لم يكن مقتل الشاب الفرنسي من أصول جزائرية، نائل المرزوقي (17 عاماً) على يد شرطي في ضاحية نانتير الباريسية، في 27 يونيو/حزيران الماضي، حدثاً عادياً يحصل في أي بلد في العالم. في فرنسا تختلف الأمور. مُطلق النار شرطي ينتمي إلى الجمهورية الخامسة التي أسسها الجنرال شارل ديغول في العام 1958، والضحية من مجتمع المهاجرين الآتين من شمال أفريقيا.
شكّلت الحادثة شرارة اشتعلت فيها ضواحٍ ومدن فرنسية. ولسبع ليالٍ من العنف، بدت فرنسا والرئيس إيمانويل ماكرون وكأنهما أمام تحدٍ أقسى بكثير من تظاهرات السترات الصفراء أو احتجاجات رفع سن التقاعد. ومع أن حدة الاحتجاجات والتظاهرات خفّت وعدد الموقوفين تراجع تدريجياً وبلغ أدناه ليل الاثنين ـ الثلاثاء، مع توقيف 72 شخصاً، إلا أن كل ذلك أعاد إلى الواجهة أزمة مريرة تعاني منها فرنسا.
ماكرون البعيد
خلال أول أيام الاحتجاجات وما رافقها من أعمال عنف وشغب، بدا ماكرون بعيداً نسبياً. ولعل أبرز ما عكس ابتعاده هو مشاركته في حفل للمغني إلتون جون في باريس، الأربعاء الماضي، فيما الاحتجاجات غير بعيدة عنه، وبعد يوم على مقتل نائل.
لاحقاً مع تصاعد الأحداث، حاول تدارك الأمور. قطع زيارته إلى بروكسل للمشاركة في قمة الاتحاد الأوروبي، الجمعة الماضي، وألغى زيارة إلى ألمانيا كانت مقررة في نهاية الأسبوع الماضي، قبل أن يستدير نحو الداخل الفرنسي.
ألقى اللوم على وسائل التواصل الاجتماعي وألعاب الفيديو وأولياء الأمور، قبل أن يطرح فكرة فرض عقوبات مالية على الأهالي، الذين يسمحون لأطفالهم بالمشاركة في الشغب الليلي. علّل ماكرون ذلك بالقول إن غالبية الاعتقالات طاولت فتية تتراوح أعمارهم بين 14 و18 عاماً.
معسكر اليسار يدعو لإنهاء "العلاقة السامة" بين الشرطة وسكان الضواحي
وعلى الرغم من أن الضجيج في الميدان بدأ يهدأ، إلا أن أمام ماكرون أسئلة عدة يُفترض أن يجيب عنها، لأن ما حصل ليس أمراً استثنائياً، بل متعلق بجوهر التاريخ الفرنسي الحديث، والسياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية للاحتجاجات.
مع ذلك، ظهر ماكرون وكأنه يزور فرنسا للمرة الأولى، بقوله ليل الاثنين إن عليه "المباشرة بعمل دقيق وطويل الأمد لتكوين فهم عميق للأسباب التي أدت إلى هذه الأحداث" قبل أن يلتقي أمس الثلاثاء وفداً ضم 220 من رؤساء البلديات. في الواقع، لا شيء جديداً في فرنسا. الضواحي تشتعل بصورة شبه دائمة، بسبب ومن دون سبب.
التركيبة السكانية في تلك المناطق مكونة من أجيال متعاقبة من المهاجرين، العرب والأفارقة، أي المتحدرين من بلدان استعمرتها فرنسا. التفاوت الطبقي ظاهر في هذه الحمأة، وجميع المعسكرات السياسية تقرّ بوجود مشكلة، وإن تناقضت الحلول، بين يسار داعٍ إلى حوار وفهم سكان تلك الضواحي، وبين يمين متطرف داعٍ إلى الدمج بالقوة أو الترحيل.
أحداث سابقة
في الواقع، تجاهل الرئيس الفرنسي أحداثاً سابقة، أقربها زمنياً مواجهات ليل 14 ـ 15 ديسمبر/كانون الأول الماضي، حين خسر المنتخب المغربي 0-2 أمام نظيره الفرنسي في نصف نهائي كأس العالم لكرة القدم. اشتعلت المواجهات في مدن عدة، خصوصاً في مونبيلييه وباريس. وقُتل فتى يبلغ من العمر 14 عاماً.
