تعيش الولايات المتحدة، منذ يوم أول من أمس الخميس، على وقع الهزّة السياسية التي أحدثها توجيه هيئة محلفين في محكمة مانهاتن، بولاية نيويورك، الاتهام رسمياً إلى الرئيس السابق دونالد ترامب، في قضية "شراء صمت" ممثلة إباحية في عام 2016، خلال حملته الانتخابية الأولى للترشح للرئاسة.
وينتظر عشرات الصحافيين والمراسلين وشبكات إعلامية عالمية ومحلية، منذ أسبوعين تقريباً، أمام مقر المحكمة، وقد يحظون، الثلاثاء المقبل، بفرصة التقاط صور لترامب لدى وصوله إلى المحكمة، بعد توجيه اتهام جنائي له، وهو الأول من نوعه الذي يوجه إلى رئيس أميركي في السلطة أو سابق، ومرشح أيضاً مرة أخرى للرئاسة.
وعلى الرغم من أن القرار كان متوقعاً، إلا أن ما يشكلّه من سابقة، ليس وحده ما يضفي الإثارة حوله، والبلبلة والشحن السياسي اللذين عادا إلى أروقة واشنطن، ومن كل أطراف الطيف السياسي الأميركي. فـ"ملحمة" ترامب التي لم تنته، دخلت مع الاتهام فصلاً جديداً في موسم تتحضر فيه الولايات المتحدة مجدداً، العام المقبل، لانتخابات رئاسية عالية الاستقطاب، كان يريد ترامب منها تمتين بقائه زعيماً للحزب الجمهوري، والعودة إلى البيت الأبيض. وهذا الأمر أصبح اليوم غير محسوم وسط غموض الموقف الجمهوري الحقيقي من ترشيح ترامب، رغم الإدانات العلنية السريعة التي تلت اتهامه.
المعتدلون من الجمهوريين قد ينتابهم الملل من قضايا ترامب
وبغض النظر عن بقائه مرشحاً أم لا بعد توجيه الاتهام، علماً أن محاكمته قد لا تحصل قبل الانتخابات المقررة في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، فإن السابقة بحدّ ذاتها فتحت مجالاً واسعاً لعودة الحديث عن دور السياسة في القضاء ولعبة "تصفية الخصوم" ورغبة "الدولة العميقة" في التخلص من ترامب بأي شكل، وهي الاتهامات التي ظلّ يسوقها الأخير دون أدلّة. وينتظر أن تستمر التكهنات حول مدى قدرة الرئيس السابق على النفاذ مرة أخرى من الملاحقات التي تطارده، بل توظيف ذلك لخدمة مشروعه السياسي وحملته الانتخابية.
اتهامات جنائية لترامب
وكما توقع الرئيس السابق نفسه، فقد وجّهت هيئة محلفين كبرى في مانهاتن، الخميس، اتهامات له بدفع أموال عام 2016 لإسكات الممثلة الإباحية ستورمي دانيالز، التي تتهمه بإقامة علاقة معها في 2006، ليصبح أول رئيس أميركي سابق يواجه اتهامات جنائية. وفيما لم تُعرف الاتهامات بعد بالتحديد، إذ لا تزال لائحة الاتهام سرّية، ذكرت شبكة "سي أن أن" أن ترامب يواجه أكثر من 30 تهمة تتعلق بمخالفات، بهدف إخفاء عملية دفع مبلغ 130 ألف دولار لدانيالز وإخفاء قيده في الحسابات أواخر 2016. وهيئة المحلفين التي وجّهت الاتهام مؤلفة من 30 عضواً من الجمهور الأميركي، توصلوا إلى اتهام ترامب بعد تصويت أكثري، وإثر تحقيق تواصل منذ 2018 بالقضية، ويقوده حالياً المدعي العام ألفين براغ.
وكان مكتب الادعاء العام في نيويورك نجح، العام الماضي، في محاكمة "منظمة ترامب"، مجموعة الأعمال التابعة للرئيس السابق، على خلفية قضية تتعلق بالتهرب الضريبي، وتدفعيها غرامة 1.61 مليون دولار، وقاد القضية القاضي في المحكمة العليا في نيويورك خوان ميرشان، الذي يتوقع أن يشرف على قضية دانيالز، بحسب ما أكد شخص مطلع لوكالة "رويترز" أمس.
