استمع إلى الملخص
- **تعديل العقيدة النووية الروسية**: دعوات لتعديل العقيدة النووية للسماح بضربة استباقية لزيادة فاعليتها كوسيلة ردع ضد التهديدات الغربية.
- **التأثير الاقتصادي والاجتماعي**: زيادة تعداد الجيش تخلق وظائف وتشغل المصانع الحربية، مما يعزز الاقتصاد الروسي في ظل التوترات الجيوسياسية.
مع إطالة أمد الحرب الروسية المفتوحة على أوكرانيا واستمرار الغرب في دعمه لكييف من دون الاكتراث لـ"الخطوط الحمر" التي يرسمها الكرملين، تتبلور مؤشرات لعزم روسيا على المضي قدماً على طريق التأهب لمواجهة طويلة الأجل، بما قد لا يقتصر على الأزمة الراهنة. ولعل الزيادة الجديدة في تعداد الجيش الروسي تأتي في طليعة هذه الإجراءات. يتزامن ذلك مع عودة النقاشات حول تعديل العقيدة النووية الروسية بعدما أدت كثرة تلويح المسؤولين الروس بالأسلحة النووية إلى تراجع فاعليته كوسيلة ردع، ما يكبّل أيدي موسكو، وفق قطاع من المنظرين والمحللين السياسيين. وفي إجراء هو الثالث من نوعه منذ بدء حرب أوكرانيا منذ العام 2022، وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الثلاثاء الماضي، على مرسوم زيادة عدد أفراد القوات المسلحة الروسية من 1.32 مليون إلى 1.5 مليون فرد، ما يعني أن إجمالي عدد أفراد الجيش الروسي ازداد بمقدار نحو نصف مليون فرد في غضون عامين ونيف.
وفي اجتماع تناول قضايا تنمية القوات المسلحة، عُقد أول من أمس الأربعاء، أوضح بوتين أن زيادة عدد القوات تعود إلى دوافع تلبية احتياجات دائرتي موسكو ولينينغراد (التسمية السوفييتية للعاصمة الشمالية سانت بطرسبرغ) العسكريتين. يُذكر أن بوتين وقّع في أغسطس/ آب 2022، مرسوماً قضى حينها بزيادة العدد الاعتيادي لأفراد الجيش من نحو مليون إلى أكثر من 1.15 مليون فرد، وهو ما شكّل أول زيادة من نوعها منذ الزيادة الطفيفة في عام 2017، وأول زيادة هامة منذ نهاية عام 2008. وفي نهاية العام الماضي، وقّع بوتين على مرسوم زيادة عدد أفراد الجيش الروسي إلى أكثر من 1.3 مليون. وكان المتحدث الرسمي باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف قد أوضح هو الآخر أن زيادة عدد أفراد الجيش الروسي تعود إلى تنامي التهديدات على امتداد الحدود الروسية، مشيراً إلى ما اعتبره الوضعين العدائي على حدود روسيا الغربية وغير المستقر على الحدود الشرقية. وفي هذا الصدد، رأى الخبير العسكري الروسي أليكسي ليونكوف أن زيادة عدد أفراد الجيش تأتي رداً على التهديدات المتعلقة بتزايد التحديات السياسية الخارجية التي تواجهها روسيا، مثل انضمام فنلندا والسويد إلى حلف ناتو وما يترتب عليه من تغيير جذري لدرجة خطورة التهديدات على الحدود الشمالية الروسية.
وقال ليونكوف في حديث لصحيفة فزغلياد الإلكترونية الموالية للكرملين: "يجري الحديث عن زيادة هامة للغاية لتعداد القوات المسلحة الروسية. يمكن تشكيل 20 فرقة من 180 ألف فرد. هذه ثاني زيادة هامة من نوعها لعدد أفراد الجيش منذ ديسمبر/ كانون الأول 2023. بذلك يمكن الحديث عن الزيادة المطردة والمخطط لها للقدرات العسكرية للبلاد". وأضاف أن "مثل هذه القرارات الرئاسية سببها تنامي التهديدات السياسية الخارجية. أذكّركم بأن العضوين الجديدين، فنلندا والسويد، انضما إلى (حلف شمال الأطلسي) ناتو حديثاً. يخلق هذا التغيير تحديات هامة لحدود روسيا الشمالية لا يمكننا ألا نرد عليها". وتابع قائلاً: "إذا تحدثنا عن تشكيلة القوات المستقبلية، فيتطلب ذلك بالدرجة الأولى تعزيز حضور تشكيلات المدفعية والأسطول البحري الحربي، كما لا يجوز إغفال إنماء نظم الدفاع الجوي".
