ساطع الحصري... الوجه التركي للمفكر القومي العربي

14 يناير 2024
ساطع الحصري تترّك ثم تعرّب حسب تعبير خير الدين الزركلي (Getty)
+ الخط -

مرت مئوية الجمهورية التركية بهدوء غير متوقع، لم يتخلل الذكرى التي تحمل رمزية كبيرة أي تغيرات نوعية كما كانت تعدنا بعض الجهات الإعلامية التركية والعربية على مدار السنين الماضية. اقتصر الحدث على عرض عسكري واحتفالات تشبه الاحتفال السنوي التقليدي كل عام. على الصعيد الثقافي قدم الكثير من المثقفين والصحافيين مراجعات تاريخية ونقدية لتاريخ الجمهورية التركية، وركزوا على فكرة رئيسية وهي "من نحن بعد مئة عام؟". هذا السؤال طرح بالتوازي مع تخفيض الدولة لمستوى الاحتفال بالذكرى المئوية بسبب حرب غزة وأثار الكثير من الجدال بشأن علاقة تركيا مع محيطها العربي. 
هذه الإشكالية سببها أن المجتمع التركي منقسم لقسمين حول نظرته لتاريخ الجمهورية، القسم الأول ينظر للجمهورية التركية على أنها وليدة لحظة إعلان الجمهورية في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1923 وكل ما هو مرتبط بما قبل هذه اللحظة هو الماضي السيئ الذي تجاوزته هذه الجمهورية الجديدة ومن ضمنه التاريخ المشترك مع المحيط العربي. أما القسم الثاني فيرى الجمهورية التركية استمراراً للإمبراطورية العثمانية التي كان العرب جزءا منها.

العربي الوحيد

في ظل هذا الجدال كان من اللافت للانتباه وجود شخصية عربية ما زالت حاضرة في الوجدان التركي وكتب عنها في الذكرى المئوية للجمهورية التركية، هذه الشخصية تذكر كمثال ناجح في نقاشات واقع التعليم والمؤسسات التربوية بعد مئة عام، إنها ساطع الحصري "أبو القومية العربية" كما يعرفه العرب، أو "ساطع بيك" أو "مصطفى ساطع بيك" كما يعرفه الأتراك والشخصية التي ما زالت تحمل لقب "أبو التربية التركية". 

ساطع الحصري، تترك ثم تعرب حسب تعبير خير الدين الزركلي صاحب كتاب الاعلام.
ساطع الحصري، تترّك ثم تعرّب حسب تعبير خير الدين الزركلي صاحب كتاب الأعلام

مصطفى ساطع بيك

مصطفى ساطع بيك كما يسميه الأتراك بسبب نشره مقالاته تحت هذا الاسم، ولد في صنعاء في عام 1880 كما تذكر بعض المصادر. كان والده محمد هلال الذي ينحدر من مدينة حلب رئيس محكمة الاستئناف في ولاية اليمن. تنقل ساطع برفقة عائلته بين صنعاء وأضنة، وأنقرة، وقونيا، وطرابلس الغرب. لم يلتزم في تعليم "المدارس" التي كانت في حينها تركز على تدريس العلوم الدينية، بل التحق عام 1892 بالقسم الداخلي للمدرسة الُملكية بإسطنبول والتي كانت مدرسة مدنية وعلمانية مخصصة للتدريب الحديث. أطلق عليه أصدقاؤه لقب أرخميدس بسبب حبه للرياضيات والعلوم حيث استثمر ساطع معرفته للعديد من اللغات مثل الفرنسية والأرمنية والإنكليزية والفارسية ليقرأ في الرياضيات وعلوم النبات والتاريخ. بعد تخرجه من المدرسة الملكية في إسطنبول عام 1900 فضل الذهاب لتدريس العلوم الطبيعية فعين في وزارة المعارف مدرسا للعلوم الطبيعية. 

