عشية انتهاء الشهر العاشر من الغزو الروسي لبلاده، حطّ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في الولايات المتحدة، في أول زيارة خارجية له منذ اندلاع الحرب في 24 فبراير/ شباط الماضي.
وبعدما تنقّل في مدن بلاده التي استردّها جيشه في خيرسون وخاركيف، ثم توزيعه الأوسمة على الجنود المقاتلين في باخموت، في الشرق، منذ أيام، حضر زيلينسكي ضيفاً فوق العادة في واشنطن، في البيت الأبيض والكونغرس، حيث ألقى خطاباً وصفته قناة "سي أن أن" الأميركية بـ"التاريخي".
وبعدما أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن استمرارية دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا، إنسانياً وعسكرياً ومالياً، كشف عن توقيعه على تخصيص 45 مليار دولار جديدة للأوكرانيين، في انتظار موافقة الكونغرس عليها، وهو ما من شأنه أن يرفع المبلغ الإجمالي للمساعدات الطارئة التي أذنت بها الولايات المتحدة إلى أكثر من 100 مليار دولار.
مع العلم أن بايدن يرفض منح أوكرانيا أسلحة أكثر قوة، خصوصاً الصواريخ بعيدة المدى، وذلك بسبب "الحرص على بقاء التحالف المتين في وجه روسيا"، وفقاً له.
خطاب الـ23 دقيقة
في المقابل، بدت شكليات خطاب زيلينسكي، الذي دام 23 دقيقة في الكونغرس، مساء أول من أمس الأربعاء، لافتة. ففي زيّه الزيتيّ المعتاد منذ اندلاع الحرب، تحدث الرئيس الأوكراني عن طبيعة المعارك في أوكرانيا وسيرها، متطرقاً إلى إصرار بلاده على "الانتصار ضد الطغيان الروسي".
حضرت باخموت، التي تواجه أشرس المعارك في الأيام الأخيرة، في الخطاب. تحدث زيلينسكي عن الصعوبات على الجبهة هناك، وعن محاولات الروس اختراقها منذ مايو/ أيار الماضي، وأحضر معه علماً أوكرانياً موقعاً من الجنود المقاتلين هناك، رفعته رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، ونائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس، وسط تصفيق الحضور. في الواقع، تمّت مقاطعة كلمة زيلينسكي 18 مرة بالتصفيق وقوفاً.
شكر زيلينسكي الولايات المتحدة على دعمها بلاده. وفي الواقع، أحدث الدعم الأميركي تغييرات عدة في مجريات القتال. الأميركيون كانوا أول من تحدثوا عن احتمالات الغزو الروسي، بل نشروا خرائط حول المسارات التي سيعتمدها الجيش الروسي لاقتحام أوكرانيا.
والأميركيون اندفعوا إلى مواكبة الحرب، عبر استخدام الأقمار الاصطناعية لمنح القوات الأوكرانية تفوقاً ميدانياً، فضلاً عن مشاركتهم المعلومات الاستخبارية مع أقرانهم الأوكرانيين.
وفي مطلع الصيف الماضي، سمحت صواريخ "هيمارس" الأميركية في تدشين الجيش الأوكراني هجومين مضادين في الشرق والجنوب، استعاد فيهما خاركيف وخيرسون، واخترق الدفاعات الروسية في دونيتسك. وأيضاً، فإن منظومة "باتريوت" للدفاع الجوي ستسمح لأوكرانيا في صدّ هجمات الصواريخ الباليستية الروسية على البنى التحتية الأوكرانية.
استخدم زيلينسكي مفردات قريبة من العقل السياسي الأميركي
استخدم زيلينسكي مفردات ومصطلحات قريبة من العقل السياسي الأميركي، تحديداً في حديثه عن "العالم الحرّ" و"حماية الديمقراطية" و"القيم المشتركة"، وكان واضحاً أن خطابه موجّه للجمهوريين، الذين سيسيطرون على مجلس النواب في الكونغرس، اعتباراً من 3 يناير/ كانون الثاني المقبل، بموجب نتائج الانتخابات النصفية، التي أُجريت في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
ومع أنه حظي بدعم الحزبين بشكل عام، إلا أن الانقسامات في الرأي في صفوف الجمهوريين، دفعت زيلينسكي إلى استخدام صيغة أن "المساعدات ليست صدقة، بل استثمار في الأمن العالمي والديمقراطية، نتعامل معه بأكثر الطرق مسؤولية"، وذلك لأن أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب يسعون إلى وقف تدفق المساعدات الحالية، ويشترطون وضع حدود لها ومراقبتها.
حتى أن الرئيس المتوقع لمجلس النواب، الجمهوري كيفن مكارثي، أكد بعد الخطاب أن "موقفي لم يتغير. أدعم أوكرانيا، لكنني لن أدعم شيكاً على بياض. نريد التأكد من إمكانية مساءلة الجميع في موضوع الأموال التي يتم إنفاقها".