ولو لم يكن ترامب لا يزال ملاحقاً في قضايا أخرى، لا سيما في قضية الوثائق السرّية التي لم يردّها إلى الأرشيف الوطني بعد مغادرته الرئاسة، والتحريض الذي أفضى في 6 يناير/كانون الثاني 2021 إلى اقتحام أنصاره الكونغرس لمنع المصادقة على فوز جو بايدن بالرئاسة، ولو لم يكن يواجه إمكانية توجيه اتهامات أخرى إليه قريباً في أتلانتا وواشنطن (بقضية الضغط مثلاً لتغيير نتائج الانتخابات في جورجيا)، لكان من الممكن القول إن لعنة نيويورك وحدها تلاحق الرئيس السابق الذي يتحدر منها، والتي تصوّت عادة للديمقراطيين. إلا أن ترامب، الذي نجا من محاولتين لعزله في الكونغرس حين كان رئيساً، يبقى أكثر الرؤساء الأميركيين والسابقين الذين واجهوا اتهامات وتحقيقات منذ تحقيق روبرت مولر في قضية التدخل الروسي في انتخابات 2016، والتي مكّنت هي الأخرى من فتح ملفات موازية، منها قضية دانيالز نفسها، التي يُعدّ محامي ترامب السابق مايكل كوهين الشاهد الأساسي فيها.
وفور صدور خبر الاتهام الذي سيوجه إلى ترامب رسمياً حين يمثل أمام المحكمة يوم الثلاثاء، أكد الرئيس السابق أنه "بريء" وأنه لن ينسحب من السباق الرئاسي، علماً أن توجيه الاتهام إليه لا يمنعه من بقائه مرشحاً للرئاسة. وحوّل ترامب سريعاً القضية إلى سياسية، واتهم مدعي مانهاتن بمحاولة الإضرار بفرصه في الفوز بالانتخابات. ورأى ترامب في بيان أن "هذا اضطهاد سياسي وتدخل في الانتخابات على أعلى مستوى في التاريخ"، متوعداً بأن "هذه الملاحقة سوف ترتد عكسياً" على بايدن.
ولجأ ترامب إلى شبكته للتواصل "تروث سوشال" ليندد بخصومه الذين "يلاحقونني بصورة واهية ومعيبة لأنهم يعلمون أنني إلى جانب الشعب الأميركي، وأنه لا يمكنني الحصول على محاكمة عادلة في نيويورك". وناشد أنصاره تقديم المال للدفاع القانوني، علماً أن حملته تقول إنه جمع أكثر من مليوني دولار منذ أن توقع في 18 مارس/آذار الماضي أنه سيُعتقل. كما انتقد نجله إريك ما يجري مع والده واصفاً إياه بأنه "استهداف انتهازي لخصم سياسي في عام الحملات الانتخابية".
وأكد فريق ترامب أن الرئيس السابق سيتوجه إلى مانهاتن للاستماع إلى لائحة الاتهام. ويتعين على ترامب السفر إلى مانهاتن، حيث سيتلو عليه قاض بيان الاتهام قبل أن يوضع لفترة وجيزة رمزية "قيد الاعتقال" ويُصوّر وتؤخذ بصماته، علماً أنه يجب أن يعلن ما إذا كان يقر بذنبه أم يؤكد براءته. وقال مكتب المدعي براغ إنه اتصل بمحامي ترامب لتنسيق "تسليمه نفسه"، وهو ما قال مسؤول قضائي لـ"رويترز" ومحامية ترامب سوزان نيتشيليس إنه سيحدث على الأرجح الثلاثاء المقبل. وأكد محاميا ترامب، جوزيف تاكوبينا وسوزان نيتشيليس، أنهما "سيحاربان بقوة" التهم، في حين توقعت محامية أخرى له هي ألينا هابا تبرئته.
