روث بادر غينسبورغ: رحيل أشهر قاضية أميركية يشعل انتخابات الرئاسة

20 سبتمبر 2020
غينسبورغ في جامعة جورجتاون مطلع العام الحالي (Getty)
+ الخط -

لم تكن عميدة قضاة المحكمة العليا الأميركية الراحلة روث بادر غينسبورغ، سيدة عادية في الولايات المتحدة، بل رائدة في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية في العديد من الملفات، بدءاً بالتمييز الجندري بين الجنسين، وصولاً إلى تأمين الحقوق للنساء والأقليات والمهمشين. وفي مسيرتها الطويلة في القضاء، كسرت محرّمات عدة، ورافقت بما يُمكن تسميته "مرحلة انتقالية أميركية"، بدأت في ستينيات القرن الماضي ولا تزال مستمرة إلى اليوم، لجهة زيادة الوعي الشعبي بالحقوق البديهية. قد تكون غينسبورغ من الرعيل القديم في انضباطها اليومي واجتهادها القضائي، إلا أنها تحوّلت إلى أيقونة تقدمية للنساء في أميركا، ومضرب مثل في الصعود إلى القمة، رغم تعدّد محاربيها من الرجعيين. تأثرت بوالدتها التي ساندتها في تحوّلاتها، وقورنت بأول قاضٍ من أصول أفريقية في المحكمة، ثارغود مارشال. انضوت في صفوف "الاتحاد الأميركي للحريات المدنية"، وساهمت في تطويره جندرياً. تلك المسيرة الطويلة، اصطدمت في نهاية المطاف بالرئيس دونالد ترامب، الذي سعى في الفترة الأخيرة إلى إحكام قبضته على المحكمة العليا، تحديداً مع تعيينه قضاة محافظين فيها. ومن شأن وفاتها أن تشعل معركة سياسية قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في 3 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.

وصية غينسبورغ: أتمنى عدم تبديلي طالما لم يُنتخب رئيس جديد
 

وتوفيت غينسبورغ مساء أول من أمس الجمعة، عن عمر يناهز 87 عاماً، بعد معركة مع سرطان البنكرياس، حسب ما أعلنت المحكمة العليا في بيان. وكانت القاضية التي كافحت من أجل حقوق النساء والأقليات ومن أجل البيئة، تعاني من مشكلات صحية منذ بضع سنوات ونقلت إلى المستشفى مرتين خلال الصيف. وتابع الديمقراطيون وضعها الصحي، خشية مسارعة ترامب إلى تعيين خلف لها قبل الانتخابات. ومع علمه بنبأ وفاتها من صحافيين في ختام مهرجان انتخابي عقده في ولاية مينيسوتا، اكتفى ترامب بالإشادة بـ"حياة استثنائية"، من دون الإفصاح عن نواياه بشأن مقعدها. وبعد ساعات وصفها بأنها "عملاقة القانون". أما خصمه الديمقراطي جو بايدن، فأشاد بأشهر القضاة الأميركيين وقال: "روث بادر غينسبورغ كافحت من أجلنا جميعاً وكانت تحظى بكثير من المحبة"، داعياً إلى عدم التسرع لتعيين خلف لها. وقال في تصريح صحافي: "يجب على الناخبين اختيار الرئيس وعلى الرئيس اختيار قاض لينظر فيه مجلس الشيوخ". وحيا "بطلة أميركية" و"صوتاً لا يكل في السعي إلى المثال الأعلى الأميركي: تساوي الجميع أمام القانون". وكتب الرئيس السابق باراك أوباما على "تويتر": روث بادر غينسبورغ "قاومت حتى النهاية بإيمان ثابت في ديمقراطيتنا ومثلها". وذكرت إذاعة "إن بي آر" أن القاضية أفصحت عن وصيتها الأخيرة لحفيدتها كلارا سبيرا فقالت لها قبل وفاتها: "أعز أمنية لديّ هي عدم تبديلي طالما لم يؤد رئيس جديد اليمين الدستورية".