وإضافة إلى مكارثي، فإن مجموعة صغيرة من الجمهوريين في مجلس النواب انتقدت التمويل المستمر لأوكرانيا مراراً، بما في ذلك النائبان لورين بويبرت من كولورادو ومات غايتز من فلوريدا، اللذان لم يصفقا لزيلينسكي، ونادراً ما وقفا أثناء خطابه.
ولم يحضر الجمهوريان، النائبة مارجوري تايلور غرين، والسيناتور جوش هاولي، خطاب الرئيس الأوكراني، وهما من كبار منتقدي تمويل الحرب. غير أن كييف بوسعها الحصول على دعم قادة جمهوريين مؤثرين، مثل زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل.
وفي الواقع لا يبدو أمام الجمهوريين خيار آخر غير دعم أوكرانيا، فوفقاً لصحيفة "بوليتيكو"، فإن "كبار المسؤولين الأميركيين ناقشوا مع نظرائهم الأوروبيين والأوكرانيين اقتراحاً من 10 نقاط حددها زيلينسكي (في كلمة له خلال قمة العشرين في إندونيسيا، منتصف الشهر الماضي) كشروط لاتفاق سلام".
وذكرت الصحيفة الأميركية أن "أي من المتناقشين لم يتلقوا مؤشراً حقيقياً إلى أن روسيا جادة بشأن المفاوضات، التي تتطلب من بين أمور أخرى مغادرة جميع القوات الروسية أوكرانيا".
مجموعة صغيرة من الجمهوريين في مجلس النواب انتقدت التمويل المستمر لأوكرانيا
في هذه المحطة الفاصلة بين التدقيق في مواصلة تقديم الدعم الأميركي لأوكرانيا وبين الرفض الروسي القاطع للتفاوض، يظهر أن أمام الجمهوريين المعارضين لسياسة الدعم خيار مر يقضي بمواصلته، لكن وفق شروط أكثر دقة، تحديداً لجهة ضمان وصول المساعدات إلى مستحقيها، في ظلّ إعراب البعض منهم، وأبرزهم النائبة عن ولاية إنديانا، الأوكرانية الأصل، فيكتوريا سبارتز، عن مخاوفهم من "تقديم المساعدات في ظلّ الفساد المحيط بإدارة زيلينسكي".
رسائل إلى أوروبا وبوتين
غير أن أهم الرسائل التي وجهها زيلينسكي، هي لأوروبا، التي ترددت العديد من دولها في دعمه في مطلع الغزو، ثم حاولت التقليل من كمية المساعدات المرسلة، وبعدها حافظت على علاقات، ولو بالحدّ الأدنى مع روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين.
حتى أن بريطانيا، الداعم الأكبر لأوكرانيا من بعد الولايات المتحدة، قدمت مساعدات عسكرية بقيمة 3.29 مليارات دولار، بينما قدمت ألمانيا 2.4 مليار وبولندا 1.9 مليار، بحسب "معهد كييل للعالم الاقتصادي"، الألماني. ومن الطبيعي أنه بعد زيارته إلى واشنطن، فإن الدول الأوروبية ستعيد النظر بالكثير من سياساتها حول أوكرانيا.
كما وجّه زيلينسكي رسالة إلى الداخل الأوكراني، باعتبار أن الشعب ليس وحيداً، وأن المعاناة الناجمة عن انقطاع الكهرباء والمياه والتدفئة في شتاء بارد، بسبب الصواريخ الروسية التي طاولت محطات الطاقة والبنى التحتية، لن تتحول إلى ورقة سياسية لموسكو تفرض فيها شروطها السلمية، وتحديداً القبول بالتنازل عن الأراضي الأوكرانية في شبه جزيرة القرم ودونيتسك ولوغانسك وزابوريجيا، وتحول الجيش الأوكراني إلى جيش صديق لروسيا، فضلاً عن منع انضمام كييف إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
لكن زيلينسكي وجّه أيضاً رسالة قوية للروس، ففي خطابه كان صارماً حيال "القتال حتى النصر"، وأن "الطغيان الروسي فقد السيطرة علينا"، وناقلاً المعركة إلى الكرملين بقوله: "إن الروس سيتحررون حين يهزمون الكرملين.
وشبّه زيلينسكي معارك جيشه في أوكرانيا، بمعارك الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وعلى رأسهم الأميركيون، في "معركة الثغرة"، التي وقعت في غابات الأردين، التي تتقاسمها بلجيكا وألمانيا ولوكمسبورغ، في شتاء 1944 ـ 1945.
واعتبر أن "الأميركيين الشجعان قاتلوا ضد الزعيم النازي أدولف هتلر، في عيد الميلاد لعام 1944، وأن الأوكرانيين الشجعان يفعلون الأمر نفسه في عيد الميلاد لعام 2022"، في تشبيه بين هتلر وبوتين، على الرغم من أن الروس يستخدمون مصطلح "النازية" لوصف كل من يقاومهم في أوكرانيا.
(العربي الجديد)