ذكرى مذبحة رابعة: 8 سنوات من محاولات التحصين

14 اغسطس 2021
مذبحة الفض من الجرائم التي لا تسقط بالتقادم (مصعب الشامي/فرانس برس)
+ الخط -

مرّت ثماني سنوات على مذبحة فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، في 14 أغسطس/آب عام 2013، وما زالت الدماء التي أريقت فيهما تمثّل مصدر إزعاج للنظام المصري، حتى بعد ما استقرت الأوضاع السياسية في الداخل، ولعبت التغييرات الإقليمية والدولية دوراً لتوفير الحماية لهذا النظام من الخارج، مع الاختفاء المطلق للمعارضة الفعالة في الشارع المصري.

وجاء طرح الحكومة المصرية في يونيو/حزيران الماضي، للمرة الأولى، مشروع تعديل على قانون المحكمة الدستورية العليا، يمكنها من وقف تنفيذ الأحكام والقرارات الصادرة من محاكم ومنظمات وهيئات دولية ذات طبيعة سياسية أو قضائية في مواجهة الدولة المصرية، أو التي ترتئي السلطة الحاكمة في مصر أنها تخالف الدستور أو التشريعات المحلية، ليعكس استمرار التخوف من الحراك القضائي الأجنبي أو الدولي بسبب مذبحة رابعة وتوابعها.

وكشفت مصادر حكومية مطلعة، لـ"العربي الجديد"، أنّ السبب الرئيس لتقديم هذا المشروع، هو تخوّف الدولة من صدور أحكام وقرارات تنفيذية من منظمات دولية ودول أجنبية ضد مصر في الفترة المقبلة، على خلفية بعض الدعاوى القضائية المرفوعة ضد الحكومة المصرية، وبعض قياداتها بصفاتهم وأشخاصهم في الوقت الحالي، بالإضافة إلى ما يمكن صدوره من أحكام وقرارات خاصة بتنفيذ مصر التزاماتها الحقوقية في إطار الحريات الشخصية والعامة بموجب المعاهدات الدولية التي وقعت عليها في فترات سابقة.

يتخوّف النظام من صدور أحكام وقرارات تنفيذية من منظمات دولية ودول أجنبية ضد مصر

وينصّ المشروع الذي أقره مجلس النواب نهاية يونيو الماضي، على أن تتولى المحكمة الدستورية العليا "الرقابة على دستورية قرارات المنظمات والهيئات الدولية وأحكام المحاكم وهيئات التحكيم الأجنبية المطلوب تنفيذها في مواجهة الدولة". ويجيز المشروع "لرئيس مجلس الوزراء أن يطلب من المحكمة الدستورية العليا الحكم بعدم الاعتداد بالقرارات والأحكام المشار إليها في المادة 37 مكرر، أو الالتزامات المترتبة على تنفيذها. ويختصم في الطلب كل ذي شأن، ويُرفق به صورة مبلغة للقرار أو الحكم المطلوب عدم الاعتداد به، وترجمة معتمدة له. ويجب أن يُبيّن في الطلب، النص أو الحكم الدستوري المدعي بمخالفته، ووجه المخالفة، وتفصل المحكمة في الطلب على وجه السرعة، فيما تتعلق المادة الثانية بالنشر".

والتطبيق الإجرائي لهذه النصوص، هو أنه في حال صدور حكم أو قرار ضد مصر، أو ملزم لها بأداء مستحقات أو تعويضات مالية أو أدبية، أو الالتزام بنصوص معينة من معاهدات دولية، أو توقيع عقوبات تتطلب رفع الضرر الواقع على أشخاص أو أطراف أو جهات، فإن رئيس الوزراء يمكنه التقدم إلى المحكمة الدستورية العليا طالباً وقف تنفيذ تلك الأحكام أو القرارات، بحجة مخالفتها للدستور المصري.

وعلى رأس القضايا التي تخشى السلطات تحريكها أو صدور أحكام بشأنها بشكل عاجل، الدعاوى المرفوعة حالياً ضد مصر كسلطة، أو المرفوعة ضد أشخاص، ولكن قد يترتب عليها مقاضاة مصر كسلطة. ومن بين الأمثلة قضية مقتل الشاب الإيطالي جوليو ريجيني والتي ستبدأ المحاكمة الغيابية لأربعة ضباط مصريين على ذمتها في الخريف المقبل، لأن الحكم الصادر ضد هؤلاء، وإن كان شخصياً، فهو يمكن استغلاله في دعاوى جديدة ضد مصر تطالب السلطة بالتعويض أو فرض عقوبات معينة، الأمر الذي ترى الدولة أنه يتصادم مع الدستور المصري في قواعد اختصاص المحاكم الجنائية، وأنه لا يجوز القبول بأحكام جنائية صادرة بشأن قضايا محلية من محاكم أجنبية.

ثمّ تأتي الدعاوى التي حاول عدد من النشطاء رفعها ضد الدولة وضد شخصيات بعينها من المسؤولين المصريين بين عامي 2013 و2015؛ سواء في قضية فض اعتصامي رابعة والنهضة أو التعذيب، وذلك أمام محاكم أميركية وبريطانية ودولية. فعلى الرغم من تعثر الإجراءات الخاصة بتلك الدعاوى، إلا أنها تبقى مصدر قلق للنظام الحاكم.

