روبرت مالي... "جزرة" بايدن لتحريك الدبلوماسية مع إيران

31 يناير 2021
روبرت مالي صديق مقرب من وزير الخارجية أنتوني بلينكن (Getty)
+ الخط -

رغم كثرة الذين انغمسوا في إدارته بالملف النووي الإيراني ومفاوضات الاتفاق النووي مع طهران، فإن أي تعيين في إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، حتى الآن، لم يحظ بحجم الجدل الذي يواجهه تعيين روبرت مالي، أخيراً، مبعوثاً أميركياً خاصاً لإيران. وقد يعني ذلك، بالنسبة إلى كمّ هائل من المعارضين للاتفاق، على اختلاف مشاربهم، أن كل ما بناه الرئيس السابق دونالد ترامب، وخصوصاً في عهد وزير خارجيته مايك بومبيو، لنسف هذا الاتفاق، ومحاصرة إيران، مهدد بالانهيار. فالمتشائمون من هذا التعيين، يرون في عودة مالي، رئيس "مجموعة الأزمات الدولية" البحثية لتفادي النزاعات، إلى العمل على هذا الملف، عودة أميركية محتملة إلى الاتفاق النووي، الموقّع في عام 2015 بين طهران ومجموعة 5+1، والذي كان مالي أحد مهندسيه.

مالي مشهور بتنديده الشديد باغتيال قاسم سليماني وبأنه أحد مهندسي اتفاق 2015

ويضم هؤلاء المتشائمون كل معارضي نظام إيران، أكانوا إيرانيين أو عرباً أو من صقور اليمين المحافظ الأميركي، أو اليمين الإسرائيلي في تل أبيب وواشنطن. وكان من ضمن تداعيات الاتفاق، توسع الشرخ بين إدارة باراك أوباما وبين هذا الطيف، الذي عمل بطرق شتى، تقاطعت مع بعضها، للقضاء عليه، عبر الانسحاب الأميركي منه في عهد ترامب. أما المتفائلون، فيرون في تعيين مالي، بداية حلّ لأزمات عدة، سواءً في الشرق الأوسط، وعلى صعيد أزمة نووية متصاعدة، أو حتى بالنسبة للمنظرين السياسيين في واشنطن، لجهة ضرورة تحييد هذا الملف، من ضمن ملفات أخرى، بهدف التفرغ لشؤون أميركية خارجية باتت أكثر إلحاحاً، كالصين. لكن بين ما يمكن وصفه بـ"الاغتيال السياسي" لمالي، أو الإشادة بـ"مهنيته"، يبقى الأكيد أن تعيينه كمحرك أساسي في ملف إيران، بالتنسيق المباشر مع صديقه وزير الخارجية الأميركي الجديد، أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان، يعني تصميماً أميركياً على إعادة إدارة محركات الدبلوماسية مع إيران، والتي ليس من المستبعد أن تكون بدأت فعلياً، ضمن مسار تعترف إدارة بايدن نفسها، بأنه سيكون صعباً ومعقداً، وليست نسبة نجاحه مضمونة، أقلّه قبل الانتخابات الإيرانية في يونيو/حزيران المقبل.

ولا يخفي مالي مهادنته النظام الإيراني، وقد أعرب عن مواقف عدة، تجعل الانتقادات التي تطاوله مفهومة. يكفي التذكير بقوله، فور اغتيال قائد "فيلق القدس" الإيراني قاسم سليماني مطلع العام 2020 في بغداد، إن "الرئيس (دونالد ترامب)، الذي وعد بمنع وقوع أيّ حرب أميركية أخرى في الشرق الأوسط، قام في الواقع لتوه بإعلان هذه الحرب. الضربة، التي تزعم إدارة البيت الأبيض، أنها تهدف إلى ردع الهجمات الإيرانية، ستؤدي بالتأكيد إلى زيادة هذه الهجمات". ونقلت وكالة "نوفوستي" الروسية عن مالي قوله في حينها، إن اغتيال سليماني "يمثل من دون شك ضربة خطيرة لإيران، لكنه أيضاً ضربة شديدة لأي أمل في تراجع التصعيد الإقليمي". لهذا السبب ولغيره، يرجح أن تكون القيادة الإيرانية سعيدة جداً بتعيينه، ولذلك ربما لم تعلق على أنباء تسميته حتى مساء أمس السبت.