وبين 19 و21 يوليو/تموز 2013، اندلعت مواجهات بين الشرطة ومتظاهرين في مدينة تراب، في ضواحي باريس، على خلفية محاولة الشرطة التأكد من هوية سيدة ترتدي النقاب. أُحرقت نحو 20 سيارة وجُرح شخص وتم توقيف نحو 10 أشخاص.
وفي 9 و14 يوليو 2009، بعد مقتل شاب من أصول جزائرية في مركز للشرطة، اندلعت احتجاجات في مونروي، من ضواحي باريس، أُصيب فيها 13 شرطياً.
وبين 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2007 والـ29 منه، اندلعت المواجهات، بعد وفاة مراهقين اثنين من أصول مهاجرة، أثناء اصطدام دراجتهما بسيارة للشرطة، في فيلييه ـ لو ـ بيل وفال دواز، في ضواحي باريس. أُصيب 130 شخصاً وأوقف 39 آخرون.
الحدث الأكبر، الذي شكّل مفصلاً تاريخياً، هو مقتل بونا تراوري وزياد بنا صعقاً بالكهرباء أثناء هربهما من ملاحقة الشرطة لهما، وذلك في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2005. عصف زلزال الاحتجاجات بفرنسا لثلاثة أسابيع متتالية، انتهت بتوقيف 2888 شخصاً، وإصابة آلاف المحتجين، وإحراق آلاف السيارات، كما أُصيب 126 شرطياً ورجل إطفاء، وقُتل 3 أشخاص.
احتجاجات عام 2005 وقعت في عهد الرئيس الراحل جاك شيراك، المعروف بكونه ديغولياً، فسعى إلى احتوائها بعد 3 أسابيع من الصمت. أكد شيراك أن "أطفال الأحياء الصعبة، مهما كانت أصولهم، إلا أنهم جميعاً بنات وأبناء الجمهورية. لن نبني شيئاً دائماً إذا سمحنا للعنصرية والتعصب والإهانة والغضب بالتصاعد".
أوحى شيراك بأنه كان يصنع شيئاً مغايراً، يسمح لسكان الضواحي بمزيد من الاندماج في المجتمع الفرنسي من جهة، ويمنع العنصرية وعنف الشرطة ضدهم من جهة أخرى. غير أنه بعد 18 عاماً على خطاب شيراك، تصرف ماكرون وكأن كل شيء بدأ من الصفر.
وخلال جولة مفاجئة له إلى ثكنة للشرطة في بيسيير، في العاصمة الفرنسية، مساء الاثنين، أبدى ماكرون دعمه لعناصرها، مشيراً إلى أنه "لا يمكن النظر في أي شيء إلا بعد استقرار الوضع... علينا أن نحاول فهم أصل العنف".
وحيال غياب الوضوح التام في خطاب ماكرون، أو العجز عن فهم جوهر الإشكاليات التي برزت في الليالي الأخيرة، نقلت صحيفة "لوموند" عن مصدر في الإليزيه قوله إن "ماكرون يبحث عن خفض التصعيد، عبر المحافظة على نشر 45 ألف شرطي في الشوارع، ولكن من دون اتخاذ تدابير رمزية متطرفة وغير فعّالة".
أما وزير داخليته جيرالد دارمانان، فتحدث عن "تحديد عواقب سياسية واجتماعية وتشريعية بعد استتباب الهدوء"، مناقضاً كلاماً له قاله عبر قناة "تي في 1"، مساء الجمعة الماضي، اعتبر فيه أنه "يجب إيجاد أعذار اجتماعية".
تفاعُل ماكرون مع هذه الليالي كان مغايراً لتعهده خلال الحملة الانتخابية لرئاسيات 2017، حين وعد وفقاً لموقع "ذا كونفرسايشن" الإنكليزي، بإنماء الضواحي وفق مشروع طموح وبتمويل يبلغ 48 مليار يورو، بناء على خطة طرحها وزير البيئة الأسبق جان لوي بورلو.
