لطالما اعتبرت شعوب المنطقة العربيّة القضيّة الفلسطينيّة قضيتها، حتّى قبل النّكبة، وهو ما فرض على النّظام الرّسميّ العربيّ مواقف عدّةً، تماشيًا مع الضغط الشّعبيّ ومطالبه بتحرير فلسطين، وإعادة شعبها المهجر قسريًّا من قبل العصابات الصّهيونيّة بدايةً، ومن قبل الاحتلال الصّهيونيّ لاحقاً. لكنّ تراجع فاعليّة شعوب المنطقة بعد نكسة يونيو/حزيران أدّى إلى تحرر النّظام الإقليميّ من ضغطها، نتيجة تبعات النّكسة النفسيّة والإيديولوجيّة والسياسيّة، ونظرًا لتمكّن النّظام الإقليميّ من إحكام قبضته على شعوب المنطقة، وإقصائها عن مجمل الحياة السياسيّة، الداخليّة منها والخارجيّة، ومنها القضيّة الفلسطينيّة.
إذًا؛ انحسرت قدرة شعوب المنطقة على إعلاء صوتها وفرض إرادتها باستثناء فتراتٍ محدودةٍ، ارتبط معظمها بتصاعد مسار النّضال التّحرريّ الفلسطينيّ؛ كما حصل في الانتفاضتين الأولى والثّانية، أو نتيجة فداحة الجرائم الصّهيونيّة، كما في الاعتداءات الصّهيونية المتكرّرة على غزّة والأقصى، في حين نجحت بعض شعوب المنطقة في التعبير عن ارتباطها الجوهريّ بالقضيّة الفلسطينيّة في الآونة الأخيرة ولبرهةٍ قصيرةٍ من الزمن، حين امتلكت زمام المبادرة السياسيّة، كما تجلى في ثورة الشّعب المصري في عام 2011، الأمر الّذي يدلُ على الترابط العضويّ بين حرية الفلسطينيّين وحرية شعوب المنطقة.
لكن على الرغم من عودة حيويّة وفاعليّة حركات المناصرة والتضامن الدّوليّة مع فلسطين وقضيتها إلّا أنّها منقوصةٌ من الدّعم على المستوى الرّسميّ
على المستوى الدّوليّ، تأخر دعم القضية الفلسطينيّة والشّعب الفلسطينيّ على الصّعيد الدّوليّ كثيراً، على المستوييْن الشّعبيّ والرّسميّ، كما كان؛ ونسبيًّا ما زال، دعمًا مشروطًا وخاضعًا لحساباتٍ سياسيّةٍ عديدةٍ، نتيجة عوامل كثيرةٍ، منها التوازنات الدّوليّة، ومحدوديّة الحقائق الدّامغة حول القضيّة وتفاصيلها التّاريخيّة والراهنة في تلك المرحلة، فضلًا عن تشابك المصالح، وسطوة الرواية الصّهيونيّة دوليًّا، وتعدد القوى الدّوليّة الداعمة للاحتلال الصّهيونيّ. ساهم تحوّل موقف الاتّحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكيّ من دعم المشروع الصّهيونيّ إلى داعم النّضال التّحرريّ الفلسطينيّ؛ رغم التزامه بشروط المجتمع الدّوليّ وحل الدّولتين تحديدًا، في تصاعد الدّعم الشّعبي العالميّ للفلسطينيّين.
ثمّ أدّى كلٌّ من تفكّك الاتّحاد السوفييتيّ وتوقيع اتّفاق أوسلو إلى تشويش رؤية حركات التّضامن والمناصرة الدّوليّة، إذ غاب حليف النّضال التّحرريّ الفلسطينيّ على المستوى الدّوليّ أولًا، وحوّل اتّفاق أوسلو الصراع مع الاحتلال من صراعٍ وجوديٍّ وأخلاقيٍّ إلى صراع حدوديّ بسيط ثانيًا، وبذلك أطاح الاتّفاق جملةً من الحقوق الفلسطينيّة، كما أطاح تراكم الانتصارات الفلسطينيّة على صعيد نشر الرواية الفلسطينيّة، والتعريف بطبيعة الاحتلال الصّهيونيّ الاستيطانيّة والإحلاليّة، وبممارساته العنصرية وبجرائم التطهير العرقي الّتي ارتكبها ويرتكبها بحق شعب فلسطين وأرضه.
أخيرًا عادت فاعليّة وحيويّة حركات المناصرة والتضامن الدّوليّة في السّنوات الأخيرة، نتيجة ثلاثة عوامل رئيسيّة، هي نشر الوثائق البريطانيّة المرتبطة بفلسطين وقضيتها، خصوصًا المرتبطة بمرحلة الاحتلال البريطانيّ والنّكبة، وكذلك نشر بعض الوثائق الصّهيونيّة التّاريخيّة، التي كشفت عن قسمٍ مهمٍ من جرائم العصابات الصّهيونيّة؛ التطهير العرقيّ والترحيل القسريّ، فضلاً عن مأسسة هذه الجرائم. أيضًا ساهم التّطوّر التكنولوجيّ في فضح الفظائع التي يرتكبها الاحتلال الصّهيونيّ يوميًّا، من تطهير عرقيّ إلى فصل عنصريّ مرورًا بالتهجير القسريّ، عبر قواته العسكريّة والأمنيّة من جهة، ومستوطنيه العنصريّين والإجراميّين المتعطشين للدّم والقتل والتهجير القسريّ من جهةٍ أخرى، كما حصل في حوارة قبل بضعة أشهر، وكما حصل في اعتداءاتهم على فلسطينييّ الداخل في خضم هبة الكرامة، وكما يحصل اليوم في قرية عوريف جنوب نابلس، وبلدة ترمسعيا شمال شرق رام الله.
ولكن على الرغم من عودة حيويّة وفاعليّة حركات المناصرة والتضامن الدّوليّة مع فلسطين وقضيتها إلّا أنّها منقوصةٌ من الدّعم على المستوى الرّسميّ، مقارنةً بحالها قبل انهيار الاتّحاد السوفييتيّ وتوقيع اتّفاق أوسلو المشؤوم، وهو ما يضعف من تأثيرها على المجتمع الدّوليّ، رغم حيويتها وتنوع أنشطتها، الأمر الذي يتطلّب تنسيقًا أكبر وضغطاً نوعيًّا ومتكاملًا بين مختلف الأنشطة والفعاليات والفاعلين، بطريقةٍ تشبه قليلًا آليات حركة المقاطعة، مع إضفاء بعدٍ سياسيٍّ وقانونيٍّ دقيقٍ وواضحٍ وجذريٍّ، لا يهادن بدايةً مع الصّهيونيّة الاستيطانيّة والإحلاليّة، التي تمارس تطهيراً عرقيًّا وفصلًا عنصريًّا وتهجيرًا قسريًّا بحق سكان فلسطين الأصليّين، ويدعم خيارًا تحرّريًّا وتقدّميًّا وحضاريًّا لسكان فلسطين الأصليّين والحاليّين من أتباع الديانة اليهوديّة، المتحرّرين من العقيدة الصّهيونيّة الإجراميّة والعنصريّة، وهو ما يحاكي الميثاق الوطنيّ الفلسطينيّ الأساسيّ، الذي تخلّت عنه القيادة الفلسطينيّة منذ إقرار البرنامج المرحليّ.