بعدما ظلّ الجيش الروسي يوحي للعالم بحجم قوة خارقة لديه، عزّزتها حروبه في جورجيا وشبه جزيرة القرم وسورية، يجد نفسه اليوم بعد انقضاء أكثر من 200 يوم على التدخل العسكري بأوكرانيا في 24 فبراير/شباط الماضي، أمام واقع مغاير، بعد التراجع الدراماتيكي الذي سجّلته القوات الروسية جرّاء الضربات الموجعة للهجوم الأوكراني المضاد، المدعوم بالسلاح والتدريب الأميركي.
ومع تسارع التطورات على الأرض، منذ أكثر من أسبوع، وتحقيق الجيش الأوكراني مكاسب مهمة لاستعادة مناطق احتلّتها القوات الروسية في الشرق والجنوب، يُطبق الصمت الروسي الرسمي شبه الكامل، على أنفاس المقاتلين الموالين لروسيا في منطقتي لوغانسك ودونيتسك، في شرق أوكرانيا، بانتظار الخطة "باء" التي ستعتمدها وزارة الدفاع الروسية، لاحتواء الهجوم المضاد الأوكراني.
لكن "قوميين" روساً كثراً، وانفصاليين، وصقور الحرب في الدائرة المحيطة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لم يتوقفوا منذ "الأسبوع الأسود" الذي شهد التراجع الروسي الكبير، عن طرح أسئلة حول الخطة الأساسية الأولى، وما إذا كانت فعلاً قد وُضعت أخذاً بالاعتبار قوة المقاتلين الأوكرانيين، وحجم التحشيد الغربي لدعم ظهورهم.
لكن علامات الاستفهام الأكثر إلحاحاً تحوم حول الجيش الروسي نفسه، وتركيبته، والثغرات التي أظهرها منذ الأيام الأولى للحرب، في فبراير/شباط الماضي، فيما تصل التكهنات لدى البعض، إلى حدّ التنبؤ بعملية "توريط" لبوتين، من قلب النظام، لإطاحته من الحكم.
استفتاء تقرير المصير في لوغانسك سيجري بين 23 و27 سبتمبر
الانفصاليون ينتظرون الخطة البديلة
ولا يزال الصمت سائداً بشكل عام في الكرملين، حول طبيعة المرحلة المقبلة، أو الخطة التالية، لما بعد الهجوم المضاد الأوكراني، الذي يتواصل وإن خفّت وتيرته خلال الأيام الماضية. ولا تتحدث موسكو بعد عن تعبئة عامة في الجيش، ولا تزال الحرب التي توشك على اختتام شهرها السابع، بالنسبة إليها "عملية عسكرية خاصة"، كان مقرّراً لها أن تكون بسرعة البرق، لـ"تخليص" كييف من يد "النازيين". من جهته، يعرب الغرب عن تفاؤل حذر بالتطورات الميدانية، ويرى للمرة الأولى مؤشرات جدّية، ليس على تجميع كييف أوراق قوة للتفاوض في ما بعد، بل لإمكانية خسارة روسيا للحرب كلّها.
وكان يمكن تفسير التراجع الأول للقوات الروسية، مع بداية الحرب التي انطلقت في 24 فبراير/شباط الماضي، حول كييف وتشرنيغوف، على بعد 90 ميلاَ شمال العاصمة الأوكرانية، بأنه تراجع تكتيكي، لاسيما مع المكاسب التي حقّقتها القوات الروسية لاحقاً في الشرق والجنوب. لكن تقهقر الجيش الروسي في منطقة خاركيف منذ العاشر من سبتمبر/أيلول الحالي، ومواصلة القوات الأوكرانية استعادة أراض احتلها الروس في عمليتهم الأخيرة، منذ ذلك التاريخ، في الشرق والجنوب، يؤكد وجود خللٍ ما، يلقي فيه الانفصاليون الأوكرانيون الموالون لروسيا، بالمسؤولية على الجيش الروسي.
ويأتي ذلك، فيما تنتعش الآمال الغربية بإمكانية الانتصار، وتمنح دفعاً لكييف للمطالبة بالمزيد من الدعم، وبدعم أكثر تقدماً، فيما تثبت لـ"تحالف" الدول الذي يسندها، أنها جديرة بإدارة حرب الوكالة بالنيابة عنه مع الروس.
ويضع التراجع الروسي، أيضاً، الغرب في موقع الاستنفار، إذ قال رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، الجنرال مارك ميلي، الأحد الماضي، من بولندا، إنه من غير الواضح بعد كيف ستتصرف القوات الروسية على الأرض، بعد التراجع الأخير، داعياً إلى الحذر، وسط خشية من إمكانية لجوء الروس إلى استخدام السلاح النووي التكتيكي أو أسلحة كيميائية.
