أعاد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، إحياء الجدال في قلب معسكر حلف شمال الأطلسي (الناتو)، عبر تصريحات أعرب فيها عن نيته عدم "حماية الدول الأعضاء في الحلف"، من أي هجوم قد تشنّه روسيا عليهم بل "سيشجع" موسكو على ذلك، رابطاً الأمر بضرورة زيادة إنفاق هذه الدول في الحلف.
ولم تكن تصريحات ترامب مفاجئة، في سياق حملته الانتخابية لرئاسيات 5 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، بل سبق له أن انتقد الحلف مراراً في ولايته الرئاسية بين عامي 2017 و2021. وبهذه التصريحات الجديدة، أثار ترامب قلقاً عميقاً لدى العديد من دول الحلف، لكنه أيضاً واجه ردوداً منها ومن داخل حزبه الجمهوري، مما يشرع الأبواب أمام مستقبل غامض بين واشنطن وبروكسل، في حال فوز ترامب.
وبدأ الأمر، السبت الماضي، في تجمع انتخابي لترامب في ولاية كارولينا الجنوبية، حين شكا من تقصير بعض دول حلف شمال الأطلسي في الإنفاق، متحدثاً عن نقاش أجراه في السابق مع رئيس "دولة كبيرة" حول أي هجوم قد تشنه روسيا على مثل هذه الدول.
وذكر ترامب أنه قال لرئيس هذه الدولة "لا، لن أحميك. في الواقع، سأشجعهم على فعل ما يريدون. عليك أن تدفع". ولم يذكر اسم الدولة ولا رئيسها.
دونالد ترامب و"الناتو"
وأثارت هذه التصريحات انتقادات من البيت الأبيض الذي وصفها بأنها "مروعة وفاقدة للصواب"، كما انتقدته منافسته الساعية لنيل بطاقة ترشح الجمهوريين للرئاسة، نيكي هيلي، التي شدّدت على أن "آخر شيء نريد القيام به على الإطلاق هو الوقوف إلى جانب روسيا". وأضافت في مقابلة مع شبكة "سي بي أس": "لا تدعموا شخصاً ذهب وغزا بلداً، وقد قتل أو أصيب نصف مليون شخص بسبب (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين" في حربه على أوكرانيا.
كذلك انتقد بعض أعضاء الحزب الجمهوري ترامب، ومنهم المرشح الجمهوري السابق للرئاسة، كريس كريستي، الذي قال في مقابلة مع شبكة "أن بي سي": "لهذا السبب كنت أقول منذ فترة طويلة إنه غير لائق ليصبح رئيساً للولايات المتحدة". وكان لافتاً موقف حليف ترامب لدى الجمهوريين، السيناتور ليندسي غراهام، بقوله لوكالة "رويترز"، إنه لا يتفق مع "الطريقة التي قال بها (ترامب) الأمر"، مضيفاً أن "روسيا لم تغزُ أحداً عندما كان رئيساً، وإذا أصبح رئيساً مرة أخرى فلن يفعلوا ذلك".
بولتون: ترامب ربما يسعى إلى الانسحاب من الأطلسي
كذلك أبدى العديد من المسؤولين الأوروبيين انزعاجهم من تصريحات ترامب، خصوصاً ما يتعلق منها بـ"تشجيع" روسيا على مهاجمة حلفاء الولايات المتحدة. وقال مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أمس الاثنين، إن الحلف "لا يمكن أن يكون تحالفاً عسكرياً انتقائياً يعتمد على أهواء الرئيس الأميركي".
كما كتب رئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشال، على منصة "إكس" (تويتر سابقاً)، أن "التصريحات المتهورة"، مثل تصريحات ترامب "تخدم فقط مصلحة بوتين".
ومن شأن تصريحات الرئيس الأميركي السابق، أن تلقي بظلالها على اجتماع وزراء دفاع حلف شمال الأطلسي، الخميس المقبل، ثم في مؤتمر ميونخ للأمن، التجمع السنوي لقادة الأمن القومي في الدول، الجمعة المقبل. وستحضر نائبة الرئيس كامالا هاريس ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، المؤتمر الألماني، وسيشدّدان على "تضامن الأطلسي الذي كان حاسماً للحفاظ على أوكرانيا دولة مستقلة بعد عامين من الغزو الروسي"، بحسب ما أوردت "نيويورك تايمز"، غير أن أي تصريحات سيدليان بها، ستقابل بالشكوك حول الشكل الذي سيبدو عليه الحلف في غضون عام، أي في حال فوز ترامب.
وكان بايدن قد سعى لمعالجة ما تسبب به ترامب من ضرر مع الحلف. وفي محاولة لاستعادة الثقة مع دول الأطلسي، شدّد مراراً على أن الولايات المتحدة "ستدافع عن كل شبر من أراضي الناتو"، وذلك على وقع الغزو الروسي لأوكرانيا. غير أنه في مثل هذه الأيام من العام المقبل، قد تُصبح أميركا بعهدة ترامب، ومستقبل الأطلسي معلّق.
