الشمال، وضحايا انفجار بلدة التليل في محافظة عكار، شماليّ البلاد الذي وقع في 15 أغسطس 2021، المتصل بالأزمة الاقتصادية وتخزين المحروقات، وغيرها من الأحداث المأساوية التي لم تغب عنها ممارسات قمع التظاهرات ومحاولات كمّ الأفواه، وقتل الصحافي، الناشط السياسي لقمان سليم في 4 فبراير/شباط 2021.

وعلى الرغم من كل الأزمات والغضب الشعبي، وانتفاضة 17 أكتوبر 2019، تمكّن عون من إكمال عهده، الذي تعاقبت عليه 4 حكومات، والذي عانى من شبه قطيعة دولية وخليجية، وعزلة داخلية، حالت دون تمكنه من جمع كل الأفرقاء السياسيين على طاولة حوار. ولم يبقَ معه سوى "حزب الله" حليفه الاستراتيجي، علماً أن التوترات طاولت علاقتهما في كثير من المحطات.

في المقابل، دخل عون بخلاف حاد مع أبرز أركان التسوية الرئاسية، سعد الحريري، الذي يتهم عون وباسيل بإخراجه من الحياة السياسية واعتزاله في مطلع العام الحالي، ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع.

في المقابل، فإن مؤيدي عهد عون، وبالدرجة الأولى مناصرو "التيار الوطني الحر" الذين ينظمون تحركاً شعبياً اليوم الأحد لملاقاة عون في الرابية، يتمسكون بمقولة "ما خلونا"، أي إن رئيس الجمهورية مُنع من الإنجاز والعمل، وتمت عرقلة عهده، غامزين بالدرجة الأولى من دور رئيس البرلمان نبيه بري وجعجع، وأحزاب ضمن خانة 14 آذار، متهمين سفارات أجنبية- بدعم داخلي- بتحريك الشارع في 17 أكتوبر 2019 ضد عون.

كذلك، يشيد مناصرو التيار بما يعتبرونها إنجازات لعون، من معركة "فجر الجرود" على الحدود اللبنانية ـ السورية في محافظة بعلبك ـ الهرمل، شرقيّ لبنان (بين 21 يوليو/تموز 2017 و28 أغسطس من العام عينه)، التي حررت البلاد من تنظيمي "داعش" و"جبهة النصرة".

ويشيد المناصرون أيضاً بإقرار قانون انتخابي جديد على أساس النسبية، أجريت على أساسه في مايو/أيار 2018 الانتخابات النيابية، وتمكن فيها المغتربون من التصويت للمرة الأولى في أماكن إقامتهم في الخارج.

كذلك وقف عون، بحسب مؤيديه، على الرغم من الاتهامات بحقه، إلى جانب الحريري خلال محنته في السعودية في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، ملوحين أيضاً أخيراً بإنجاز ملف ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، بعد مفاوضات انطلقت عام 2020، وتنفيذ خطة عودة اللاجئين، بالإضافة إلى إقرار الموازنة العامة في عام 2017، بعد 12 عاماً من الغياب، على الرغم من أن الانتقادات طاولتها بعدم دستوريتها وجدواها الاقتصادية.

عهد استيلاء حزب الله على القرار

ويختصر الكاتب السياسي علي حمادة عهد عون بأنه "عهد استيلاء حزب الله بشكل حازم على القرار الوطني والسيادي في البلد، إضافة إلى مؤسسات الدولة والمواقع الدستورية الرئيسية، وعهد العزلة الخارجية، والتوتير والصراع الدائم مع كل مكونات البلد، ما عدا حزب الله الذي بقي يحمله على كتفيه، عهد الاشتباك على صعيد حزبي سياسي وحتى طائفي بالتحريض، لذلك يمكن أن نقول إن عهد عون ينتهي بشكل بائس".