وبعد الانتخابات، تحديداً في العام 2018، نسف ماكرون الخطة تحت عنوان تعديلها، مع أنها كانت تشمل إنشاء المدن التعليمية والتجديد الحضري ودعم توظيف الشباب، وغيرها. وأعلن عن تأسيس "الهيئة الرئاسية للمدن" المكونة من 25 شخصية، معظمها من الضواحي بهدف بناء جسور وثيقة مع السياسيين الفرنسيين، لكن وبعد 5 سنوات، بدا أن دور هذه الهيئة لم يكن ناجحاً.
وفي مقابل بُعد ماكرون عن الواقع المتراكم، اعتبر أحد المشاركين في الاحتجاجات، الذي اكتفى بذكر اسمه الأول، محمد (39 عاماً)، في حديثٍ لصحيفة "لودوفوار"، أن "هناك تراكمات من الإحباط. كل شيء يبدو وكأنه يتكرر. لقد نشأت هنا (في الضواحي). يؤلمنا حرق المدارس والمتاجر، لكنني شاركت من أجل الصغار".
أما صديقه سفيان (38 عاماً)، فأكد أنه "لا يتم التسامح مع الضرر، لكن ما لا نريده هو عمليات تفتيش الشرطة. نريدهم أن يتعاملوا معنا كما لو كان اسمنا ميشال".
وبالنسبة إلى فتيحة عبدوني (52 عاماً)، فإنها لا تنفي ارتكاب عمليات التحطيم والحرق "لكننا لا نؤيدها، فالمطلوب الآن الاستماع إلى الشبان، ووفاة نائل كانت الشرارة التي أظهرت وجود مشاكل عميقة".
من جهته، قال محمد مشماش، وهو من مؤسسي جمعية في كليشي ـ سو ـ بوا، في ضواحي باريس، عقب أحداث 2005، لـ"لودوفوار": "حان الوقت للتحدث علناً إلى هؤلاء الشباب، وإخبارهم بأنهم جزء من هذه الجمهورية".
وتحدث عالم الاجتماع والأستاذ في جامعة باريس الثامنة، فابيان ترون، عن هذه الأحداث لصحيفة "لوموند"، معتبراً أن الشباب الذين انتفضوا بعد وفاة نائل، تحديداً في أماكن بعيدة عن المدينة التي عاش وقُتل فيها، قد تفاعلوا مع الحدث بشكل شخصي وعنيف لأنه كان من الممكن أن يُقتلوا هم بدلاً منه.
عمليات التحقق من الهوية
ورأى أن كل مراهق يتذكر في مثل هذه الأحداث، اشتباكاته مع الشرطة، خصوصاً بسبب عمليات التحقق من الهوية المتكررة والمهينة. وأضاف ترون أن الفتية يحملون غضباً دفيناً أكثر من الفتيات، اللواتي ينخرطن بصورة أكبر في المكتبات والمراكز الثقافية، كما أن "لعبة القط والفأر" بين الشرطة والشباب في المناطق السكنية هي في الأساس مهنة ذكورية.
ورأى أن الأساس هو تنظيم عملية إصلاح للشرطة، خصوصاً أن الكثيرين من عناصرها يتحدثون عن عواقب البؤس الاجتماعي والأخلاقي الذي يواجهونه، وبالتالي فإن لديهم وعياً بعدم المساواة بين سكان الضواحي وباقي المدن، وليسوا مسؤولين عنها.
وبحسب أمينة سر حزب "أوروبا إيكولوجيا ــ الخضر"، مارين تونديلييه، فإن "قانون الشرطة يجب أن يتغير". ووفق صحيفة "ليبراسيون"، فإن دعوة تونديلييه تحظى بدعم من حزبها وخارجه، لجهة إلغاء قانون الأمن الداخلي الصادر في العام 2017، والذي يتيح للشرطة إطلاق النار في 5 حالات محددة.
