أسفرت الخلافات السياسية بين كتل وقوى البرلمان العراقي، عن تجميد عمل المفوضية العليا المستقلة لحقوق الإنسان في البلاد منذ ما يزيد على شهر كامل، مع الإخفاق في الاتفاق على اختيار مجلس أمناء جديد للمفوضية، التي انتهت ولايتها الحالية في 20 يوليو/ تموز الماضي بعد إكمال مدة أربع سنوات، وفقا لما ينص عليه القانون المنظم لعملها. وعلى مدى الأشهر الثلاثة الماضية، لم تنجح القوى السياسية العراقية في التوصل إلى اختيار تشكيلة أعضاء المجلس الجديد، والبالغ عددهم 11 عضواً ورئيساً للمفوضية. وانتهت ولاية المفوضية من دون التوصل إلى تشكيلة جديدة، ما ترتب عليه دخول المؤسسة المعنية بمراقبة قضايا حقوق الإنسان في البلاد، بفراغ قانوني يُتهم البرلمان بالتسبب به بالدرجة الأولى.
ترتب على توقف عمل المفوضية، قطع مرتبات أعضاء مجلسها، وعدم السماح لهم بالعودة إلى وظائفهم السابقة
وترتب أيضاً على هذا التوقف في عمل المفوضية، قطع مرتبات أعضاء مجلسها، وأكثر من 500 عضو رصد في عموم مكاتبها بالمحافظات العراقية الـ18. كما أن عدم قيام البرلمان ورئاسة الجمهورية بإصدار قرار انفكاك المجلس الحالي للمفوضية، للعودة إلى وظائفهم السابقة، جعلهم بحكم المعلقين، مع تأكيد أحد أعضائها لـ"العربي الجديد"، بأنه تم منعهم من التصريح في ما يتعلق بالملفات الحقوقية الحالية في البلاد، "على اعتبار أن ولايتنا انتهت ولا صفة قانونية لنا".
وتعد مفوضية حقوق الإنسان في العراق، إحدى الهيئات المستقلة التي تأسست في عام 2008، وترتبط عملياً بالبرلمان، مثل الهيئات المستقلة الأخرى، على غرار هيئة الإعلام والاتصالات ومفوضية الانتخابات وهيئة النزاهة. ومهمة المفوضية رصد الانتهاكات الحقوقية في البلاد، وتلقي الشكاوى والتحقيق فيها، ورفع الدعاوى القضائية ضد المتورطين بجرائم العنف المختلفة، ومراقبة عمل السجون ومراكز الإصلاح، وأداء عمل المؤسسات الأمنية والعسكرية في الجانب الحقوقي. لكنها واجهت خلال العامين الماضيين اتهامات عديدة تتعلق بالتقصير في رصد الانتهاكات، خصوصاً عقب تفجر الاحتجاجات الشعبية في البلاد (أكتوبر/تشرين الأول 2019).
ووفقاً لمصادر من داخل المفوضية، تحدثت لـ"العربي الجديد"، فإن أعضاء المجلس المنتهية ولايته طالبوا بتصحيح وضعهم القانوني ومنحهم انفكاكا للعودة إلى أعمالهم إذ إن من بينهم أطباء وقضاة ومحامين، جرى تفريغهم من أعمالهم بعد اختيارهم أعضاء في المفوضية. وأكدت المصادر، أن الكتل الرئيسة النافذة في البرلمان لا ترغب بمنحهم انفكاكاً، وتريد بقاء الوضع معلقاً إلى ما بعد الانتخابات التشريعية (مقررة في 10 أكتوبر المقبل)، كون منح الانفكاك يعني قانوناً إلغاء عمل مؤسسة رسمية، بتسريح أعضائها دون إيجاد بديل لهم. وتتلخص الخلافات الحالية بين الكتل بشأن المرشحين، إذ تُصرّ كتل برلمانية عدة، ومنها تحالفا "الفتح" و"دولة القانون"، والحزب الديمقراطي الكردستاني، وتحالف القوى العراقية، على إخضاع تسمية الأعضاء للمحاصصة، وأن يكون الترشيح من خلالهم والتصويت عليهم خلال جلسة واحدة في البرلمان. ولفتت المصادر إلى أن هناك بوادر لتدخل بعثة الأمم المتحدة للضغط على البرلمان بشأن حسم الأزمة الحالية.
