مع اقتراب العام الثاني من الحرب الروسية المفتوحة في أوكرانيا من نهايته، ثمّة مؤشرات تؤكد أن المجتمع الأوكراني، سكّاناً وقيادة، لم يعد يبدي الدرجة نفسها من التماسك والالتفاف حول القيادة السياسية، وسط انفجار خلافات وصراعات بين معسكري الرئيس فولوديمير زيلينسكي والقائد العام للقوات المسلحة الأوكرانية، فاليري زالوجني (50 عاماً)، ما يزيد من تفاؤل موسكو باستنزاف أوكرانيا.
وبعدما خرجت الخلافات بين الرئاسة الأوكرانية والقيادة العامة للجيش إلى العلن في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إثر إقرار زالوجني بوصول الحرب إلى مأزق في ضوء تعثر التقدم الأوكراني المضاد، وهو ما نفاه زيلينسكي، لم تكف الصحافة الأوكرانية عن تناول أنباء حول إمكانية إقالة قائد القوات المسلحة على خلفية صراحته المفرطة، بما في ذلك عند مخاطبته شركاء أوكرانيا الغربيين.
ومن مؤشرات تفاقم الخلاف بين زيلينسكي وزالوجني، ما ذكرته صحيفة "أوكراينسكايا برافدا"، نقلاً عن مصدر مطلع في وقت سابق من ديسمبر/كانون الأول الحالي، أن قائد القوات الأوكرانية شكى لوزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، من تدخل الرئاسة في عمله وعرقلته، فيما يبدو أن الصراعات الداخلية الأوكرانية تدور حول كيفية مواجهة روسيا عسكرياً، وليس مسألة القبول بالتفاوض معها من عدمه، في المرحلة الراهنة على الأقل.
شكى زالوجني لوزير الدفاع الأميركي لويد أوستين، تدخل زيلينسكي في عمله وعرقلته
وفي موازاة ذلك، بدأت استطلاعات الرأي الأوكرانية تظهر تفوق نسب التأييد لزالوجني والثقة فيه على زيلينسكي، كما بات الجنرال يحظى بدعم مزيد من الشخصيات السياسية الأوكرانية، بما فيها عمدة كييف، بطل العالم السابق في الملاكمة، فيتالي كليتشكو (52 عاماً)، الذي أصبح يعارض أداء زيلينسكي معارضة علنية.
وأشاد كليتشكو، في حديث صحافي مطلع الشهر الحالي، بصدق زالوجني في حديثه عن الوضع على الجبهة، داعياً إلى محاسبة زيلينسكي عن أخطائه بعد انتهاء الحرب.
ثمار تعثر الهجوم المضاد الأوكراني
يُرجع الصحافي والباحث في الشؤون الأوكرانية، قسطنطين سكوركين، تفاقم الصراعات الأوكرانية الداخلية إلى تعثر الهجوم الأوكراني المضاد الذي انطلق بداية الصيف الماضي، جازماً بأن الوضع الراهن يصب في مصلحة موسكو نظراً لقدرتها على استثماره.
ويقول سكوركين في حديث لـ"العربي الجديد": "تعود المواجهة الداخلية بالدرجة الأولى إلى تعثر التقدم الأوكراني المضاد، فبدأ البحث عن المسؤولين عن ذلك. وعلاوة على ذلك، ثمة جانب سياسي بحت للمواجهة، يعود إلى تراجع شعبية زيلينسكي على خلفية إطالة أمد الحرب، فيسعى خصومه لتقديم الجنرال زالوجني بديلاً له".
ولا يستبعد سكوركين احتمال أن ينخرط زالوجني في العمل السياسي بحال تصاعدت المواجهة، مضيفاً أنه "حتى الآن، لا يظهر زالوجني رغبة في العمل السياسي كونه عسكرياً محترفاً تتعلق طموحاته الرئيسية بالجيش. لكن ليس من المستبعد أن ترغمه حدة المواجهة على ذلك في حال أقاله زيلينسكي من منصب القائد العام، مثلاً".