وتتضمن الآتي: "عندما تُنفّذ ضدهم (عناصر الشرطة) أو ضد غيرهم هجمات تهدد حياتهم، أو عندما يهدد أشخاص مسلحون حياتهم أو سلامتهم البدنية أو سلامة الآخرين"، و"عندما لا يمكنهم (عناصر الشرطة)، بعد استدعاءين بصوت عالٍ، الدفاع عن الأماكن التي يشغلونها أو الأشخاص المولجين بحمايتهم"، و"عندما لا يتمكن عناصر الشرطة، بعد توجيه استدعاءين بصوت عالٍ، من القيام بعملية اعتقال إلا باستخدام السلاح ضد الأشخاص الذين يُحتمل أن يرتكبوا أثناء فرارهم من الاعتقال أو التحقيق هجمات تهدد حياتهم أو سلامتهم البدنية أو سلامة الآخرين"، و"عندما لا يستطيعون شلّ الحركة، إلا عن طريق استخدام الأسلحة أو العربات أو غيرها من وسائل النقل، ضد العربات التي لا يمتثل سائقوها لأمر التوقف، والتي يُحتمل أن يرتكبوا أثناء فرارهم هجمات على حياتهم أو سلامتهم البدنية أو حياة الآخرين"، و"لمنع تكرار جريمة قتل أو الشروع في القتل، عندما تكون لديهم أسباب حقيقية وموضوعية للاعتقاد بأن هذا الفعل محتمل في ضوء المعلومات المتاحة لهم وقت استخدامهم لأسلحتهم".
اليمين المتطرف يبرّر لجوء عناصر الشرطة لإطلاق النار
وسبق لرئيس حركة "فرنسا الأبية"، جان لوك ميلانشون، أن دعا إلى إلغاء قانون الأمن الداخلي، بعد مقتل نائل. وبالنسبة إلى معسكر اليسار، فإن إنهاء "العلاقة السامة" بين الشرطة والضواحي، ينبثق من إصلاح الشرطة، لأنه لا تكفي معاقبة الشرطي مطلق النار ولا الدعوة إلى الهدوء.
"شرطة مجتمعية"
ووضع معسكر اليسار فكرة إنشاء "شرطة مجتمعية"، تكون قريبة من المواطنين، في صورة مشابهة لفكرة مماثلة طرحها الحزب الشيوعي أيام حكومة ليونيل جوسبان بين عامي 1997 و2002.
وبحسب المتحدثة باسم الحزب الاشتراكي، كلوي ريدل، فإنه يتوجب حل مشاكل أخرى مثل "عمليات التحقق من الهوية"، و"عدم التحقيق الدائم مع الأطفال في أماكن سكنهم، كما لو أنه لا يحق لهم التواجد في محيط منزلهم".
غير أن عملية إصلاح الشرطة لا تحظى بدعم اليمين واليمين المتطرف، فقد اعتبر نائب رئيس حزب "الجمهوريون"، فرانسوا ـ كزافييه بيلامي، أنه "إذا قُتل فتى، فذلك لأنه كان يتهرّب من عملية السيطرة عليه". أما رئيس حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف، جوردان بارديلا، فرأى أنه "عندما لا تقود من دون رخصة، وعندما لا ترفض الامتثال، فإن الشرطة لن تمسك بك".
وما يؤجج الغضب الداخلي، هو أن دارمانان نأى بنفسه عن منشور عنصري لنقابات شرطة، ومنها منشور اعتبرت فيه أنها "في حالة حرب" ضد "جحافل متوحشة" و"آفات"، قبل أن تحاول النقابات تخفيف حدة تصريحاتها.
وبدا اليمين المتطرف وكأنه الرابح الأكبر في الأسبوع الأخير في فرنسا، خصوصاً أن واقعتين أساسيتين برزتا في تلك الليالي. الواقعة الأولى هي إقدام بعض عناصر اليمين المتطرف على حمل عصي و"الدفاع" عن المتاجر في مدينة أنجيه (غرب فرنسا). والواقعة الثانية هي تنظيم مسيرة في وسط مدينة ليون (جنوب شرقي فرنسا).
وبالنسبة إلى هذا اليمين، فإن صعوده، منذ خسارة جان ماري لوبان الجولة من رئاسيات 2002، بفارق شاسع أمام منافسه جاك شيراك، وصولاً إلى نيل مارين لوبان أكثر من 40 في المائة من الأصوات في الجولة الثانية لرئاسيات 2022، هو ترجمة لشعاراته القومية والعنصرية المناهضة للمهاجرين. ومن شأن ترك أزمة الليالي الأخيرة من دون حل أن تسعف هذا المعسكر في السعي لكسب مزيد من المقاعد في استحقاقات انتخابية مقبلة، بدءاً من الانتخابات الأوروبية في يونيو 2024، ثم البلديات 2026، فالرئاسيات في 2027.