وقال تاكوبينا أمس إن ترامب لن يتم تقييد يديه عندما يسلّم نفسه للسلطات الأسبوع المقبل في نيويورك لمواجهة الاتهامات، وذلك بموجب شروط اتفاق جرى التوصل إليه بين فريق الدفاع والمدعين في مانهاتن. وأضاف تاكوبينا أنه يتوقع أن يكون الاعتقال مجرد إجراء روتيني، وقال حول ذلك: "لا أعرف كيف سيسير هذا الأمر، لا يوجد مرجع حول كيفية محاكمة رئيس سابق للولايات المتحدة أمام محكمة جنائية". وأضاف أن ترامب وفريق دفاعه فوجئا بخبر لائحة الاتهام، وأنه "في البداية شعرنا جميعاً بالصدمة، ولم نصدّق أنهم سيمضون بالفعل قدماً في هذا الإجراء، لأنه لا توجد جريمة".
وتسمى الجلسة الأولى التي سيخضع لها ترامب "جلسة اتهام"، حيث سيحدد فيها قاض ما إذا كان على ترامب دفع كفالة أو الالتزام ببعض القيود بانتظار المحاكمة، أو أنه سيبقى حرّاً دون كفالة أو قيود، ما يعرف بإطلاق سراح بإقرار شخصي. ويؤكد خبراء أن أي محاكمة نهائية في القضية لن تحصل قبل أقل من 12 شهراً.
تحدي غير مسبوق للجمهوريين
ويواجه الجمهوريون وحزبهم تحدياً غير مسبوق بعد صدور الاتهام، يتعلق بانعكاساته على الانتخابات، وزعامة الحزب، وتأجيج الانقسام الحاد السائد حالياً في واشنطن. ويرتبط ذلك بتحديات قريبة الأمد، وأخرى بعيدة، وكيفية التعاطي مع المسألة، سواء لجهة من يراها أنها استهداف للحزب، كسابقة تطاول رئيساً أميركياً سابقاً، عرف عهده ملاحقة غير مسبوقة لرئيس في البيت الأبيض أيضاً.
يرى الديمقراطيون أن ترامب ليس حصيناً في مواجهة القانون
في المقابل، فإن طيفاً في الجمهوريين، من الجناح المعتدل، قد يرى فرصة في الاتهام للتخلص من ترامب، عبر دفعه لسحب ترشحه للرئاسة، علماً أن استطلاعاً للرأي أجرته "رويترز" و"إيبسوس" الأسبوع الماضي، وجد أن 44 في المائة من الجمهوريين يعتقدون أن على ترامب سحب ترشحه إذا ما وجّهت إليه لائحة اتهام في قضية دانيالز.
ويقف الحزب أمام معضلة صعبة، فمن جهة، لا يريد حصد غضب ترامب، الذي لا يزال يمتلك قاعدة شعبية صلبة، وبإمكانه تسعير الخطاب اليميني المتطرف وأنصاره من الجناح المتشدد داخل الحزب وفي الشارع وفي صناديق الاقتراع. ومن جهة أخرى، تشير معطيات عدة إلى أن جزءاً من القاعدة "المعتدلة" والمستقلين ينتابه شعور بالملل والإحباط من قضايا ترامب التي لا تنتهي، وهم يرغبون بظهور مرشح بديل، قادر على إلحاق الهزيمة بمرشح الديمقراطيين العام المقبل، والذي سيكون بايدن على الأرجح.
وفي كل الأحوال، فإن الخيارات تبدو بمجملها مُرّة على الحزب، الذي يواصل رؤية نفسه يتجرع "سمّ" ترامب، الذي أفقده العام الماضي، بحسب رأيه، فرصة الحصول على نتائج أفضل في الانتخابات النصفية للكونغرس. وتتعلق المعضلة خصوصاً بمسألة الانتخابات، إذ لا تزال استطلاعات الرأي تشير إلى تقدم ترامب على جميع منافسيه المحتملين للانتخابات التمهيدية للحزب المتوقعة بداية العام المقبل، فضلاً عن قدرة الأخير على جمع الأموال الانتخابية والحشد، لا سيما إذا ما استطاع تجيير الاتهام لصالحه واستغلاله لضخّ الزخم في حملته.