ويعد زالوجني الذي قطع مسيرة عسكرية حافلة حتى وصوله إلى رتبة جنرال الجيش في العام الماضي، من القيادات العسكرية الأوكرانية الذين خاضوا النزاع في منطقة دونباس الواقعة شرق البلاد والموالية لروسيا منذ بدايته في عام 2014، وشارك في أشرس معاركه، بما فيها معارك ديبالتسيفو، حيث فُرض طوق على مجموعة القوات الأوكرانية في أغسطس/آب من ذلك العام، في ما عرف إعلامياً بـ"مِرجل ديبالتسيفو".
ويجزم سكوركين بأن الوضع الراهن لا يصب في مصلحة أوكرانيا، معتبراً أنه "في الوقت الذي تستمر فيه الصراعات بين السياسيين والجنرالات، تبقى روسيا عدواً مخيفاً على الجبهة يمكنه استثمار هذه الفوضى لصالحه".
الصراعات الداخلية الأوكرانية تدور حول كيفية مواجهة روسيا عسكرياً
ويستشهد الصحافي والباحث في الشؤون الأوكرانية بواقعة تاريخية لانقسام بين قادة جمهورية أوكرانيا الشعبية أثناء الحرب من أجل الاستقلال على أطلال الإمبراطورية الروسية في أعوام 1917 - 1920، أسفر عن تقاسم البلاد بين الاتحاد السوفييتي وبولندا.
وفي موسكو، يرى الخبير في "مكتب التحليل العسكري - السياسي"، الأستاذ المساعد في قسم التحليل السياسي في جامعة "بليخانوف" الاقتصادية الروسية، فاديم ماسليكوف، أن الصراع الداخلي وفشل الهجوم الأوكراني المضاد ناجمان عن إدارة المعارك العسكرية مع الاسترشاد بدوافع سياسية.
ويقول ماسليكوف في حديث لـ"العربي الجديد" إن "زيلينسكي يسترشد في أعماله بصور نمطية تتلخص إحداها في أنه لا يجوز إسناد مهام سياسية وهيكلية إلى العسكريين، وهذا أدى إلى قضاء العديد من الوحدات النخبوية الأوكرانية في معارك الشوارع في باخموت أشبه بمعركة ستالينغراد (الحرب العالمية الثانية) في الربيع الماضي، رغم أن زالوجني كان يسعى لثني زيلينسكي عن ذلك".
ويعتبر ماسليكوف أن زيلينسكي استرشد حينها بدوافع "الأنانية السياسية"، مضيفاً أن الرئيس الأوكراني "انطلق من موقف مفاده بأن أنظار العالم متجهة إليه، فيتعين عليه النصر بأي ثمن في باخموت وأرغم الجيش على القيام بخطوات غير احترافية من وجهة النظر العسكرية، أملاً منه في استمرار تدفقات الأموال والأسلحة الغربية إلى ما لا نهاية، دون إطلاع زالوجني عليها مع استشراء الفساد في توزيع الموارد".
تجدر الإشارة إلى أن المؤسسة العسكرية الأوكرانية شهدت سلسلة من فضائح تتعلق بمزاعم فساد مثل شراء بيض دجاج بأسعار مبالغ فيها، وتوفير وجبات سيئة الجودة للجنود، وسترات صيفية تركية للحملة العسكرية الشتوية، تسببت في نهاية المطاف بإقالة وزير الدفاع الأوكراني، أوليكسي ريزنيكوف، وتعيين رئيس صندوق ممتلكات الدولة الأوكرانية، المفاوض السابق مع روسيا، رستم أوميروف، خلفاً له في بداية سبتمبر/أيلول الماضي.
دعم غربي لخصوم زيلينسكي؟
يرى المعلق في موقع "أوكرانيا.رو" الروسي، عضو حركة "أوكرانيا الأخرى" الموالية لروسيا، فلاديمير سكاتشكو، أن الأصوات المناهضة لزيلينسكي في الداخل الأوكراني ما كان لها أن تتعالى بلا ضوء أخضر من الولايات المتحدة التي أصيبت بخيبة أمل نهائية من زيلينسكي، وسمحت لمنافسيه، وفي مقدمتهم كليتشكو، بتوجيه "ضربات" له.