من جهة أخرى، كان سيرغي كاراغانوف، المحلل السياسي والمنظر الروسي المقرب من الكرملين والرئيس الشرفي لمجلس السياسة الخارجية والدفاعية، قد جدد، الأسبوع الماضي، مطالبته بتعديل العقيدة النووية الروسية التي يقول مسؤولون روس إن العمل على تحديثها دخل مرحلة متقدمة. واعتبر كاراغانوف أن الوثيقة بنسختها الحالية (المعروفة باسم المبادئ الأساسية لسياسة الدولة بشأن الردع النووي)، لا تؤدي مهام الردع، داعياً للإعلان عن "حقنا في الرد بضربة نووية على أي ضربات مكثفة على أراضينا وأي احتلال لها"، في إشارة إلى حرب أوكرانيا والتوغل الأوكراني في مقاطعة كورسك الحدودية الروسية. إلا أن بيسكوف أكد أخيراً أن بوتين يتحرّى "الدقة" في مسألة تقييم خيارات الرد على الضربات بالأسلحة الغربية في العمق الروسي، داعياً إلى الاكتفاء في المرحلة الراهنة بمناقشة مسألة استخدام السلاح النووي على مستوى الخبراء. وتحدد وثيقة "أساسيات سياسة الدولة لروسيا الاتحادية في مجال الردع النووي" (التسمية الرسمية للعقيدة النووية)، بنسختها الحالية المؤرخة بتاريخ العام 2020، أربعة شروط لاستخدام السلاح النووي. الشرط الأول، ورود معلومات موثوق بها بانطلاق صواريخ باليستية لمهاجمة أراضي روسيا أو حلفائها، والشرط الثاني هو استخدام العدو سلاحاً نووياً أو غيره من أسلحة الدمار الشامل بحق روسيا أو حلفائها. والشرط الثالث، هو مهاجمة العدو منشآت حكومية أو عسكرية روسية حيوية بهدف تعطيل رد فعل القوات النووية الروسية. أما الشرط الرابع فهو تعرّض روسيا لهجوم بالأسلحة التقليدية يهدّد وجود الدولة بحد ذاتها.
قسطنطين بلوخين: العقيدة النووية الروسية تحتاج هي الأخرى إلى تعديل
تجاوز حرب أوكرانيا
من جهته، رأى الخبير في مركز بحوث قضايا الأمن التابع لأكاديمية العلوم الروسية قسطنطين بلوخين أن الزيادة الجديدة في تعداد الجيش الروسي تعكس تهيئة روسيا لمواجهة طويلة الأجل مع الغرب، من دون خوض حروب كبرى مثل حرب أوكرانيا الحالية، متوقعاً قرب إتمام تعديل العقيدة النووية الروسية بما يزيد فاعليتها كوسيلة ردع. وقال بلوخين في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "مثل هذه الزيادة الهامة لعدد أفراد القوات تندرج أولاً ضمن التهيئة للمواجهة طويلة الأجل مع الغرب في ظروف الحرب الباردة الجديدة". وأضاف أنه "ثانياً، قبل بدء العملية العسكرية في أوكرانيا، كان الجنرالات الروس يتبنون رؤية مفادها أن روسيا لا تحتاج إلى جيش كبير، وإنما إلى قوات مسلحة قليلة العدد عالية الكفاءة قادرة على إجراء عمليات خاطفة من دون خوض حروب كبرى على غرار ما يجري في حرب أوكرانيا الحالية"، لافتاً إلى أن "هذه المقاربة منيت بالفشل، ويجري التخلي عن هذا النموذج لبناء الجيش". وجزم بلوخين أن العقيدة النووية الروسية تحتاج هي الأخرى إلى تعديل، موضحاً أن "العقيدة النووية بنسختها الحالية لا تنص على إمكانية شن روسيا ضربة نووية استباقية على عكس الولايات المتحدة التي تترك لنفسها مثل هذه الفرصة، ما يعني أن استراتيجيتنا تقتصر على إبداء ردود فعل وأعمال جوابية ودفاعية متأخرة". وأضاف أنه "حتى لو لم تشن روسيا ضربات استباقية، إلا أن إمكانيتها في حد ذاتها ستصبح عامل ردع للغرب في الحرب الإعلامية والنفسية التي تخسرها روسيا حالياً".
أندريه كوشكين: زيادة تعداد الجيش تؤدي إلى خلق وظائف ذات أجور مرتفعة وتشغيل المصانع الحربية
التوتر على الحدود الروسية
من جهته، اعتبر رئيس قسم العلوم السياسية والاجتماعية في جامعة بليخانوف الاقتصادية في موسكو أندريه كوشكين أن زيادة تعداد الجيش الروسي تواكب، إلى جانب حرب أوكرانيا المتواصة، تنامي التوتر على الحدود الروسية، داعياً إلى معاملة واشنطن بالمثل في مسألة التخلي عن التعهد بعدم المبادرة بشن ضربة نووية. وقال كوشكين، الذي خدم لثلاثة عقود في الجيش السوفييتي والروسي ويحمل رتبة عقيد احتياط، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "روسيا تتخذ قراراتها انطلاقاً من متابعتها عن كثب للوضع الجيوسياسي العالمي ومساعي الولايات المتحدة وحلفائها لاستفزازها واستنزافها بأيادي القوات المسلحة الأوكرانية، وجر فنلندا ذات الحدود الممتدة مع روسيا إلى صف حلف ناتو بعد أن كانت دولة محايدة". وقلل من أهمية المزاعم بشأن تمكن الغرب من استنزاف روسيا اقتصادياً عبر جرها إلى سباق التسلح، مضيفاً أن "زيادة تعداد الجيش بالعسكريين المتعاقدين المحترفين تؤدي إلى خلق وظائف ذات أجور مرتفعة وتشغيل المصانع الحربية وقطاع إنشاء المساكن للعسكريين، وكل هذه الأموال تعود في نهاية المطاف إلى عجلة الاقتصاد الروسي بشقيه الحربي والمدني". وحول رؤيته لكيفية تعديل العقيدة النووية الروسية، قال كوشكين إنه "لا بديل عن إدخال تعديلات على العقيدة النووية، لأن روسيا تحرم نفسها حالياً من إمكانية شن ضربة استباقية كأداة للضغط النفسي، بينما تحلل الولايات المتحدة لنفسها ذلك، وهو ما يشبه وضع نزال بين ملاكمين كبل أحدهما يداً واحدة بنفسه". وتساءل: "لماذا يحق لواشنطن ما لا يحق لغيرها؟".