مصدر للتوتر مع الولايات المتحدة
ويشكل عدم التزام العديد من دول حلف شمال الأطلسي البالغ عددها 31 دولة بهدف جعل الإنفاق الدفاعي عند 2 في المائة على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي، مصدراً للتوتر منذ فترة طويلة مع الولايات المتحدة، التي تشكل قواتها المسلحة جوهر القوة العسكرية للحلف. وتظهر التقديرات أن 11 دولة فقط من بين الأعضاء هي التي تنفق بالمستوى المستهدف.
غير أن الأمر لا يتعلق بمسألة الإنفاق الدفاعي فحسب، إذ سبق لترامب أن ناقش خلال ولايته ملف "الأطلسي" مع موظفيه، الذين شرحوا له طريقة عمل التزامات الدفاع المشترك للحلف. وذكرت صحيفة "نيويورك تايمز"، أن ترامب سأل فريقه في حينه: "تقصدون إذا هاجمت روسيا ليتوانيا، فسنذهب إلى الحرب مع روسيا؟ هذا جنون".
في الواقع لم يؤمن ترامب إطلاقاً بالمفهوم الأساسي للتحالف الأطلسي وهو "واحد مقابل الكل والكل مقابل واحد". وبسبب كرهه الطويل للتحالفات من أي نوع، يمكن لترامب في فترة ولاية ثانية أن ينهي المظلة الأمنية التي كانت حامية الحلفاء في أوروبا وآسيا وأميركا الجنوبية والشرق الأوسط، منذ نشأة الحلف في 4 إبريل/نيسان 1949.
وقال العديد من الدبلوماسيين الذين شاركوا في قمة "الأطلسي" لعام 2018، التي حضرها ترامب، لصحيفة "نيويورك تايمز" أول من أمس الأحد، إن تهديدات الرئيس السابق في ذلك الوقت كانت أخف بكثير من تصريحاته في كارولينا الجنوبية. وكان مستشار الأمن القومي السابق في عهد ترامب، جون بولتون، حاضراً خلال تلك القمة.
وقال بولتون، الذي بات منافساً لترامب، للصحيفة نفسها، إن الرئيس السابق ضغط على دول الأطلسي بقوة لزيادة الإنفاق العسكري، مشيراً إلى أن الضغط كان هدفاً سعت إليه إدارات أميركية عدة سابقاً.
غير أن بولتون أوضح أن ترامب "لم يقل أي شيء عن عدم الدفاع عن أي شخص ضد روسيا"، في القمة. وفي مذكرات نشرها في عام 2020، توقع بولتون أن ترامب ربما يسعى إلى الانسحاب من "الأطلسي" إذا تم انتخابه لولاية ثانية. وكتب: "لقد أراد أعذاراً للخروج، في حين أراد بقيتنا أن يلتزم الحلفاء في الأطلسي بالتزاماتهم، من أجل مصلحتهم، مما سيعزز الحلف".
غير أن ترامب لم يتوقف عند هذا الحد، إذ حاول سحب القوات الأميركية من ألمانيا في نهاية رئاسته، رغم رفض المستشارة السابقة أنجيلا ميركل في ذلك الحين ذلك. ولم يحصل الانسحاب، بسبب انتخاب جو بايدن رئيساً، الذي رفض هذا الإجراء.
كما فكر ترامب في سحب القوات الأميركية من كوريا الجنوبية أيضاً، وهي المتمركزة هناك منذ انتهاء الحرب الكورية (1950 ـ 1953). وشدّد يومها على أن هذه الخطوة ستكون "أولوية" إذا عاد إلى البيت الأبيض "ما لم تدفع كوريا الجنوبية أموالاً". وترامب نفسه كان أول من اقترح سحب القوات الأميركية من أفغانستان وسورية والعراق، رغم انتقاده بايدن على الانسحاب الأميركي الفوضوي من كابول، في أغسطس/آب 2021.
ومن المحتمل، وفق هذه التطورات، أن يمنع ترامب تحويل المساعدات العسكرية لأوكرانيا، خصوصاً أنه عرقل بتأثيره على النواب الجمهوريين في الكونغرس، مشروع قانون متعلق بذلك أخيراً بذريعة الحصول على تنازلات أكبر في ملف الهجرة. كما رفض حتى تقديم أي دعم لمزيد من المساعدات لإسرائيل في عدوانها على غزة.
وتحسباً لاحتمال انسحاب الولايات المتحدة من الحلف إذا عاد ترامب إلى منصبه، أقر الكونغرس أخيراً تشريعاً يمنع أي رئيس من الانسحاب من "الأطلسي" من دون موافقة مجلس الشيوخ. لكن ترامب لن يحتاج إلى الانسحاب رسمياً من التحالف لجعله بلا جدوى، إذ يكفيه ترجمة تصريحاته الانتخابية إلى واقع، في حال عودته إلى البيت الأبيض، مما يُضعف الحلفاء في "الأطلسي".