ويبدو أن موسكو ستتجه عاجلاً أم آجلاً إلى إعلان التعبئة العامة، وسط بروز تطورات تشي أيضاً، بإمكانية زجّ مقاتلين على نطاق واسع، من شركة مرتزقة "فاغنر"، وسط حديث عن "تعبئة" للمحكومين بالسجن للانضمام إلى الحرب، على أن تجندهم الشركة الشهيرة للمرتزقة الروس. وأقرّ البرلمان الروسي، أمس الثلاثاء، قانوناً يشدّد العقوبات على الجرائم إذا تمّ إعلان التعبئة العسكرية العامة.
"استفتاءات تقرير المصير" تتسارع
في غضون ذلك، وبعدما كان يعتقد أن إجراء استفتاء للانضمام إلى روسيا، في مناطق الانفصاليين في إقليمي دونيتسك ولوغانسك الأوكرانيين (اعترفت روسيا بـ"استقلالهما" قبل الحرب)، قد يؤجل، تتسارع الخطى لإجراء مثل هذا الاستفتاء، بـ"إلحاح" من قادة الانفصاليين، الذين رفعوا الصوت منذ تقدم القوات الأوكرانية، في 10 سبتمبر، لانتقاد ما وصفوه بـ"نظام استجابة غير فعّال" من قبل القوات الروسية، بعدما كانوا أطلعوها على علامات للتحضير لهجوم مضاد في خاركيف.
وحتى الرئيس الشيشاني رمضان قاديروف، الموالي للكرملين، سمح لنفسه، في 11 سبتمبر الحالي، بتوجيه انتقاد "نادر" لخسارة روسيا مناطق استراتيجية في الشرق، بعد خسارتها إيزيوم في خاركيف، مقرّاً بأن خطة الحرب لا تسير على ما يرام. وحذّر من أنه إذا لم تجر تعديلات سريعة على خطط العملية الروسية، فإنه سيضطر إلى "التوجه لزيارة قيادة البلاد، لكي أشرح لها الأوضاع على الأرض".
وعلى منواله، سار العديد من الانفصاليين، الذين انتقدوا سير العمليات، في منشورات وتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، مع دعوات متسارعة لإعلان الانضمام إلى الأراضي الروسية، كما دعا صقور النظام الروسي، إلى استخدام الأسلحة الفتاكة، وتوجيه ضربات قوية، لمناطق تواجد الجيش الأوكراني. وعلى سبيل المثال، قال إيغور غركين، وهو وزير دفاع سابق في "جمهورية دونيتسك" الانفصالية، إن "جنرالاتنا الكبار اعتقدوا أن العدو سينتظر بتواضع متى وأين سنوجه ضربتنا المقبلة"، معتبراً أن الجيش الروسي راهن خطأ طوال هذه المدة على "الدفاع السلبي" للقوات الأوكرانية، أو بأقصى الأحوال، على "هجوم كبير لكن على جبهة واحدة". أما صقور النظام الروسي، فقد تحدث بعضهم عن "خيانة".
واسترسل مسؤول أميركي رفيع في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، أول من أمس الإثنين، في شرح حجم الهزيمة الروسية، معتبراً أن الرئيس الروسي فشل حتى الآن في تحقيق أي من أهدافه الاستراتيجية التي كانت لديه حين شنّ هجومه الوحشي على أوكرانيا. كما فشل بتعهده في الأول من سبتمبر الحالي، بوضع كل منطقة دونيتسك تحت السيطرة الروسية بحلول 15 سبتمبر. ولفت المسؤول إلى أن الجيش الروسي يجد صعوبة في تجنيد مقاتلين للحرب، وأن أداءه الضعيف جداً لاسيما في خاركيف، دفع متطوعين روساً في الجيش لرفض القتال. وأشار المسؤول في البنتاغون، إلى فيديو يتمّ تداوله على وسائل التواصل، يقوم فيه ممثل عن شركة مرتزقة "فاغنر"، بإقناع سجناء روس بالانضمام للحرب، في ما قال عنه المسؤول الأميركي إنه "محاولة لتجنيد 1500 محكوم بالسجن، لكن الكثير منهم يرفضون".
وفي تصريح يعد أول ردّ روسي لافت على تطورات الحرب، رأى نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، دميتري مدفيديف، أمس الثلاثاء، أن إجراء الاستفتاءات في منطقة دونباس شرقي أوكرانيا لانضمامها إلى روسيا "ضروري لاستعادة العدالة التاريخية"، بالتزامن مع بدء مقاطعات دونيتسك ولوغانسك وخيرسون الإجراءات التمهيدية لإجراء استفتاءات "تقرير المصير".
جاء ذلك، فيما أعلن الانفصاليون في مقاطعة لوغانسك أنهم سيجرون استفتاءهم للانضمام إلى روسيا، بين 23 و27 سبتمبر/أيلول الحالي. كما أعلنت السلطات المحلية الموالية لروسيا في مقاطعة خيرسون أمس، اتخاذها قرار إجراء استفتاء الانضمام إلى روسيا، دون ذكر موعده، وتحدثت عن ضرورة تشكيل كتائب متطوعين في المقاطعة للمشاركة في العملية العسكرية.
