عكست رسالة رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز، إلى العاهل المغربي الملك محمد السادس، أول من أمس الجمعة، بداية نهاية أزمة غير مسبوقة ألقت بظلالها على علاقات البلدين، بعد استضافة مدريد لزعيم جبهة "البوليساريو"، إبراهيم غالي، في إبريل/نيسان من العام الماضي "لأسباب إنسانية" بعد إصابته بفيروس كورونا، بينما اعتبرت الرباط الأمر "مخالفاً لحسن الجوار"، مؤكدة أن غالي دخل إسبانيا من الجزائر "بوثائق مزورة وهوية منتحلة".
وبعد 11 شهراً على بدء الأزمة الحادة بين الرباط ومدريد، بدا واضحاً أن فصلاً من التوتر قد انتهى ليبدأ فصل آخر عنوانه الرئيس توجُه نحو تدشين ما قالت الحكومة الإسبانية إنه "مرحلة جديدة من العلاقات مع المغرب، تقوم على الاحترام المتبادل، وتطبيق الاتفاقيات، وعدم اللجوء إلى الإجراءات الأحادية"، وتروم "ضمان الاستقرار، والوحدة الترابية وازدهار بلدينا".
تحوّل في موقف إسبانيا تجاه قضية الصحراء
وفي خضم هذا التطور في مسار العلاقات بين البلدين اللذين تربطهما شبكة قوية ومتداخلة ومعقدة من المصالح والعلاقات تتأثر سلباً باستمرار التوتر أو استفحاله، يبدو أن تحولاً كبيراً طرأ على موقف إسبانيا من ملف على قدر من الأهمية بالنسبة للرباط هو قضية الصحراء.
إذ أكد رئيس الحكومة الإسبانية في رسالته إلى العاهل المغربي، أنه "يدرك أهمية قضية الصحراء بالنسبة للمغرب"، واعتباراً لذلك، فإن بلاده تعتبر أن المبادرة المغربية للحكم الذاتي التي قُدمت سنة 2007، هي "الأساس الأكثر جدية وواقعية وصدقية" لحل ملف الصحراء.
وهو ما كرره وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس، الذي قال أمام الصحافيين في برشلونة أول من أمس الجمعة "تعتبر إسبانيا أن مبادرة الحكم الذاتي المُقَدّمة في 2007 (من جانب المغرب) هي الأساس الأكثر جدية وواقعية وصدقية لحل هذا النزاع" بين الرباط وجبهة بوليساريو.
اعتبر سانشيز أن المبادرة المغربية للحكم الذاتي "الأساس الأكثر جدية وواقعية وصدقية" لحل ملف الصحراء
كما أعلنت مدريد أنه من المقرر أن يجري سانشيز زيارة إلى المغرب من دون أن تحدد موعدها، وأن ألباريس سيزور الرباط "قبل نهاية الشهر الحالي" في إطار تطبيع العلاقات بين البلدين.
التحول الإسباني المعلن بشأن قضية الصحراء لافت جداً، نظراً إلى أنها المرة الأولى التي تخرج فيها مدريد من المنطقة الرمادية وتعلن علناً دعمها لموقف الرباط ولمقترحها للحكم الذاتي في الصحراء، في تغيير جذري وتخلٍّ عما كانت تعتبره الدبلوماسية المغربية غموضاً في الموقف الإسباني، وحياداً سلبياً تجاه الملف.
كما أنها المرة الأولى التي تتناول فيها الحكومة الإسبانية الموضوع خارج الموقف الأوروبي، ومن دون الإشارة إلى العملية السياسية التي يشرف عليها مجلس الأمن والأمم المتحدة.
العلاقات بين المغرب وإسبانيا
وعرفت العلاقات بين الدولتين الجارتين توتراً منذ إعلان الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، في 10 ديسمبر/ كانون الأول 2020، اعترافه بسيادة المغرب على الصحراء.