لم يبقَ مع عون سوى "حزب الله"، علماً أن التوترات طاولت علاقتهما

ويضيف حمادة في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن "عهد عون بدأ بتسوية مفروضة، ولو أنه أوحى للجميع أنها جاءت متحررة من كل ضغوطٍ، إلا أنها أتت نتيجة لتراكم كبير من الضغوط التي مارسها حزب الله ومعه في الخلفية التيار الوطني الحر، وعون قبل أن يصبح رئيساً".

ويرى أن "عهد عون هو العهد الذي استطاع فيه حزب الله أن يكمل دائرة السيطرة بشكل كامل على المؤسسات، فأصبح الناظم للحياة السياسية والأمنية في البلاد، ومعه حليفان أساسيان، رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان نبيه بري الذي بيده مفتاح مجلس النواب".

ويشير حمادة إلى أن "قوى 14 آذار ذهبت بتسوية عند انتخاب عون، ولكن بدل ذهابها بتسوية رئاسية مع عون وحزب الله كجبهة واحدة متراصة متماسكة، والتفاوض كطرف واحد، ذهبوا إفرادياً، كلّ لوحده، فسهّلوا بهذا السلوك على حزب الله مهمة استفرادهم ووقعت البلاد منذ ذلك اليوم بقبضته".

ويضيف: "كان هناك رأي سائد قبل انتخاب عون، ولا سيما من الذين أوصلوه، بأنه سيتغيّر ما إن يتبوأ سدة الرئاسة، وسيخرج من اصطفافه ضمن القوى الحليفة لحزب الله في الممانعة ويتموضع في الوسط كرئيس لجميع اللبنانيين، وكان هناك أمل حقيقي لدى هؤلاء بأن يحصل ذلك"، مستدركاً: "بيد أن العكس حصل، إذ ازداد عون تطرفاً في التحالف مع حزب الله والنظام السوري والإيرانيين بشكل عام بالمعنى الإقليمي، وحتى نظريته في حماية مسيحيي الشرق اختل التوازن فيها بشكل حازم وغير قابل للإصلاح".

ويلفت حمادة إلى أن عون تحوّل بسرعة إلى طرف مشتبك مع معظم القوى السياسية في البلد، حتى مع حلفائه في الممانعة، أي "تيار المردة" بقيادة سليمان فرنجية، وحركة "أمل" بقيادة بري، معتبراً أن "العهد انتهى عملياً في سنته الأولى وليس في 31 أكتوبر 2022، وعانى بسبب السلوك الداخلي والتموضع بتطرف وعنف إلى جانب حزب الله، وخصوصاً بتعرضه لعزلة عربية شبه شاملة، وأخرى دولية".

ويتوقف حمادة عند القمة العربية الاقتصادية الاجتماعية التي استضافتها بيروت عام 2019، ولم يحضرها إلا زعيمان عربيان، هما أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، والرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز، مشيراً إلى أن عون عاش عزلة تامة معظم عهده، ولم توجّه إليه أي دعوة للخارج باستثناء السنة الأولى، حيث زار السعودية، وعدداً من الدول وأجرى زيارات تقليدية لفرنسا والفاتيكان، علماً أن الرحلة الشهيرة إلى مصر عام 2017 وحديثه التلفزيوني عن عدم قدرة الجيش اللبناني على الدفاع عن لبنان أقفلت يومها باب العالم عليه.

"الرئيس القوي" بعد الطائف

من جهته، يقول الباحث الاجتماعي خالد الحاج، لـ"العربي الجديد": "لا يمكن مقارنة عهد عون إلا بمرحلة ما بعد اتفاق الطائف (عام 1989) أي الرؤساء الياس الهراوي، إميل لحود، وميشال سليمان، خصوصاً على صعيد مفهوم الرئيس القوي، على اعتبار أن رئيس الجمهورية قبل اتفاق الطائف كان رئيساً قوياً بالمعنى التنفيذي، أي بالصلاحيات، لكن بعد الاتفاق المذكور، اعتبر الموارنة أن هناك انتقاصاً من صلاحياته وانتقدوا المراحل التي سبقت عهد عون".