والتفّ معظم السياسيين الجمهوريين حول ترامب في أول رد فعل قريب الأمد، ومن بينهم مرشحون محتملون للرئاسة، أي منافسون محتملون لترامب، الذي كان أعلن رسمياً سعيه للعودة إلى البيت الأبيض الخريف الماضي. وجاء ذلك علماً أن 3 لجان يقودها جمهوريون في مجلس النواب الأميركي (الذي يهيمن عليه الجمهوريون حالياً)، كانوا قد بعثوا برسائل رسمية إلى المدعي براغ، معتبرين أن القضية "مسيّسة".
وأعرب الرئيس الجمهوري لمجلس النواب كيفن ماكارثي، الخميس، عن دعمه لترامب، مؤكداً أن "الشعب الأميركي لن يتسامح مع هذا الظلم، ومجلس النواب سيُحاسب ألفين براغ واستغلاله غير المسبوق للسلطة". واعتبر السناتور الجمهوري النافذ ليندسي غراهام أن "مدعي نيويورك فعل أكثر من أي شخص آخر في الولايات المتحدة لمساعدة ترامب في انتخابه رئيساً للولايات المتحدة"، واصفاً الملاحقات في نيويورك بأنها "انتقائية".
واتهم وزير الخارجية السابق في عهد ترامب، مايك بومبيو، الذي يفكّر في الترشح للانتخابات، مدعي مانهاتن بـ"زعزعة ثقة أميركا بنظامنا القضائي"، كما بعث برسالة لجمع الأموال لترامب. من جهته، حذّر نائب ترامب السابق مايك بنس من أن ما يحصل "لن يؤدي إلا لمزيد من الانقسام في بلدنا". وفي إشارة قوية على حجم الالتفاف "المبدئي"، اعتبر حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس، وأبرز منافسي ترامب المحتملين في السباق الرئاسي المقبل، أن توجيه الاتهام إلى الرئيس السابق "منافٍ للقيم الأميركية"، مؤكداً أن ولايته التي يقيم فيها الرئيس السابق لن تستجيب "لطلب تسليم" من ولاية نيويورك.
وبينما لم يصدر حتى عصر أمس أي تعليق من البيت الأبيض، جاء ردّ الفعل الديمقراطي مختلفاً وداعياً إلى متابعة المسار القانوني بهدوء. واعتبر النائب الديمقراطي آدم شيف أن "توجيه الاتهام وتوقيف رئيس سابق حدثان فريدان في التاريخ الأميركي"، بينما قال كبير الديمقراطيين في مجلس الشيوخ تشاك شومر إنه "يشجّع منتقدي ترامب ومؤيديه على ترك العملية تمضي قدماً بسلام ووفقاً للقانون".
ويرى الديمقراطيون، من وجهة نظر قانونية، أن ترامب ليس حصيناً في مواجهة حكم القانون.
وفي الواقع، فقد دافع الرئيس الديمقراطي الأسبق بيل كلينتون، حين كان في البيت الأبيض، عن نفسه، في قضية التحرش بمونيكا لوينسكي، والتي كادت تكلّفه العزل، في فترة أخرى من الانقسام الحاد في واشنطن، حين كانت رئاسة كلينتون تتعرض لهجمات غير مسبوقة في حدّتها من الجمهوريين.
والعام الماضي مثلاً، أسقط مدّعٍ في نيويورك تهم الاعتداء الجنسي عن الحاكم السابق للولاية أندرو كومو، علماً أن كومو كان استقال من المنصب بعد الاتهامات ضدّه بالتحرش بمساعِدته، وهو كان من الأسماء التي بدأت تلمع في الحزب الديمقراطي، وصولاً إلى حدّ الحديث عن إمكانية ترشحه للرئاسة. ويقول الديمقراطيون إن عشرات آلاف القضايا من هذا النوع تفتح يومياً في الولايات المتحدة وحول العالم، رافضين الاتهامات بتسييس القضاء.