تمضي جماعة الحوثيين في تصعيدها العسكري بلا رادع، فمنذ مطلع شهر أكتوبر/ تشرين الأول الحالي لم تعد القواعد العسكرية هدفاً وحيداً للصواريخ البالستية والطائرات المفخخة، بل باتت المناطق المأهولة داخل مدينة مأرب اليمنية، والمطارات المدنية جنوبي السعودية، هدفاً لسلسلة هجمات عشوائية، ويسقط فيها ضحايا مدنيون. وبالتزامن مع تصريحات أميركية اعتبرت استمرار الهجوم على مأرب بأنه "يقتل المدنيين ويتحدى الإجماع الدولي والحاجة الملحة لحل سلمي للصراع"، كانت الجماعة تلوّح بتصعيد واسع النطاق، على لسان نائب وزير خارجيتها، حسين العزي، الذي توعّد خصومهم بـ"يوم القيامة وخيارات لا تخطر على بال بشر"، في حال لم تتم الموافقة على شروطهم لوقف الحرب.
وتستميت جماعة الحوثيين في محاولات السيطرة على كامل محافظة مأرب من خلال اللجوء إلى منطق القوة، وخلافاً لمراوغة المجتمع الدولي بشروط تعجيزية لوقف الحرب، تنفذ هجمات مكثفة في العمق السعودي وكذلك داخل مدينة مأرب، بهدف إرباك التحالف الذي تقوده السعودية وكذلك الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً. وعقب مكاسب سهلة حققتها في سبتمبر/ أيلول الماضي بالسيطرة على عدة مديريات في أطراف محافظتي شبوة ومأرب، وجدت جماعة الحوثيين صعوبة في اقتحام مديرية العبدية، التي تفرض عليها حصاراً خانقاً منذ نحو ثلاثة أسابيع، كما عجزت عن بسط سيطرتها على مديرية الجوبة، أبرز التحصينات الدفاعية للحكومة الشرعية جنوبي مأرب.
لم يعلن الحوثيون رسمياً مسؤوليتهم عن الهجمات اليومية في العمق السعودي
ونظراً للكلفة البشرية الواسعة في أطراف مديرية الجوبة جراء أكثر من 200 غارة جوية شنّها الطيران خلال أسبوع فقط من أكتوبر الحالي، لجأ الحوثيون إلى شن هجمات انتقامية عشوائية في العمق السعودي، لكن الأهداف هذه المرة كانت مطارات مدنية لا قواعد عسكرية. وكان الهجوم الذي طاول مطار الملك عبد الله في مدينة جازان، مساء أول من أمس الجمعة، قبل أن يتم إحباط عملية مماثلة فجر أمس السبت، وفقاً للتحالف الذي تقوده السعودية، واحداً من سلسلة هجمات يومية أسفرت عن سقوط جرحى مدنيين منذ مطلع أكتوبر. وأعلن المتحدث الرسمي للتحالف، تركي المالكي، فجر أمس، أن الهجوم العدائي الذي استهدف مطار الملك عبد الله بواسطة طائرة مفخخة، أسفر عن وقوع 10 إصابات بين المدنيين والمسافرين والعاملين بالمطار، ستة منهم يحملون الجنسية السعودية. وفيما وصف محاولات المليشيا الحوثية لاستهداف المدنيين بالمطارات بأنها "ممارسات لا أخلاقية وترقى إلى جريمة حرب"، قال المالكي إن التحالف لا يزال يمارس ضبط النفس، وسيستمر في تحييد مصادر التهديد لحالات الدفاع عن النفس والهجوم الوشيك، وفق ما نقلته وكالة "واس" السعودية.
ولم يكن الهجوم على مطار جازان هو الأول من نوعه، إذ سقط أربعة جرحى في قصف مماثل استهدف مطار أبها، يوم الخميس الماضي، كما تم إحباط عدد من الهجمات المسيّرة على جازان وخميس مشيط، أسفرت واحدة منها عن تضرر عدد من المنازل في محافظة أحد المسارحة، جنوبي السعودية.