خالد الحاج: للمرة الأولى تصل العلاقة مع السعودية بشكل أساسي لدرجة القطيعة

ويضيف الحاج: "عند تولي عون الرئاسة، كانت نقطة القوة الرئيسية والمهمة التي يمكن أن نؤرخها في مرحلته أنه أرسى مفهوم الرئيس القوي، باعتبار أنه كان صاحب كتلة نيابية وازنة، الأكبر في الشارع المسيحي، ولديه حلف سياسي هو الأقوى في الانتخابات، وهو ما أكدته نتائج انتخابات عام 2018. وبالتالي، فقد تمتع عون بشيء لم يتمتع به الرؤساء السابقون، الذين افتقدوا الدفعة القوية، وخصوصاً نيابياً، والكتلة التي كان بإمكانها دعم قرارات رئيس الجمهورية وتقف إلى جانبه لتنفيذها".

ويتابع: "كذلك، انطلق عون في بداية عهده بدفع معنوي إقليمي، نظراً لاتفاق سعودي ايراني أتى به بالدرجة الأولى، فكانت زيارته الأولى للسعودية، على الرغم من أنه كان يهاجمها، وفتح صفحة جديدة مع قوة إقليمية اقتصادية كبيرة ومؤثرة في لبنان، وهذا ما كان يأخذه كل رؤساء الجمهوريات السابقين بالاعتبار، بيد أن العلاقة سرعان ما تدهورت ووصلت إلى حدّ قطيعة لم يعرفها لبنان في تاريخه".

من ناحية ثانية، يقول الحاج إن 4 حكومات تشكلت في عهد عون، مع اعتذارين لرئيسين مكلفين، وخامسة لم تتشكل بعد، بيد أن ما هو استثنائي، أن أكثر من نصف فترة ولاية عون كانت فيها الحكومات مستقيلة ولا تعمل، وهذه سابقة تاريخية.

ويستذكر الحاج قول الرئيس السابق كميل شمعون إن قوة لبنان بسياسته الخارجية، والتواصل مع الخارج والعرب بالدرجة الرئيسية، فكان لبنان الدولة المؤسسة لجامعة الدول العربية، ممتلكاً علاقات قوية مع الدول، وخصوصاً الخليجية، يعود تاريخها للعلاقة بين الاقتصاد في دول الخليج والنظام المصرفي في لبنان.

كذلك كان معظم المواطنين في الخليج يعتبرون لبنان دولة سياحية شقيقة يزورونها للاصطياف وبأمانٍ، وهاتان القاعدتان ما بنى اقتصاد لبنان.

لكن في عهد عون، وفق ما يقول الحاج، "رأينا كيف أنه للمرة الأولى تصل العلاقة مع السعودية بشكل أساسي لدرجة القطيعة السياسية والتجارية والسياحية، فهذه سابقة تاريخية، لم تحصل حتى في عهد رؤساء لم يكونوا على علاقة جيدة بالمملكة، كذلك فإن حركة عون الخارجية التي هي جزء أساسي من سياسة الدولة الخارجية، كانت ضعيفة جداً وبأدنى مستوياتها تاريخياً".

ويلفت الحاج إلى أن "عهد عون لا يشبه أي عهد، فهو استثنائي، يشبه نفسه، ولم يصل لبنان سابقاً إلى هذا الوضع المتدهور، اقتصادياً، سياحياً، استشفائياً، خدماتياً، مصرفياً، معيشياً، صحياً، وتربوياً، فكان الشلل التام".

كذلك، كان للعهد أرقام غير مسبوقة تاريخياً في قمع الحريات، إذ تقول الباحثة في مؤسسة سمير قصير "سكايز" (مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية)، وداد جربوع، لـ"العربي الجديد"، إن "المركز رصد أكثر من 800 انتهاك إعلامي وثقافي في عهد الرئيس عون"، مشيرة إلى أنه "عهد قمع حرية التعبير وكمّ الأفواه".

المساهمون