يصطدم طموح تركيا إلى توسيع دائرة نفوذها في الشمال السوري بالعديد من العقبات التي، كما يبدو، تحول حتى اللحظة دون توغل جديد تلوّح به أنقرة التي تملك أوراق قوة تريد استثمارها للحد مما تعتبره خطر "قوات سورية الديمقراطية" (قسد).
وتنظر أنقرة إلى هذه القوات على أنها امتداد لحزب "العمال الكردستاني" الذي، وفق الرؤية التركية، يريد خلق وقائع لإنشاء إقليم في منطقة شرقي الفرات له طابع كردي وهو ما يعد من الخطوط الحمراء لدى الأتراك.
ويبدو أن تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن توجّه بلاده لتنفيذ عملية عسكرية واسعة النطاق في شمال سورية، كانت رسالة واضحة لكل من الروس والأميركيين، بأن تركيا يمكن أن تذهب إلى أبعد مدى لتقويض أي مشاريع تهدد أمنها القومي.
ويظهر أن موسكو تتفهّم مخاوف أنقرة من وجود "قسد" بالقرب من الحدود الجنوبية التركية. وقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في تصريحات تلفزيونية، يوم السبت الماضي، إن تركيا "لا يمكنها أن تقف جانباً حيال ما يجري من تطورات في سورية".
ولكن من الواضح أن الروس غير موافقين على عملية عسكرية جديدة تعزز النفوذ التركي وفصائل المعارضة السورية في شرق الفرات، التي تضم أهم الثروات في سورية.
تفهّم روسي للمخاوف التركية
وبرزت أخيراً تصريحات لمسؤولين روس حول جهود ستقوم بها موسكو لثني أنقرة عن شن عملية عسكرية في شمال وشرق سورية. وأعربت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، عن أمل موسكو في أن تمتنع أنقرة عن الأعمال التي قد تؤدي إلى تدهور خطير للأوضاع في سورية.
وذكرت في بيان نشرته الخارجية الروسية: "تلقينا تقارير مثيرة للمخاوف عن مثل هذه العملية العسكرية"، مشيرة إلى أن بلادها "تتفهم مخاوف تركيا من تهديدات أمنها القومي من المناطق الحدودية". وأضافت: "نرى أنه لا يمكن ضمان الأمن على الحدود السورية التركية إلا بنشر قوات الأمن السورية".
في حين كشف نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف عن مساعٍ لوزير الخارجية سيرغي لافروف، في محاولة لإيقاف العملية التركية.
وقال بوغدانوف أمس الأول الخميس، إن "اتصالات سوف تجري مع الزملاء الأتراك، ما يستدعي الانتظار وعدم استباق الأحداث بتكهنات وتوقعات افتراضية".
وتحدث عن زيارة للافروف إلى أنقرة، سيرافقه فيها مع ممثلين عن وزارة الدفاع الروسية. وكان قد أُعلن في وقت سابق أن لافروف سيزور تركيا في 8 يونيو/حزيران الحالي.
الروس غير موافقين على عملية عسكرية جديدة تعزز النفوذ التركي
وأكد بوغدانوف أن روسيا "تؤيد حل جميع القضايا على طاولة المفاوضات، بينما هناك صيغ وآليات مناسبة للعمل، على رأسها صيغة أستانة، التي يشارك فيها السوريون والضامنون (روسيا وإيران وتركيا)".
واعتبر أن "جميع القضايا المتعلقة بضمان وقف إطلاق النار، وتسوية كافة المسائل يمكن أن تتم في هذا الإطار". وأشار كذلك إلى أنه "مع فهم ضرورة محاربة الإرهابيين، إلا أنه يتعين أن تكون هناك فكرة عامة عمن يمكن اعتباره إرهابياً، وأين يصنف إرهابياً". وختم بالقول: "لا بد من الانتظار".
وتأتي المساعي الروسية لإيقاف العملية من منطلق مصالحها في شمال وشرق سورية، وبالتالي مصالح حليفها نظام بشار الأسد في عموم البلاد، إذ تدفع موسكو باتجاه تفاهم بين "قسد" والنظام يعيد الأخير إلى المنطقة لتعزيز موقفه أمام المعارضة في أي تفاوض جدي للتوصل لحل سياسي في سورية.
وفي الشمال السوري، يرتبط الروس والأتراك باتفاقين معلنين. الأول وُقّع في أكتوبر/تشرين الأول 2019 حول شرقي الفرات، نصّ على أن الشرطة العسكرية الروسية ستُخرج عناصر "قسد" وأسلحتهم حتى مسافة 30 كيلومتراً من الحدود التركية السورية، شرقي الفرات.
ونصّ أيضاً على أن ينشر النظام قوات مهمتها حراسة الحدود في أقصى الشمال الشرقي من سورية، وتسيير دوريات مشتركة بعمق عشرة كيلومترات باستثناء مدينة القامشلي.