من جهته، قال علي التميمي، وهو عضو مجلس أمناء ومتحدث باسم مفوضية حقوق الإنسان، إن "عدم تشكيل مجلس المفوضين الجديد، يعود لعدم عقد جلسات للبرلمان، ولا نعرف متى ستُحل هذه القضية، ونحن حالياً بلا مرتبات أو صلاحيات". وأضاف التميمي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "مفوضية حقوق الإنسان هي من أهم المؤسسات الوطنية المختصة بمراقبة وضع حقوق الإنسان في العراق، وتقاريرها معتمدة دولياً، لكن مع إيقاف عمل المفوضية، باتت السلطة من دون رقابة، وستعمل في الظلام من دون مراقبة رسمية، وهي طريقة يبدو أنها تهدف لقمع المدافعين عن حقوق الإنسان والمنظمات والإعلام". ولفت الى أن "المفوضية ناشدت البرلمان، وقد استجاب نائب رئيس البرلمان حسن الكعبي، في سبيل التوصل إلى حل بخصوص رواتب الموظفين وأعضاء مجلس المفوضين، لكن إلى حد الآن، لا نعرف جواب وزارة المالية بشأن هذا الأمر".
تصّر كتل في البرلمان على إخضاع تسمية أعضاء المفوضية للمحاصصة
أما رئيس لجنة حقوق الإنسان في البرلمان العراقي، أرشد الصالحي، فرأى أن "ما تمر به مفوضية حقوق الإنسان، يمثل فراغاً قانونياً، حيث إن تعليقها بهذه الحالة، مع غياب انعقاد جلسات البرلمان، يؤدي إلى تراجع الاهتمام بالملفات الحقوقية". واعتبر الصالحي، في حديثٍ مقتضب مع "العربي الجديد"، أن "بقاء الحال كما هي عليه، يعني توقف نشاطات أخرى، لا سيما تلك التي تكون فيها المفوضية أساساً للعمل، منها بعض فعاليات المنظمات الدولية المتخصصة بالحقوق". وشدّد على أن "أمام مجلس النواب فترة قصيرة لتشكيل مجلس المفوضية الجديد، ومن غير المقبول أن تبقى الأمور مشلولة كما هي الحال الآن".
وأوضحت الناشطة سمارة رشيد، العاملة في منظمة "الأمل" المعنية بملف حقوق الإنسان في العراق، أن "مفوضية حقوق الإنسان تمثل جوهر العمل الحقوقي الرسمي في العراق، وهي من أهم قنوات التواصل بين المنظمات المحلية والدولية مع الحكومة العراقية، وإيقاف عملها يعني أن هناك شرخاً كبيراً في العمل الحقوقي في البلاد". وشدّدت على أن "من الضروري للسلطات النظر في عمل هذه المفوضية، فإما أن تشكّل مجلس مفوضين جديدا، أو أن يجري تمديد عمل المفوضين الحاليين". ولفتت رشيد، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى وجود "عشرات الملفات والمقابلات للمنظمات المحلية والتي هي متوقفة حالياً، بسبب عدم وجود عمل رسمي لمفوضية حقوقية رسمية".
بدوره، رأى رئيس المرصد العراقي لحقوق الإنسان في العراق، مصطفى سعدون، أن "عمل مفوضية حقوق الإنسان واختيار الأعضاء في مجالس المفوضية، إضافة إلى القرارات التي تصدر بحق المفوضية، تخضع لإرادة سياسية، لا سيما العراقيل التي تؤدي إلى تراجع العمل أو إيقافه، وهو ما يؤثر سلباً على متابعة ملفات حقوق الإنسان، ومراقبة الأداء العملي والإداري الحكومي في دوائر رسمية كثيرة، من ضمنها السجون ودور الإيواء وغيرها". وأشار سعدون، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إلى أنه "لا بد من إيجاد حلّ للتوقف الحالي الذي أصاب المفوضية، واتخاذ إجراءات لعودة عملها، سواء بتمديد مدة عملها مجدداً، أو اختيار مفوضين جدد، إضافة إلى منع التدخل السياسي في العمل الحقوقي، لأنه ينتج إهمالاً وكسلاً وتغاضياً عن كل الانتهاكات والجرائم التي ترتكب".