وإذا لم يكن بالإمكان الاعتماد على الولايات المتحدة لمساعدة الشركاء في أوروبا، حيث تتمتع بأقوى العلاقات التاريخية، المنبثقة من الدور الأميركي العسكري في الحربين العالميتين الأولى (1914 ـ 1918) والثانية (1939 ـ 1945)، فإن الدول الأخرى المرتبطة باتفاقيات أمنية مع الولايات المتحدة مثل اليابان والفيليبين وتايلاند وأستراليا والأرجنتين والبرازيل وتشيلي وكولومبيا وكوستاريكا وبنما، ستنتابها الشكوك حيال احتمال تقديم الأميركيين مساعدات عسكرية لها.
حاول ترامب سحب القوات الأميركية من ألمانيا وكوريا الجنوبية
ونقلت صحيفة "نيويورك تايمز" عن بيتر دي. فيفر، المساعد في مجلس الأمن القومي في عهدي الرئيسين بيل كلينتون (1993 ـ 2001) وجورج بوش الابن (2001 ـ 2009)، قوله إن "ترامب يمكن أن يخفض عديد القوات الأميركية في أوروبا إلى مستوى من شأنه أن يجعل الخطط الدفاعية العسكرية جوفاء، مما يضعف التزام الولايات المتحدة مع حلفائه، وهو ما من شأنه أن يقنع بوتين بإطلاق العنان". وأضاف فيفر، الذي يعمل حالياً أستاذاً في جامعة ديوك، إن "مجرد قيام ترامب بذلك، فإنه يمكن أن يقتل حلف شمال الأطلسي".
ترامب وسردية بوتين
وكان لافتاً أيضاً أن تصريحات ترامب السبت الماضي، تلت تصريحات بوتين في مقابلة مع الإعلامي الأميركي، تاكر كارلسون، الخميس الماضي، رأى فيها أن "بولندا كانت مسؤولة عن غزو (ألمانيا النازية بقيادة) أدولف هتلر لها في عام 1939"، التي أطلقت شرارة الحرب العالمية الثانية.
وسردية بوتين حول "مسؤولية" بولندا غير واقعية تاريخياً، على اعتبار أن هتلر ضمّ في عام 1938 (مسقط رأسه) النمسا (وفقاً لعميلة أنشلوس)، وإقليم السوديت في تشيكوسلوفاكيا السابقة (انقسمت إلى دولتي التشيك وسلوفاكيا سلمياً في عام 1992)، مظهراً نزعته للتمدد أوروبياً، استناداً إلى ما دوّنه في كتابه "كفاحي"، الصادر في عام 1925.
ويعني موقف ترامب، معطوفاً على سردية بوتين، أن الرئيس الأميركي السابق مستعد لتجاهل المادة 5 من ميثاق الأطلسي، في حال تعرّض أي دولة أطلسية من الدول الـ31 للاعتداء.
وتنصّ المادة 5 على أنه: "يتفق الأطراف، على أن أي هجوم، أو عدوان مسلح، ضد طرف منهم، أو عدة أطراف، في أوروبا أو أميركا الشمالية، يعتبر عدواناً عليهم جميعاً. وبناء عليه، فإنهم متفقون على أنه، في حالة وقوع مثل هذا العدوان المسلح، فإن على كل طرف منهم، تنفيذاً لما جاء في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، عن حق الدفاع الذاتي عن أنفسهم، بشكل فردي أو جماعي، تقديم المساندة والعون للطرف، أو الأطراف، التي تتعرض للهجوم، باتخاذ الإجراءات الذاتية، بالتعاون مع الأطراف الأخرى، من دون تأخير، بما في ذلك استخدام قوة السلاح، التي يرى أنها لازمة لإعادة الأمن، إلى منطقة شمال الأطلسي، وتأكيده. ويتم إبلاغ مجلس الأمن، من دون تأخير، بكل هجوم وعدوان مسلح، وكل الإجراءات المضادة المتخذة تجاهه. ويتم وقف الإجراءات، بمجرد اتخاذ مجلس الأمن للخطوات الضرورية، لإعادة، واستقرار السلام والأمن الدوليين".
وتنص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة على أنه "ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي، والتدابير التي اتخذها الأعضاء استعمالاً لحق الدفاع عن النفس تبلغ إلى المجلس فوراً، ولا تؤثر تلك التدابير بأي حال فيما للمجلس، بمقتضى سلطته ومسؤولياته المستمرة من أحكام هذا الميثاق، من الحق في أن يتخذ في أي وقت ما يرى ضرورة لاتخاذه من الأعمال لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادته إلى نصابه".
وقد تم استخدام المادة 5 من ميثاق الأطلسي مرة واحدة، وذلك في 4 أكتوبر/تشرين الأول 2001، لمساندة الولايات المتحدة في حربها في أفغانستان، على خلفية تعرّضها لاعتداءات 11 سبتمبر/أيلول من العام نفسه.