ولم يعلن الحوثيون رسمياً مسؤوليتهم عن الهجمات اليومية في العمق السعودي، وكانت آخر عملية واسعة تم تبنّيها في 5 سبتمبر/ أيلول الماضي، وطاولت منشآت نفطية تابعة لشركة "أرامكو" في المنطقة الشرقية، فضلاً عن قواعد عسكرية في مدن سعودية مختلفة. ومن الواضح أن سبب النقمة الحوثية على التحالف لا يقتصر على ما تشنه المقاتلات الحربية من ضربات موجعة على تحركاتهم في تخوم مأرب فحسب، إذ يشهد الشريط الحدودي بين اليمن والسعودية، تصعيداً غامضاً.
وفيما لا يعلن التحالف عن صد أي محاولات تسلل لعناصر حوثية إلى مدن سعودية، تحدثت وسائل إعلام تابعة لجماعة الحوثيين عن مقتل 10 مدنيين بنيران الجيش السعودي في القرى الحدودية الواقعة في نطاق محافظة صعدة، شمالي اليمن. وامتد التصعيد بين الجانبين إلى مناطق أخرى، حيث شهدت محافظة الحديدة المشمولة باتفاق استوكهولم الهش (المعروف أيضاً باتفاق الحديدة، والموقّع في 13 ديسمبر/ كانون الأول 2018) سلسلة خروقات، كان آخرها عندما أعلن التحالف، يوم الأربعاء الماضي، إحباط هجمات عدائية وشيكة للحوثيين عبر ثلاثة زوارق مفخخة. وفي اليوم التالي للغارات الجوية، ذكرت البعثة الأممية لمراقبة اتفاق الحديدة أن جماعة الحوثيين رفضت السماح لفرقها بالنزول إلى مسرح الهجوم لمعاينة الأضرار، وهو ما يعزز الفرضية التي ذهب إليها التحالف بالقول إنه استهدف مصنعاً لتفخيخ الزوارق المفخخة عن بُعد.
وفي مدينة مأرب، المعقل الأخير للحكومة الشرعية في محافظات الشمال اليمني، تواصل جماعة الحوثيين تصعيداً عسكرياً شاملاً، ابتداء من تشديدها لحصار خانق على مديرية العبدية التي عجزت عن اقتحامها منذ 20 يوماً، وكذلك تشريد نحو 10 آلاف شخص منذ مطلع الشهر الحالي، جراء الزحف نحو مديرية الجوبة، فضلاً عن الهجمات الصاروخية على مناطق مأهولة بالسكان، وآخرها الهجوم الذي طاول حي الروضة وأسفر عن سقوط 3 أطفال وإصابة أكثر من 30 مدنياً يوم الإثنين الماضي.
وتعكس الهجمات الانتحارية للحوثيين في مأرب وتنويع الهجمات من الأطراف الجنوبية في الجوبة إلى الغربية في صرواح إصراراً لدى الجماعة على اقتحام مدينة مأرب الغنية بالنفط والغاز، حتى ولو كان ذلك بوسائل غير مشروعة يسقط فيها ضحايا مدنيون.
ويسعى الحوثيون من خلال تكثيف الهجمات الصاروخية داخل مدينة مأرب إلى اصطياد قيادات حكومية رفيعة، ووفقاً لمصدر عسكري، فإن الجماعة كانت تستهدف في هجومها الأخير أحد المنازل التي يتردد عليها رئيس هيئة أركان الجيش اليمني، الفريق صُغير بن عزيز، معتمدة في معلوماتها على خلايا نائمة تم زرعها في معاقل الحكومة الشرعية.
وعلى الرغم من ضبط الأجهزة الأمنية الحكومية عدداً من الخلايا الحوثية المتورطة بنقل إحداثيات منازل قيادات حكومية ومواقع عسكرية، إلا أن الجماعة لا تزال تنشط بشكل واسع في عملية تجنيد الخلايا وتنفق من أجل ذلك أموالاً طائلة. ويبرز محافظ مأرب سلطان العرادة كهدف رئيسي للصواريخ الحوثية التي حاولت اغتياله في مناسبات عديدة آخرها في 27 سبتمبر الماضي، فضلاً عن قيادات عسكرية على رأسها وزير الدفاع محمد المقدشي.