إذ اعتبرت مدريد على لسان وزيرة خارجيتها السابقة أرانتشا غونزاليس لايا، أن القرار الأميركي لا يخدم نزاع الصحراء، بل يزيد تعقيده، لأنه يقوم على ما وصفته بـ"القطبية الأحادية"، وليس على البحث عن الحل الذي يشارك فيه مختلف الأطراف؛ سواء القوى الممثلة في مجلس الأمن أو القوى الإقليمية التي لديها علاقة بالنزاع، وبالتالي ضمان استمرار الحل.
وانعكس الموقف الإسباني بشأن الاعتراف الأميركي، سلباً على القمة الإسبانية المغربية، التي كان من المقرر عقدها في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2020.
إذ أُجِّلَت هذه القمة لأكثر من مرة إلى موعد لم يحدد، في إشارة واضحة إلى تأزم العلاقات بين الرباط ومدريد، التي وُصفت طوال العقد الماضي بأنها نموذجية على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية، بعد أن تراجعت الملفات الخلافية بين البلدين الجارين، في ظل ما يسميه البعض "الجوار الحذر".
وفي وقت اعتبرت فيه الأوساط الإسبانية أن الخطوة الأميركية وتمدد المغرب في الصحراء، يزيدان من إضعاف موقف مدريد على المستوى الإقليمي، وأن الرباط تحظى أيضاً بدعم لندن لعزل إسبانيا بشأن قضية الصحراء، كان لافتاً حرص وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، خلال مقابلة مع إذاعة محلية، في ديسمبر/كانون الأول 2020، على بعث رسالة مباشرة إلى الجارة الشمالية عنوانها الرئيس أن المغرب لن يقبل مستقبلاً من الدول، الحديث عن حل عادل ودائم، بل الحديث عن مقترح الحكم الذاتي كأرضية لحل النزاع.
يثير دعم مدريد لمقترح المغرب بشأن الحكم الذاتي أسئلة حول مآل النزاع
وخلال المفاوضات غير المعلنة التي جرت بين الرباط ومدريد، بعد خطاب العاهل المغربي في 20 أغسطس/آب الماضي، تصدّر ملف الصحراء مناقشات التقييم الشامل للعلاقات بين الجارتين، ومحاولات وضع أسس جديدة لتفادي الأزمات مستقبلاً، في حين كان لافتاً سعي المغرب إلى حمل إسبانيا على إجراء مراجعة في موقفها من النزاع.
وفي 20 أغسطس الماضي، دعا العاهل المغربي في خطابه إلى "تدشين مرحلة جديدة وغير مسبوقة، في العلاقات بين البلدين، على أساس الثقة والشفافية والاحترام المتبادل، والوفاء بالالتزامات".
تأثيرات دعم مدريد للحكم الذاتي في الصحراء
وكأي حدث يشكّل تحولاً، خاصة إذا ارتبط بقرار دولة هي القوة الاستعمارية السابقة، وأحد أعضاء مجموعة أصدقاء الصحراء (تضم الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وإسبانيا وبريطانيا وروسيا)، وينشط فيها مجتمع مدني مؤيد لـ"البوليساريو"، يثير دعم مدريد لمقترح المغرب بشأن الحكم الذاتي أسئلة حول مآل النزاع وتأثيره على مواقع الأطراف المتنازعة.
كما تثار أسئلة حول تداعيات هذا الموقف على الحكومة الإسبانية، وما إذا كان سيفضي إلى خلافات داخلها، خصوصاً بعد موقف وزيرة العمل يولاندا دياز، التي تمثل اليسار الراديكالي "بوديموس" المؤيد لحق الصحراويين.
فقد نقلت وكالة "فرانس برس" عن دياز قولها أخيراً، إن "أي حل للنزاع يجب أن يتم من خلال احترام الشعب الصحراوي وإرادته الديمقراطية".