ومن اللافت أن كليتشكو توجه إلى العمل السياسي بعد مسيرة رياضية حافلة كملاكم، حيث توج مراراً كبطل العالم بالملاكمة في فئة "الوزن الثقيل الفائق"، متولياً منصب مستشار الرئيس لشؤون الرياضة في أعقاب الثورة البرتقالية التي اندلعت في عام 2004. وبعد أحداث "الميدان الأوروبي" التي أطاحت بالرئيس الأوكراني الموالي لروسيا، فيكتور يانوكوفيتش، في بداية عام 2014، انتخب كليتشكو عمدة لكييف.
ويقول سكاتشكو في حديث لـ"العربي الجديد" إنه "حدث ما هو منطقي لكل العقلاء، ولكنه مفاجئ للقيادة الأوكرانية". ويلفت إلى أن "الولايات المتحدة شعرت بصفتها الراعي الرئيسي لكييف بخيبة أمل نهائية من زيلينسكي، فأعطت الضوء الأخضر إما لترويضه وإما لإبعاده". وبرأيه فإنه "يبدو أن القشة الأخيرة كانت الأنباء حول رفض زيلينسكي إجراء الانتخابات في أوكرانيا التي يطالب بها رعاته الغربيون، وإفراطه في انتقاد الغرب ورفض التفاوض مع روسيا".
فاديم ماسليكوف: زيلينسكي يسترشد في الحرب بدوافع الأنانية السياسية
ويرجح سكاتشكو أن يصبح كليتشكو وزالوجني المرشحين الرئيسيين للغرب لمنصب الرئيس الأوكراني، قائلاً: "على الأرجح، يعد الغرب مرشحين للانتخابات هما كليتشكو وزالوجني ليشكلا في المرحلة الأولى من الحملة قبضة موحدة ضد زيلينسكي".
في تلك الأثناء، تتبلور مؤشرات لدخول الخلاف بين القيادتين السياسية والعسكرية الأوكرانية مرحلة جديدة، بما في ذلك على مستوى الأقاليم، وسط انتشار أنباء عن توجيه الرئاسة الأوكرانية طلباً إلى قادة إدارات المقاطعات لوقف أي تواصل مع زالوجني.
وأرجع الصحافي الأوكراني، يوري نيكولوف، الهدف من القرار إلى السعي لعدم إثارة أي ضجة حول الجنرال، وهو ما ينظر إليه على أنه "تحرك فريق زيلينسكي نحو القضاء على المنافس المحتمل".
وكتب نيكولوف على صفحته على "فيسبوك" إن "بانكوفايا (الشارع الكائنة بها الرئاسة الأوكرانية في كييف) تُحدث انقسامات من الفراغ، لأن قاطنيها يخشون من فقدان الحصانة. إنهم يصارعون من أجل نجاة الحاشية". ويتساءل: "لماذا يحتاج زيلينسكي نفسه إلى ذلك؟ ثري وشاب وحر. بعد الحرب، يمكنه السفر إلى أي وجهة والعمل ما يريد. إذا قرر الناس المضي قدماً من دونك، فلماذا تتشنج؟".
في موازاة ذلك، يبدو أن الدول الغربية باتت هي الأخرى تدرك مخاطر الصراعات السياسية الداخلية الأوكرانية، إذ توقعت مجلة "إيكونوميست" البريطانية في نهاية نوفمبر الماضي، أن روسيا قد تحقق مكاسب من الانقسامات السياسية في أوكرانيا التي عادت إلى الواجهة بعد تراجع التهديد الوجودي للدولة في العام الماضي. ونقلت المجلة عن مسؤول حكومي أوكراني رفيع قوله إن الخلاف المكشوف في الحكومة الأوكرانية كان "متوقعاً" نتيجة لعملية التقدم المضاد التي "لم تسر وفقاً للخطة".