وتعتمد جماعة الحوثيين في هجماتها داخل مدينة مأرب على الصواريخ البالستية متوسطة المدى، مع إفراطها في استخدام هذا النوع من الأسلحة بكثافة، على حساب الطائرات المسيرة المفخخة وصواريخ "كاتيوشا"، رغم أن مناطق تمركزها في تخوم مأرب تمنحها القدرة على استخدام "كاتيوشا" إلى معاقل الحكومة الشرعية.
وأرجع مصدر في الجيش اليمني حرص الحوثيين على استخدام الصواريخ البالستية في الهجمات الأخيرة إلى الرغبة الشديدة في اغتيال قادة الصف الأول سياسياً وعسكرياً بالحكومة الشرعية، وتنفيذ إصابات دقيقة، نظراً لما سيحدثه ذلك من انهيار لمعنويات المقاتلين في التحصينات الدفاعية جنوبي مأرب وغربها.
وقال المصدر في حديثٍ مع "العربي الجديد" إن "الطائرات المسيّرة بحاجة إلى هدف ثابت في مشاع غير مغلق بسطح نظراً لقدرتها التدميرية المنخفضة، كما هو الحال في المعسكرات التدريبية المفتوحة. وكذلك الحال في صواريخ كاتيوشا التي لا تضمن الهدف بدقة وهامش الخطأ فيها مرتفع، لذلك تلجأ المليشيات لاستخدام الصواريخ البالستية". وأضاف: "لا تتورع المليشيات الحوثية عن شن هجمات عشوائية داخل مناطق مأهولة، ولا تكترث إذا سقط الصاروخ في مخيم نزوح أو سوق شعبي أو منزل مأهول. هذه جماعة دموية تتلذذ بسفك دماء الأطفال والنساء ولن تنكسر سوى بهزيمة مشروعها الانقلابي".
استهدف الحوثيون رئيس هيئة أركان الجيش اليمني في أحد الهجمات
وفي خضمّ التصعيد الواسع، اعتبرت وزارة الخارجية الأميركية، مساء أول من أمس الجمعة، أن استمرار الهجوم الحوثي في مأرب "يفاقم الأزمة الإنسانية ويقتل المدنيين ويتحدى الإجماع الدولي على الحاجة الملحة لحل سلمي للصراع".
ورغم غياب مؤشرات التهدئة، تحاول الولايات المتحدة مواصلة تحركاتها المساندة للأمم المتحدة، ودفعت يوم الجمعة بمبعوثها تيموثي ليندركينغ إلى الأردن للقاء المبعوث الأممي هانس غروندبرغ، قبل الانتقال إلى أبوظبي والرياض ومسقط على التوالي، للدفع نحو عملية سلام شاملة.
وبدلاً من الإنصات للدعوات الدولية، لوّح القيادي الحوثي حسين العزي بـ"يوم القيامة وخيارات لا تخطر على بال بشر"، في حال لم تتم الموافقة على شروطهم الخاصة بوقف الحرب، والتي تتضمن وقف الغارات الجوية ورفع الحصار عن ميناء الحديدة ومطار صنعاء قبل أن يتم إدراج شرط جديد وتعجيزي، هو دفع تعويضات الحرب من قبل التحالف. وذكر العزي، وهو نائب لوزير الخارجية في الحكومة غير معترف بها دولياً، في تغريدة على "تويتر" فجر أمس السبت، أن مطالبهم منصفة ولا تنطوي على تعجيز، ولا تستدعي من قيادة خصومهم أي تنازلات مجحفة، بقدر ما تمثل الحد الطبيعي من الحقوق الإنسانية والقانونية لهم. ولفت القيادي الحوثي إلى أن مدّ أيديهم للإخاء وحُسن الجوار، تأتي رغم كل المتغيرات القائمة والمستقبلية وما توفره من فرص ثأرية غير محدودة، في إشارة للمكاسب الأخيرة التي تحققها الجماعة في أطراف مأرب الجنوبية.