وهذه الدعاوى يمكن تصنيفها ضمن فئتين؛ الأولى هي التي تحاول المعارضة رفعها على الصعيد الدولي أمام المحكمة الجنائية الدولية، وهذه ليس لها وقت معيّن للرفع، ولكن يجب اتباع طرق معينة بإجراءات صارمة لتحريكها، خصوصاً بعد فشل محاولة سابقة في هذا المجال. والفئة الثانية هي الدعاوى التي يمكن رفعها في محاكم محلية ببعض الدول التي تسمح قوانينها بتعقب أشخاص ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية خارج حدودها. وقد بُذلت في هذا المجال جهود أيضاً لم تحقق نجاحاً كبيراً، ولكنها تسبب قلقاً للنظام المصري، لا سيما بعد سابقة ملاحقة الناشط الحقوقي والمعتقل السابق محمد سلطان، لرئيس الوزراء الأسبق حازم الببلاوي، في الولايات المتحدة، والتي تطلبت تدخلاً وتنسيقاً دبلوماسياً رفيع المستوى وقراراً من الخارجية الأميركية، لتمكينه من التحرك وتفادي التوقيف، على الرغم من منصبه الرسمي كمدير تنفيذي في صندوق النقد الدولي حتى نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

تدرك السلطة المصرية أنّ فضّ اعتصامي رابعة والنهضة من الوقائع التي يمكن للمحكمة الجنائية الدولية التعامل معها

وتدرك السلطة المصرية جيداً أنّ فضّ اعتصامي رابعة والنهضة من الوقائع التي يمكن للمحكمة الجنائية الدولية التعامل معها بالتحقيق والمحاكمة على الرغم من تراخي مصر المقصود في التصديق على معاهدة روما (التي تأسست بموجبها المحكمة الجنائية)، وذلك من دون التقيّد بأي مواعيد أو مرور سنوات على الحدث ذاته، إذ إن الجرائم من هذا النوع لا تسقط بالتقادم، وهو ما يشغل بال دائرة الرئيس عبد الفتاح السيسي بين الحين والآخر.

وفي السياق، قال مصدر حكومي بمجلس الوزراء المصري، لـ"العربي الجديد"، إن مسألة توجيه اتهام أو مطالبة رسمية بتسليم السيسي أو أي قيادي في الجيش أو الشرطة، حساسة جداً بالنسبة للنظام ولا يمكن قبولها. ولذلك، فإنّ تفعيل معاهدة روما سيظلّ مصدراً للإزعاج حتى إذا استمر تعثّر محاولات تحريك القضايا، أخذاً في الاعتبار أنه يمكن تصنيف مذبحة رابعة تحت بعض بنود المادة السابعة من المعاهدة، إذا ثبت ارتكاب جرائم القتل العمد والسجن والحرمان الشديد من الحرية البدنية والتعذيب وإخفاء بعض الأشخاص قسرياً، وذلك كله تم فعلاً في إطار هجوم واسع النطاق ومنهجي من قِبل النظام الحاكم ضد مجموعة محدودة من السكان المدنيين، وبعلم كامل من المسؤولين عن الهجوم وأضراره وما قد يترتب عليه.

وتتضمن المادة السابعة من معاهدة روما عبارة "الهجوم الموجه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين"، وتفسرها المعاهدة بأنها "أي نهج سلوكي يتضمن الارتكاب المتكرر للأفعال المشار إليها ضد أي مجموعة من السكان المدنيين، عملاً بسياسة دولة أو منظمة تقضي بارتكاب هذا الهجوم، أو تعزيزاً لهذه السياسة".

وبتطبيق المادة الثانية عشرة من المعاهدة، الخاصة بالشروط المسبقة لممارسة الاختصاص، فإنّ مصر تعتبر إحدى الدول التي تختص المحكمة الجنائية الدولية بالنظر بما حدث فيها من جرائم بعد إصدار المعاهدة عام 2002، باعتبار أنها كانت من الدول المؤسسة لهذه المعاهدة، وطرفاً في نظامها الأساسي منذ 26 ديسمبر/كانون الأول عام 2000، على الرغم من امتناعها عن التصديق عليها حتى الآن.

وليس هذه الاتجاه، المحاولة الأولى من النظام لتجنيب قياداته المحاسبة والعقاب. فقد أصدر السيسي في يوليو/تموز عام 2018، قانون معاملة بعض كبار قادة القوات المسلحة، والذي أجاز له إصدار قرار بتحديد بعض الشخصيات العسكرية ممن تولوا مناصب قيادية في فترة تعطيل الدستور، التي وقعت خلالها أحداث رابعة والنهضة، ومنحهم حصانة نهائية من أي إجراءات قضائية بشأن أي جرائم وقعت منهم أو بمناسبة توليهم مناصبهم، وكذلك منحهم حصانة دبلوماسية تقيهم الملاحقة القانونية خارج مصر.