أقرّ بوتين بوجود ثغرات في قطاع التصنيع العسكري الروسي
وكانت الغرفتان الاجتماعيتان في "جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين" المعلنتين من طرف واحد، قد طلبتا من رئيسي الإقليمين، دينيس بوشيلين وليونيد باسيتشنيك، أول من أمس، إجراء التصويت على الانضمام إلى روسيا فوراً، وسبق ذلك إعلان سلطات مقاطعتي خيرسون وزابوروجيا تشكيل لجان انتخابية لإجراء التصويت على الانضمام إلى روسيا.
ورأت صحيفة "واشنطن بوست"، في تقرير لها نشر أول من أمس، إن بوتين يواجه "عراقيل لملء المراكز العسكرية الشاغرة أو تجديد العتاد العسكري إلى حدّ يمكن معه استعادة المبادرة على الأرض". واعتبرت أن ذلك "يشكل فرصة للقوات الأوكرانية، التي على الرغم من خساراتها، إلا أنها تأمل بتحقيق مكاسب إضافية على الأرض قبل حلول الشتاء". ولفتت إلى أن مكاسب جديدة للقوات الأوكرانية خصوصاً حول خيرسون في الجنوب، ستوجه ضربة جديدة لمعنويات الجيش الروسي وستزيد الضغط على بوتين، الذي يواجه دعوات من المتشددين في دائرته لإعلان التعبئة العامة والتي من شأنها "تسميم نظامه".
ووضعت كلّ من ليانا فيكس، ومايكال كيماج، في مجلة "فورين أفيرز"، تصورات لما يمكن أن تكون عليه الخطوة التالية لبوتين، الذي بقي حتى بداية الشهر الحالي، يمسك بطابتين في الهواء، خلال الحرب: الأولى، هي مواصلة حرب طويلة الأمد بـ"جيش طُوّر لمرحلة سلام"، بعدما أخفق في إدراك حجم قوة الجيش الأوكراني، واعتبر أن حرباً طويلة تخدم روسيا أكثر. أما الطابة الثانية، فهي ضمان بقاء المجتمع الروسي بمنأى عن الحرب، وضمان استمرار حصول بوتين على دعم شعبي في حربه، طالما أن الروس لا يواجهون مباشرة تكاليفها، وهي حسابات أطاحتها مكاسب الجيش الأوكراني حول خاركيف.
ورأى الكاتبان، أن بوتين يواجه حالياً مجموعة من الخيارات القاسية. ومنها، أنه قد يبقي على التزام الجيش الروسي بحدوده الدنيا، وعلى عدد القوات الروسية الحالي، أو بإمكانه إعلان التعبئة العامة. وبرأي "فورين أفيرز"، فإن الخيارين يشكلّان معضلة للرئيس الروسي، وخطراً على شرعيته. ومن شأن الخيار الأول، أولاً، إغضاب "القوميين"، الذين وُعدوا بحرب خاطفة، تحولت إلى كابوس. أما الخيار الثاني، أي التعبئة العامة، فإنها ستعدّل بشكل راديكالي الإدارة الحذرة حتى الآن للكرملين للحرب، في الداخل الروسي.
وفي دلالة على مدى القلق الذي تواجهه وزارة الدفاع الروسية، لاسيما من الأسلحة الصاروخية بعيدة المدى التي يمكن للقوات الأوكرانية أن تهدد بها شبه جزيرة القرم، فقد كشف الجيش البريطاني، أمس، في تحديثاته اليومية لمجريات الحرب، أن أسطول البحر الأسود الروسي نقل بعض غواصاته من ميناء سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم إلى نوفوروسيسك في كراسنودور كراي، بجنوب روسيا.
وذكرت وزارة الدفاع البريطانية، على "تويتر"، أن عملية النقل تعود على الأرجح إلى التغيير في مستوى التهديد الأمني المحلي في الآونة الأخيرة، في مواجهة زيادة القدرة الهجومية بعيدة المدى لأوكرانيا. وأضافت أنه "خلال الشهرين الماضيين تعرض مقر الأسطول وقاعدة الطيران البحري الرئيسية التابعة له لهجمات".
وأقرّ الرئيس الروسي، أمس، بوجود ثغرات في قطاع التصنيع العسكري الروسي، لافتاً إلى "الحاجة لزيادة قدرات الإنتاج في عدد من شركات التصنيع العسكري والتي يحتاج بعضها إلى تحديث". وقال بوتين إنه طلب من قطاع التصنيع الحربي الروسي دراسة أسلحة حلف شمال الأطلسي التي استحوذت عليها القوات الروسية في أوكرانيا. لكنه لفت إلى أن المعدات العسكرية الروسية تتصدى للأسلحة الغربية وقد أثبتت فعاليتها. وكان بوتين قد وقّع الشهر الماضي، مرسوماً، لزيادة عدد القوات الروسية، من 1.9 مليون عسكري، إلى 2.04 مليون.
(العربي الجديد، رويترز، فرانس برس)