وأكدت الإدارة الأميركية أول من أمس الجمعة، اختيار روبرت مالي، أو بوب مالي، وهو أحد مهندسي الاتفاق النووي الإيراني، ليكون مبعوثها الخاص لإيران. وأكدت المتحدثة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، التعيين، من دون تقديم جدول زمني لبدء المفاوضات. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، إن الوزير أنتوني بلينكن "يبني فريقاً مكرساً للملف الإيراني، يقوده مبعوثنا الخاص لإيران روبرت مالي، وهو (أي بلينكن) يستفيد من خبراء ثاقبي النظرة، وسط تنوع آرائهم". وبحسب برايس، فإن مالي "يضفي إلى هذا المنصب نجاحاته السابقة في المفاوضات حول القيود على البرنامج النووي الإيراني"، مؤكداً أن "وزير الخارجية لديه الثقة بأنه، وإلى جانب فريقه، سيتمكن (مالي) من التوصل إلى هذه النتيجة مرةً أخرى". من جهته، أوضح مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض، جيك سوليفان، الجمعة، أن "الأولوبة الأساسية مبكراً، هي التعامل مع أزمة نووية تتصاعد، حيث يقترب الإيرانيون أكثر فأكثر من امتلاك المواد الانشطارية اللازمة للحصول على سلاح نووي، ونحن نرغب في التأكد من إعادة وضع بعض المعايير والقيود حول برنامج إيران النووي، والتي انهارت خلال السنوات الأخيرة". وأضاف سوليفان إن "رأينا هو أنه إذا كان بالإمكان العودة للدبلوماسية، التي بإمكانها وضع برنامج إيران النووي في علبة، أي خلق قاعدة نبني عليها جهداً دولياً، يشمل شركاءنا وحلفاءنا في أوروبا وفي أي مكان آخر، للبحث في تهديدات أخرى تشكلها إيران، بما فيها مسألة الصواريخ البالستية".

وبرأي روبرت مالي، في حديث سابق خلال شهر يناير/كانون الثاني الحالي، لموقع "أكسيوس"، فإن اتفاقاً دائماً مع إيران سيكون ممكناً أكثر التوصل إليه من خلال العودة أولاً إلى الاتفاق السابق، حيث يصبح من الأسهل التوصل إلى اتفاق أولي (آخر)، قبل الانتخابات الإيرانية". لكن مالي حذّر من أن العملية ستكون "صعبة"، مضيفاً أن المسار في إيران سيكون محدداً بشكل قاطع من المرشد الإيراني علي خامنئي. ورأى مالي أن بعض الخطوات التي قد تتخذها إيران قد تحدث نتائج عكسية، معرباً عن اعتقاده أنه "قد نصل إلى وقت قد تعني فيه الضغوط الإضافية (من قبل إيران)، أن إدارة بايدن قد تغير مسارها هي الأخرى". وكان بايدن قد تعهد خلال حملته الانتخابية بالعودة إلى الاتفاق النووي. وأكد بلينكن الأسبوع الماضي، نية الرئيس الأميركي العودة إلى الاتفاق، شرط أن تجدد إيران الالتزام بتعهداتها المنصوص عليها فيه، والتي بدأت بالتخلي عنها رداً على عقوبات إدارة ترامب.

ويخلف مالي، إليوت إبرامز، في منصبه. ويأتي تعيينه مبعوثاً أميركياً إلى إيران، في وقت بلغت فيه العلاقات الإيرانية – الأميركية منعطفاً خطيراً، كاد أن يشعل مواجهة عسكرية، بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي عام 2018، ثم ممارسة إدارة ترامب حملة الضغوط القصوى على إيران، وفرض عقوبات اقتصادية عليها بشكل غير مسبوق، ثم اغتيال  سليماني في بغداد، بداية العام الماضي، وصولاً إلى استهداف العالم الإيراني محسن فخري زادة، عرّاب البرنامج النووي الإيراني، والذي توجه فيه أصابع الاتهام الإيرانية الرئيسية إلى "الموساد" الإسرائيلي. وتؤكد إيران أن أي مفاوضات مع الأميركيين غير واردة قبل العودة إلى الاتفاق النووي، ورفع جميع العقوبات المفروضة عليها. ولم تقدم إدارة بايدن، أي إشارات واضحة حول مسألة التحرر من سياسة العقوبات القصوى، والتي لم يخف ترامب مراراً رغبته من خلالها بإبرام اتفاق "أفضل" مع الجمهورية الإيرانية. ولا يزال الطرفان، الأميركي والإيراني، يلعبان اليوم، على ما يشبه حافة الهاوية، رغم المؤشرات العديدة، ومنها تعيين مالي، على عودة للمسار الدبلوماسي، حتى مع إعلاء طهران للسقوف المحيطة بأي إمكانية للتفاوض.