نشاطه السياسي

لاحظ ساطع خلال تواجده في الولايات الغربية أن الدولة العثمانية في حال استمرارها بهذه الطريقة فهي تسير على طريق السقوط، لذلك ترك مهنة التعليم وانتقل ليشغل منصب حاكم المنطقة في مقاطعتي رادوفيشتا (شمال مقدونيا) عام 1905، وفي فيلورينا التابعة لولاية مناستر في اليونان عام 1907. اهتم خلال هذه الفترة بمعرفة أفكار الحركات القومية ولاسيما عند اليونانيين والبلغار والتي كانت منتشرة في شرق أوروبا بشكل كبير. حاول أن ينخرط بحراك يعيد الدولة العثمانية لقوتها، فانتسب في مناستر إلى جمعية الشباب الأتراك التي كانت تهدف للقيام بإصلاح إداري في الدولة العثمانية، والتي استمدت الكثير من أفكار نامق كمال الذي طالب بالاصلاح بحيث "لا تختص بإصلاحات تشمل هذه المقاطعة أو تلك، بل تشمل السلطنة كلها، ولا تقتصر على قومية واحدة، بل تعم جميع العثمانيين، أكانوا يهوداً، أم مسيحيين، أم مسلمين. ونرغب في التقدم على درب المدنية".
قابل ساطع بيك الضباط المقتنعين بأفكار جمعية الشباب الأتراك أو جمعية الحرية العثمانية التي أسسها محمد طلعت، والذين يتخذون من مدينة مناستر مقراً لهم بالإضافة لمقرهم الأساسي في سالونيك. كان ارتباطه مع لجنة الاتحاد والترقي في مناستر قوياً لكنه سرعان ما ترك عضوية لجنة الاتحاد والترقي في مناستر بسبب الألاعيب السياسية داخلها لكن ذلك لم يمنع استمرار علاقته طيبة مع الاتحاديين. استقال من منصب قائم المقام عام 1908 بعد إعلان المشروطية الثانية وعاد لإسطنبول حيث نشط وذاع صيته ضمن الحركة المناوئة للسلطان عبد الحميد رافضا المناصب ومنها منصب مستشار عربي في وزارة المعارف. 

أبو التربية التركية 

لفتت مقالاته الحداثية المنشورة في مجلة "الحقيقة النيرة" نظر وزير المعارف مصطفى نائل بيك الذي كان بحاجة إلى تنشئة أساتذة بعد المشروطية الثانية، فتم تعيينه عام 1908 مديرا لمؤسسة دار المعلم (مدرسة المعلمين الذكور). وضع الحصري شروطا للقبول بهذا التعيين وقد قبلت كلها، فأقال كل كادر المؤسسة باستثناء ثلاثة أساتذة ووضع شروطا لاختيار الطلاب الجدد ومناهج جديدة ونشر منهجه التربوي عبر إصداره أقدم مجلة تعليمية في تاريخ تركيا وهي "مجلة التدريس الابتدائي". 
أضاف مادتي الفن والرياضة في المدرسة، وأوجد قسماً تطبيقياً لمدرسة المعلمين لأول مرة، حيث مكن الطلاب من إعطاء الدروس قبل تخرجهم. قام برحلات للدول الأوروبية ليستكشف النظم التعليمية الغربية، وزار العديد من الولايات العثمانية ليعكس رؤيته ويجيب عن أسئلة المعلمين هناك. استقال في عام 1912 من منصبه بسبب الخلافات التي ظهرت بينه وبين وزير المعارف أمرة الله أفندي.

ساطع الحصري في دار المعلمين في اسطنبول 1910
ساطع الحصري في دار المعلمين، إسطنبول 1910

عُين ساطع بيك بعدها مدير دار الشفقة في إسطنبول لمدة عامين، وهي الدار المسؤولة عن تأمين التعليم للأطفال الذين لا يملكون مالا للدراسة، ثم افتتح مدرسة "المكتب الجديد" في منطقة شيشلي في إسطنبول والتي كانت مدرسة ابتدائية وحضانة أطفال وطلب من فكرت أفندي كتابة شعر للأطفال، وتم نشر أول كتاب في الأدب التركي عن شعر الأطفال من خلال هذه المدرسة. أسس الحصري "دار المربيات" لتنشئة المعلمات للمدارس الابتدائية والحضانة، ورأى أن تحرر أي بلد في العالم مرتبط بقوة جيش المعلمين الذي تمتلكه، وأكبر عدو لهذا الجيش هو الجهل، ونتائج هذه المعركة ستكون مستقبل البلد. 
وضع خططاً واضحة للتعليم في المدارس مركزاً على التفاصيل مثل عدد الطلاب في كل صف، والإضاءة وارتفاع المقاعد والتدريب الرياضي والفحوصات الطبية الدورية. دافع عن فكرة التمييز وفوارق الذكاء خلال التعليم وإعطاء كل شخص تعليماً بحسب مستوى ذكائه. كما تحدث عن وقت الفراغ وجعله مليئا بالنشاط. ببساطة، عمل ساطع بيك كل ما بوسعه ليجيب تربويا عن أسئلة مثل "لماذا نحن متأخرون؟"، و"ماذا يجب علينا أن نفعل لكي لا تذهب دولتنا؟" وفي هذا السياق فإن أثره بقي في الجمهورية التركية من خلال الأساتذة الذين وضع لهم نظاما كاملا في دار المعلم. 