ومنح الاتفاق الجانب التركي سيطرة مطلقة على الشريط الحدودي ما بين مدينتي تل أبيض ورأس العين على طول نحو 100 كيلومتر وعمق نحو 30 كيلومتراً، وهي المنطقة التي سيطر عليها الجيش التركي خلال عملية "نبع السلام" في ذاك العام.
غير أن الاتفاق أبقى مصير مدينتي منبج وتل رفعت في ريف حلب غربي الفرات معلقاً، وهو ما عزز الاعتقاد بأن أنقرة ربما تريد ضمهما إلى منطقة نفوذها.
أما الاتفاق الثاني فمعروف باسم "اتفاق موسكو" الذي أبرم في مارس/آذار 2020 والذي أرسى دعائم وقف لإطلاق النار بين فصائل المعارضة السورية وقوات النظام في شمال غربي سورية، ولا يزال صامداً على الرغم من الخروقات التي يتعرض لها بين وقت وآخر من الجانب الروسي والنظام.
وتريد أنقرة صمود هذا الاتفاق لأنه يمنع قوات النظام من التقدم البري في عمق محافظة إدلب التي تضم نحو 4 ملايين مدني، وهو ما قد يخلق أزمات إنسانية تتحمل تركيا تبعاتها.
وتتردد أنقرة في شن عملية عسكرية في شرق الفرات من دون موافقة روسية كي لا تجد نفسها أمام تصعيد كبير في شمال غربي سورية ينسف الاستقرار "الهش" الموجود منذ عام 2020.
الوجود الروسي في الشمال السوري
وللروس حضور عسكري مهم في شرقي الفرات، خصوصاً في مدينة القامشلي الواقعة على الحدود السورية التركية مباشرة. ويتخذ الروس من مطار هذه المدينة قاعدة عسكرية لهم.
ولكن الغزو الروسي لأوكرانيا الذي بدأ في 24 فبراير/شباط الماضي، خلق وقائع سياسية جديدة، إذ برزت الحاجة الروسية لموقف تركي "إيجابي" حيال الصراع الذي يخوضه الروس مع الغرب.
ومن المتوقع أن يحضر ملف الشمال السوري بقوة منتصف الشهر المقبل في العاصمة الكازاخية نور سلطان، حيث من المقرر عقد جولة جديدة من المفاوضات وفق صيغة أستانة بين الثلاثي الضامن في سورية (تركيا وروسيا وإيران).
الغزو الروسي لأوكرانيا أكسب الأتراك ورقة قوة جديدة
والغزو الروسي لأوكرانيا أكسب الأتراك ورقة قوة جديدة، حيث برزت حاجة الغرب لهم من أجل توسيع حلف شمال الأطلسي من خلال ضم فنلندا والسويد.
ومن المرجح أن تقايض أنقرة موقفها حيال هذا الأمر بضوء أخضر لعملية عسكرية جديدة ضد "قسد"، التي تتلقى دعماً كبيراً من الغرب خصوصاً من الولايات المتحدة وفرنسا.
وفي هذا الصدد، رأى الباحث في مركز الحوار السوري، أحمد قربي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "لدى أنقرة الكثير من أوراق القوة في شمال سورية، لعل أبرزها التأييد الداخلي في تركيا لأي عمل عسكري يدرأ الخطر عن الأمن القومي ويسهّل عودة اللاجئين السوريين في تركيا إلى بلادهم".
وتابع: نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا هناك محاولات من روسيا والولايات المتحدة لاستمالة تركيا التي تحاول تحقيق توازن في علاقتها مع الطرفين.
وأشار إلى "أن لدى تركيا حليفاً محلياً في سورية وهو الجيش الوطني المعارض، وهو ما يسهّل مهمة الأتراك في أي عمل عسكري"، مضيفاً: "العامل الجغرافي أيضاً يصب في صالح الأتراك، إضافة إلى التفوق العسكري التركي".
في المقابل، رأى قربي أن هناك معوقات أمام الحكومة التركية للقيام بعمل عسكري في شمال سورية، "أبرزها الأوضاع الاقتصادية والتضخم الكبير في تركيا"، مضيفاً: "هناك نقطة ضعف كبيرة، وهي النموذج المقدم خصوصاً في رأس العين الخاضعة للنفوذ التركي. ما يجري هناك من اقتتال لا يساعد تركيا في إقناع السوريين بأي تدخل جديد في ظل الحديث عن محاولات التغيير الديمغرافي".
وأعرب عن اعتقاده بأن أي عملية عسكرية "مرتبطة بالتوافق الإقليمي والدولي، أكثر من عوامل القوة والضعف سواء لدى الأتراك أو قسد".