يأتي تعيين مالي في وقت بلغت فيه العلاقات الإيرانية – الأميركية منعطفاً خطيراً

وفي الداخل الأميركي، ترتبط الانتقادات لتعيين مالي، بأيديولوجية المحافظين، والتي تكرست في الشرق الأوسط بحروب جورج بوش الابن، وحول كيفية الانخراط الأميركي في المنطقة. واتهم السيناتور الجمهوري توم كوتون أخيراً رئيس "مجموعة الأزمات الدولية"، بأنه يكنّ "تعاطفاً راديكالياً" مع النظام الإيراني، وعدائيةً لإسرائيل. وكتب بريت ستيفنز، الصحافي من التيار المحافظ في "نيويورك تايمز"، أن مالي "يُنظر إليه بشكل واسع كأحد المدافعين الأوائل عن إيران في واشنطن". ويرى متابعون، أن حجم الانتقادات لتعيين مالي، والذي لا يحتاج إلى موافقة من الكونغرس، هو لاستباق أي تفاوض محتمل، للضغط على الإدارة الأميركية من أجل عدم تقديمها تنازلات. وفي إسرائيل، يعتبر اليمين الليكودي أن التعيين نذير شؤم، بعدما كان هذا اليمين من أشد المعارضين للاتفاق النووي، فيما يضغط حلفاء واشنطن، في أوروبا والمنطقة، لتوسيع الاتفاق، والبحث في ما يرون فيه زعزعة إيرانية لاستقرار المنطقة، في سورية والعراق واليمن ولبنان وفلسطين المحتلة، والتهديد الناجم عن تطوير سلاحها البالستي.

وروبرت مالي هو خريج جامعة ييل، وكلية الحقوق في هارفارد، وخبير تقدمي في السياسة الخارجية الأميركية، كان صديقاً لبلينكن منذ الطفولة، ودرسا معاً قبل الجامعة في إحدى المدارس الفرنسية. كان مالي في ظلّ إدارة أوباما، أحد المفاوضين الرئيسيين على الاتفاق النووي مع إيران، وأحد مستشاري الرئيس الأسبق لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كما عمل مساعداً خاصاً للرئيس بيل كلينتون حول العلاقات العربية الإسرائيلية. وعمل مالي ضمن حملة أوباما الأولى للرئاسة، لكنه اضطر للانسحاب منها، نتيجة حملة مشابهة لتلك التي يتعرض لها اليوم، لكنها ارتبطت باتهامات حول علاقات له بحركة "حماس"، ولم يشارك في إدارة أوباما حتى بداية ولاية الأخير الثانية. لمالي، مؤلفات عدة، منها "نداء من الجزائر"، و"كامب ديفيد: تراجيديا من الأخطاء". ورأى مات دوس، وهو مستشار السيناتور التقدمي بيرني ساندرز، أن تعيين مالي، هو "إشارة إلى توافق واشنطن حول التحول إلى مسار دبلوماسي، وهو ما ساهم فيه مالي". وفي مقابل حملة الانتقادات لتعيينه، حظي تعيين مالي أيضاً بترحيب عدد كبير من الدبلوماسيين الأميركيين والخبراء. ويضم فريق بايدن أسماء أخرى، عملت على الملف النووي الإيراني، مثل ويندي شيرمان (نائبة وزير الخارجية) وسوليفان وبريت ماكغورك (كبير مسؤولي البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط). وأكد مصدران لوكالة "رويترز"، أمس السبت، أن مالي تحدث مع مسؤولين من بريطانيا وفرنسا وألمانيا يوم الخميس الماضي، حول الملف الإيراني، والإلمام بكيفية تفكير الأوروبيين فيه، بحسب مصدر منهما.

في المحصلة، يدل تعيين روبرت مالي مبعوثاً لإيران، على قرار بايدن أن تكون إدارته متحدة ومتجانسة حول الملف الإيراني، في إطار من الواقعية حول المتغيرات التي طرأت على الملف، لا سيما منذ انسحاب ترامب من الاتفاق النووي. لكن الأهم، أن التعيين قد يعد بمثابة "رمي السمكة" لطهران، والتي نسج مالي علاقات قوية مع عدد كبير من وجوهها السياسية. رغم ذلك، فإن شياطين التفاصيل الكثيرة قد تُصعّب اليوم، مهمته، رغم تعويل الطرفين، الإيراني والأميركي، على ضغوط في بلديهما، كلّ من جهته، لتسريع الحل.


 

المساهمون