كتاب مصطفى ساطع وعلوم التربية⁩ باللغة التركية

ساطع والقومية التركية في عهد الجمهورية

في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عاشت الدولة العثمانية أزمة ولاء، فكانت ضائعة بين الولاء للإسلام، والانتماء للعثمانية، أو للروابط القومية. كان ساطع الحصري وصديقه المقرب توفيق فكرت ضمن مجموعة تبنت مبدأ العثمانية وأن جميع العثمانيين مواطنون متساوون. هذه الفكرة انتشرت كثيراً بعد المشروطية الثانية وسقوط عبد الحميد، فقد نسب إلى أنور بيك قوله: "من الآن سنكون جميعاً أخوة. لم يعد بيننا بلغار أو رومان أو يهود أو مسلمون، فتحت هذه القبة كلنا سواء، ونفخر بكوننا عثمانيين". 
تبنت المجموعة الثانية مبدأ أن لا علاقة للإسلام بالانحطاط وبأنه يجب أن يبقى هو نواة الدولة، مع استعارة بعض المعرفة الفنية من الغرب، وهذه المجموعة كانت مؤيدة بشكل كبير لاستمرار الخلافة مع بعض التعديلات الإدارية. تبنت المجموعة الثالثة القومية التركية والسعي لإنشاء دولة تجمع كل أتراك العالم، وأبرز من تبناها كان ضياء غوك ألب. هذه الفكرة انتصرت بعد عام 1913، وكانت مركزية في تأسيس الجمهورية التركية ولذلك لا نرى لأفكار ساطع القومية العثمانية حضوراً في المشهد التركي لأن هذه الأفكار هزمت أمام النزعة التركية التي سيطرت وأسست الجمهورية، إلا أن نظرياته التعليمية قد طبقت في العهد الجمهوري وتُستذكر عند كل مناسبة يتم الحديث فيها عن تاريخ المؤسسة التعليمية في الجمهورية التركية.

في مصر والعراق ولبنان

كتاب (دارسات عن مقدمة ابن خلدون ) من تأليف ساطع الحصري
كتاب (دارسات عن مقدمة ابن خلدون ) من تأليف ساطع الحصري

تبدأ شخصية ساطع الحصري القومية العربية بالظهور في عام 1919، أي بعد مغادرته للدولة العثمانية وتوجهه أولاً نحو سورية ثم مصر والعراق ولبنان، حيث تقلد العديد من المناصب، منها وزارة المعارف والتربية في حكومة الملك فيصل الأول في دمشق، كما انتدبه فيصل الأول لمفاوضة الجنرال غورو قبل دخوله لدمشق. انتقل مع الملك فيصل إلى بغداد حيث تولى العديد من المناصب هناك. ألّف ونشر الكثير من الكتب، وركز في كتاباته على مفهوم القومية العربية الرافض للنزعة العرقية والانعزالية، إذ أكد على مركزية اللغة داخل القومية، وقال إن الأمة تموت فقط عند وفاة اللغة، وإن اللغة المشتركة والتاريخ المشترك هما الدافعان لتشكيل أي أمة. وبناء عليه، فإن الأمة العربية موجودة ومتحققة بفعل رابط اللغة والتاريخ. كان من المتحمسين لوصول الضباط الأحرار للسلطة في مصر وأيد الوحدة المصرية السورية، وشغل العديد من المناصب في الجامعة العربية. لم ينتم ساطع الحصري لبلد معين بل بقي متنقلاً بين البلدان العربية إلى أن توفي في عام 1968 في بغداد. 

المساهمون