وكان ترامب قد أعلن في أغسطس/آب الماضي، أنه لن يتردد في تعيين قاض في المحكمة العليا حتى قبل وقت قصير من الانتخابات، وقال متحدثاً لإذاعة محافظة "سأتحرك سريعاً". وحرصا منه على حشد تأييد اليمين المتدين، وضع بعد ذلك قائمة أولية بمرشحين جميعهم قضاة محافظون معارضون بمعظمهم للإجهاض ومؤيدون لحمل السلاح. وبموجب الدستور، يختار الرئيس مرشحه ويطرحه على مجلس الشيوخ للمصادقة عليه. وأبلغ رئيس مجلس الشيوخ الجمهوري ميتش ماكونيل أنه سيجري عملية تصويت، على الرغم من أنه رفض عام 2016 تنظيم جلسة استماع إلى قاض اختاره أوباما لهذا المنصب بحجة أنه كان عاماً انتخابياً. وإن كان الجمهوريون يملكون غالبية 53 مقعداً من أصل مائة في مجلس الشيوخ، فإن بعض الجمهوريين المعتدلين الذين يواجهون حملات صعبة لإعادة انتخابهم قد لا يشاركون في التصويت، ومن المتوقع أن يوظف المعسكران وسائل كبرى لمحاولة إقناعهم. وتوقع أستاذ القانون كارل توبياس "معركة سياسية ضارية" لأنه إذا تمكن ترامب من تعيين قاض جديد "فستصبح المحكمة العليا الأكثر انحيازاً للمحافظين منذ قرن". وتضم المحكمة الحالية خمسة قضاة محافظين من أصل تسعة، وهم لا يتخذون موقفاً موحّداً في كل القضايا، بل غالباً ما يصوّت أحدهم مع زملائه التقدميين. وقد تغير وفاة غينسبورغ بشدة من التوازن الأيديولوجي داخل المحكمة التي يحظى المحافظون بالأغلبية فيها بواقع خمسة مقابل أربعة، إذ من الممكن تعيين شخصية تجعل المحكمة العليا تميل أكثر ناحية اليمين. وعين ترامب اثنين من المحافظين بالفعل في المحكمة العليا التي يحتفظ المعينون فيها بمناصبهم مدى الحياة. وتملك المحكمة العليا الأميركية كلمة الفصل في كل القضايا الاجتماعية الكبرى التي ينقسم عليها الأميركيون مثل الإجهاض وحق الأقليات وحيازة السلاح وعقوبة الإعدام وغيرها.

قورنت بثارغود مارشال أول قاض من أصول أفريقية بالمحكمة العليا

ومع وفاتها، تجمّع مئات الأشخاص في تحرك عفوي مساء الجمعة، أمام مبنى المحكمة العليا تكريماً لها وتم تنكيس أعلام الكونغرس والبيت الأبيض. وعلى الرغم من مواقفها التقدمية، صدرت إشادات بها عن الجمهوريين والديمقراطيين على السواء فور إعلان نبأ وفاتها. وقالت زعيمة الديمقراطيين في الكونغرس نانسي بيلوسي إن "كل امرأة، كل فتاة، كل عائلة في أميركا استفادت من ذكائها اللامع"، فيما أعلنت أصغر أعضاء مجلس النواب، ممثلة الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي ألكسندريا أوكازيو كورتيز "خسرنا عملاقة في تاريخ البلاد". وكانت النبرة مماثلة من الطرف الآخر، فأشاد وزير الخارجية مايك بومبيو بـ"بطلة في القانون" فيما أثنى وزير العدل ويليام بار على حقوقية "لامعة تحظى بالإعجاب" و"نافذة". وأعرب السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام المقرب من ترامب، عن "حزنه" لوفاتها. وخرج السيناتور الجمهوري تيد كروز، المدرج على قائمة ترامب للمرشحين المحتملين للمحكمة العليا عن هذا الإجماع، ليطالب بتعيين خلف لها، داعياً الرئيس في تغريدة على "تويتر" إلى إعلان خلفها في الأسبوع المقبل، حتى يتمكن مجلس الشيوخ من تثبيته في المنصب قبل الانتخابات. وكتب: "هذا التعيين هو السبب الذي انتخب دونالد ترامب من أجله". وتطرق الكاتبان روبرت بارنز، ومايكل فليتشر في صحيفة "واشنطن بوست"، إلى المسيرة الطويلة لغينسبورغ، وذكرا أنها وُلدت في عام 1933، في بروكلين ـ نيويورك، في عصر الكساد الاقتصادي. وقد برعت أكاديمياً في كلية الحقوق، في وقت كانت فيه النساء لا يزلن يبرّرن أسباب أخذهن مكان الرجل. اكتسبت غينسبورغ سمعة باعتبارها التجسيد القانوني لحركة تحرير المرأة، ونموذجاً يُحتذى به على نطاق واسع لأجيال من المحاميات. وفي عام 1963، أصبحت ثاني امرأة تنضم إلى هيئة التدريس في كلية روتغرز للحقوق في نيوجيرسي. وعندما علمت أن راتبها أقل من رواتب زملائها الذكور، انضمت إلى حملة لتحقيق المساواة في الأجور مع معلمات أخريات، وهو ما حصل.

 

أصبحت أول مديرة لمشروع حقوق المرأة التابع لـ"اتحاد الحريات المدنية"