وجاء ذلك رداً على محاولات النشطاء القانونيين في جماعة الإخوان المسلمين والحقوقيين على حد سواء، على مدار الأعوام الماضية تحريك دعاوى أمام الجهات القضائية الدولية والمحلية في دول أجنبية، لتوقيف السيسي وقيادات أخرى، باعتبارهم مسؤولين عن مذبحة تصنف كجريمة ضد الإنسانية.

يوفّر القضاء المصري غطاءً للاتجاه الرسمي للتحصين والحماية وتجاهل كشف الحقيقة والمحاسبة

كذلك، يوفّر القضاء المصري غطاءً لهذا الاتجاه الرسمي للتحصين والحماية وتجاهل كشف الحقيقة والمحاسبة، بإصدار أحكام تدين المجني عليهم لا الجناة، وتقوم على العبث العمدي بالوقائع التاريخية، وتحمّل مسؤولية الدماء لجماعة الإخوان وتعصم الجيش والشرطة من المحاسبة، وتصور الاعتصام وكأنه مجرد محاولة للخروج على شرعية مزعومة، تصدت لها الدولة لتحقيق الاستقرار.

ففي يونيو الماضي، أصدرت محكمة النقض المصرية حكما باتاً بإعدام 12 من قيادات جماعة الإخوان المسلمين في قضية الاعتصام، وخففت بعض أحكام السجن التي كان أقصاها 10 سنوات، وأبقت أحكام الإعدام والمؤبد كما هي.

ولا تنفذ الأحكام الباتة النهائية بالإعدام إلا بقرار سياسي يضع في الحسبان الأبعاد المختلفة للتنفيذ داخلياً وخارجياً، من الأجهزة الرسمية للدولة، وعلى رأسها رئيس الجمهورية، الذي لم يستغل سلطته المؤقتة لمدة شهر في تخفيف الأحكام المذكورة.

وتجاهلت محكمة النقض ومن قبلها محكمة الجنايات، كل الدلائل الموثقة في التقارير الدولية وحتى المحلية والحكومية والتي تنسف محاولة النظام تصوير ما حدث وكأنه كان معركة وجود بين تيار إرهابي وقوات الدولة، وأن كلا الطرفين كانا مسلحين، وأن الاعتصام كان خطراً على الأمن القومي، وأنه كان ساحة لارتكاب جرائم قتل وتعذيب لمعارضي الرئيس الراحل محمد مرسي ومؤيدي السيسي، وأن المعتصمين، ومنهم المقتولون والمتهمون الذين قدموا للمحكمة وأدينوا، حرضوا على قتل أفراد الجيش والشرطة خلال فض الاعتصام وما تلاه من أحداث شغب انتقامية ضد الأقسام في كرداسة بالجيزة وبعض محافظات الصعيد. وهو ما لا يستوي مع أبسط الأدلة، وعلى رأسها ما أعلنه وزير الداخلية آنذاك، محمد إبراهيم، بأن الشرطة وجدت في اعتصام رابعة 9 أسلحة آلية وطبنجة واحدة (بندقية) و5 قطع خرطوش، بعدما كان يُصور في وسائل الإعلام، وحتى الآن، بأن الاعتصام كانت به أسلحة ثقيلة.

لم يتم استدعاء أي من المسؤولين عن الفض

وتناسى القضاء المصري خلال التحقيق والمحاكمة واقعة مقتل عدد يتراوح بين 600 و700 من المواطنين العزل، فلم يتم استدعاء أي من المسؤولين عن الفض، بينما وُجهت للمعتصمين السجناء اتهامات "تافهة" بالنسبة لسفك الدماء، كتنظيم اعتصامات من دون ترخيص، وتعطيل الطرق والمواصلات. بل واكتفت النيابة بندب قاض من محكمة استئناف القاهرة للتحقيق في قتل المعتصمين، كواقعة مستقلة بذاتها عن جريمة الاعتصام، لكن ما حصل فعلياً في ذلك التحقيق، من واقع أوراق حصلت عليها "العربي الجديد"، هو تجميع محاضر إثبات الوفاة وبعض المحاضر الشرطية الإدارية التي وُثقت خلال ساعات الفض، وأثبت فيها جميعاً أن الفض تم بواسطة قوات الشرطة بعد استئذان النائب العام الراحل هشام بركات، في محاولة لتقنين إجراءات الفض وما ترتب عليها من سفك للدماء.

وكان تقرير لجنة تقصي الحقائق الرسمية عن المذبحة، قد انتهى إلى أنّ عدد الضحايا في أحداث فض اعتصامي رابعة والنهضة كان 632 قتيلاً، بينهم 8 من ضباط الشرطة. وزعم أنّ الشرطة أمهلت المعتصمين 25 دقيقة فقط بين الإنذار وبدء الفض، لكنها لم تستطع تأمين الممر الآمن الذي أعدّته لخروج المعتصمين، وهو ما اعتبره التقرير خطأً إجرائياً، مما أفضى إلى تحميل المعتصمين مسؤولية الانتهاكات التي حدثت وجرائم القتل، بينما اقتصرت انتهاكات الشرطة على أخطاء إدارية وإجرائية.

المساهمون