وهنا، يعتبر مدير "مركز الصحراء وأفريقيا للدراسات الاستراتيجية"، عبد الفتاح الفاتحي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "رسالة الاعتراف الإسباني الرسمي بوجاهة مبادرة الحكم الذاتي، تعد نقطة مفصلية في تاريخ مواقف الحكومات الإسبانية من نزاع الصحراء".
ويضيف: "كما تعتبر هذه الرسالة تحولاً عميقاً في أسلوب التعاطي المستقبلي لإسبانيا مع النزاع، بتقدير سمو قضية الوحدة الترابية للمملكة المغربية كضمانة لامتداد نفوذها الجيو استراتيجي نحو عمقها الأفريقي".
ويعتقد الفاتحي أن الموقف الإسباني الجديد "تمت صياغته بعد نقاشات وجدل كبير بالقدر الذي يجعله مقبولاً لدى الفعاليات الإسبانية في أغلبية بيدرو سانشيز والمعارضة".
ويوضح أن "الحكومة الإسبانية قدرت بجدية، المصالح الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية مع المملكة المغربية، وقاست ذلك بميزان الربح والخسارة، وانتصرت للإعلان عن موقف واضح يسهم عملياً في حل نزاع الصحراء، ويعيد التأسيس لعلاقة شراكة متوازنة ومريحة مع الرباط".
الفاتحي: سنشهد قريباً تحولاً في موقف الاتحاد الأوروبي من النزاع
ويرى المتحدث نفسه أن "الموقف الإسباني الجديد حول واقعية ومصداقية الحكم الذاتي، من شأنه أن يخلق تغييرات في مواقف الأحزاب الإسبانية الراديكالية من المغرب".
ويتوقع أن "نشهد تحولاً في مواقف الأحزاب السياسية بالقدر الذي يسمح بتقريب وجهات النظر بين البلدين، ويؤسس لشراكات أكثر إنتاجية وفعالية".
كما أن من شأن موقف مدريد من مبادرة الحكم الذاتي "أن يسرّع توالي اعترافات أوروبية أخرى في المستقبل القريب، وأن يتوج ذلك باعتراف مماثل لثاني أكبر تنظيم إقليمي بعد الأمم المتحدة، وهو الاتحاد الأوروبي، بوجاهة الحكم الذاتي كأساس لحل نزاع الصحراء"، بحسب الفاتحي، الذي يضيف: "سنشهد قريباً تحولاً في موقف الاتحاد الأوروبي من النزاع".
جبهة "البوليساريو" تهاجم موقف الحكومة الإسبانية
وبينما سارعت جبهة "البوليساريو" إلى مهاجمة موقف الحكومة الإسبانية، معتبرة إياه "استسلاماً في مواجهة الابتزاز وسياسة الخوف التي يستخدمها المغرب"، و"يتضمن عناصر بالغة الخطورة"، بحسب تصريحات صدرت عن ممثلين للجبهة في إسبانيا، يرى القيادي السابق في "البوليساريو"، مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، في رسالة سانشيز "تحوّلاً في الموقف الإسباني".
ويقول في حديث مع "العربي الجديد"، إن هذه الرسالة تعدّ "موقفاً سياسياً داعماً بشكل صريح للحكم الذاتي من طرف دولة معنية بشكل مباشر بملف النزاع، ومستعمر سابق للإقليم عارف بتفاصيله وتاريخه، ما يجعل هذا الموقف من أقوى المواقف السياسية الداعمة للمقترح المغربي في الحل بعد الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء".
ويرى مولود أن هذا الموقف "سيشجع دولاً عديدة على أن تحذو حذو إسبانيا في دعم المقترح المغربي، وبالتالي، تقريب الحل وطي الملف".
غير أن القيادي السابق في "البوليساريو"، يؤكد في الوقت نفسه أن حسم النزاع، الممتد منذ أكثر من 46 عاماً، بشكل نهائي "يبقى مرهوناً بالإرادة الجزائرية كما كان عليه الحال، على الرغم من أن جل العوامل المؤثرة في ربح النزاع لا تصب في مصلحتها"، على حد تعبيره.