ومع انخراطها في "الاتحاد الأميركي للحريات المدنية"، نجحت في مناقشة سلسلة من القضايا أمام المحكمة العليا التي حطمت الجدار القانوني للتمييز بين الجنسين. ولاحقاً باتت عنصراً موثوقاً به لتعزيز حقوق المرأة وحماية العمل الإيجابي وحقوق تصويت الأقليات والدفاع عن حق المرأة في اختيار الإجهاض. فأثناء التدريس في روتغرز، بدأت في التعامل مع القضايا نيابة عن فرع نيو جيرسي لـ"اتحاد الحريات المدنية"، فناضلت بنجاح من أجل حقوق إجازة الأمومة للمعلمات في نيو جيرسي، اللاتي واجهن سابقاً التهديد بالفصل في حال الحمل. وفي عام 1972، كانت غينسبورغ أول امرأة يتم تعيينها في كلية الحقوق بجامعة كولومبيا. في الوقت عينه، أصبحت أول مديرة لمشروع حقوق المرأة التابع لـ"اتحاد الحريات المدنية". ثم قادت فريقاً من المحامين الذين رفعوا ست قضايا أمام المحكمة العليا بين عامي 1973 و1979، وفازوا بخمسة منها، غيّرت في نهاية المطاف المجال القانوني للأمة، من خلال إثبات أن الضمان الدستوري للمساواة لا ينطبق فقط على العنصرية تجاه الأقليات بل أيضاً على النساء. دفعت انتصاراتها المبكرة في المحكمة العليا، الرئيس الأسبق جيمي كارتر إلى تعيينها في محكمة الاستئناف الأميركية في واشنطن عام 1980. ثم اختارها الرئيس الأسبق بيل كلينتون خلفاً للقاضي المتقاعد بايرون رايت عام 1993 في المحكمة العليا الفيدرالية. وقال كلينتون في حينها: "يقول العديد من المعجبين بعملها إنها تمثل للحركة النسائية ما كان يمثله قاضي المحكمة العليا السابق ثارغود مارشال بالنسبة للحركة من أجل حقوق الأميركيين من أصل أفريقي". لكن غينسبورغ اعتبرت أن مارشال خاطر بحياته حرفياً للدفاع عن الأميركيين من أصول أفريقية، بينما لا يتطلب عملها القانوني مثل هذه التضحية. وسمح دورها في المحكمة العليا بتحقيق انتصارات باهرة، ففي عام 1996، أصدرت قراراً رائداً يأمر معهد فيرجينيا العسكري بقبول النساء، منهية بذلك تقليداً دام 157 عاماً من التعليم فقط للذكور في المدرسة التي تمولها الدولة. وكشفت لاحقاً أن "صديقها" القاضي أنتوني سكاليا كان المعترض الوحيد على القرار. وفي قضية أخرى، اعترضت على حكم مفاده أنه لا يجوز للعاملات مقاضاة أصحاب العمل، بسبب عدم المساواة في الأجور بسبب التمييز. وسبق أن رفعت ليلي ليدبيتر، المشرفة الوحيدة في مصنع الإطارات في غادسدن ـ ألاباما، دعوى قضائية لأنها حصلت على أجر أقل من زملائها الذكور في العمل. وقالت غينسبورغ في مقابلة مع "ذا بوست" في عام 2010: كل امرأة في سني لديها قصة ليلي ليدبيتر. وفي عام 2011، شهدت غينسبورغ لحظة تاريخية في المحكمة العليا، مع وجود ثلاث قاضيات على المنصة دفعة واحدة. وقالت في مقالة مع صحيفة "واشنطن بوست": إن ذلك سيغير التصور العام لمكان وجود المرأة في نظام العدالة. عندما يحضر تلاميذ المدرسة ويخرجون من المحكمة وينظرون لأعلى ويرون ثلاث نساء، فإن ذلك سيبدو طبيعياً وسليماً". ولم تكن مسيرة جوان روث بادر، الاسم الحقيقي لروث غينسبورغ، سهلة، هي المولودة في 15 مارس/آذار 1933، كانت الابنة الثانية لناثان بادر، وهو مهاجر يهودي من الإمبراطورية الروسية (أوديسا الأوكرانية حالياً)، وسيليا أمستر، الأميركية المتحدرة من أصول نمساوية يهودية. وتوفيت أختها بمرض السحايا. نشأت غينسبورغ في فلاتبوش، التي كانت آنذاك حياً تقطنه غالبية من الطبقة العاملة من المهاجرين اليهود والإيطاليين والإيرلنديين في بروكلين. طلبت والدتها مناداتها بـ"روث" في روضة الأطفال، لأن الفتيات اللاتي حملن اسم "جوان" عديدات. مع العلم أن والدة غينسبورغ تخرجت من المدرسة الثانوية في سن الخامسة عشرة، لكنها لم تكمل تعليمها، بعد أن طلبت عائلتها مساعدة شقيقها في الجامعة. لذلك، قررت سيليا أن يكون لابنتها طريق مختلف، فخبأت الأموال التي كان يسلمها إياها زوجها، من أجل إتمام دراسة روث. وقبل يوم واحد من تخرّج غينسبورغ، توفيت والدتها بسرطان الرحم. وبحلول الوقت الذي توفيت فيه سيليا، كانت قد ادّخرت مبلغ 8 آلاف دولار لابنتها، التي لم تحتج الأموال، بعد حصولها على العديد من المنح الدراسية، فانتهى الأمر إلى تسليم والدها المبلغ. تزوجت روث من مارتن غينسبورغ، ودام زواجهما من عام 1954 وحتى عام 2010، حين توفي بمرض السرطان، ولهما ابنة وابن.

(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)