في ظل تحذيرات مصرية من استمرار الممارسات الإثيوبية التي وصفها وزير الخارجية سامح شكري أمام الاجتماع الوزاري لجامعة الدول العربية الأخير بـ"الأحادية" في قضية سد النهضة، وما يمكن أن تحمل معها من خطر على مصر، يتحدث أستاذ هندسة السدود في جامعة INTI-IU في ماليزيا الدكتور محمد حافظ، في حوار مع "العربي الجديد"، عن آخر المستجدات حول ملف سد النهضة وإمكانية توجه القاهرة إلى مجلس الأمن الدولي.
اطلعنا على آخر المستجدات الفنية في ملف سد النهضة، وطبيعة المخاطر التي تواجه مصر بناءً على تلك المستجدات؟
الصور المتاحة من موقع السد توضح مدى تقدّم الجانب الإثيوبي في صب خرسانة بمعدلات كبيرة في جميع أجزاء سد النهضة، سواء الكتلة الشرقية أو الغربية، واللتان وصلتا اليوم إلى قرابة منسوب 625 متراً فوق سطح البحر، بينما منسوب الممر الأوسط في ارتفاع تدريجي منذ بداية تجفيف الممر والذي كان في بداية شهر فبراير/شباط الماضي. ويُتوقع أن يكون اليوم عند منسوب 605 أمتار فوق سطح البحر.
وتؤكد الصور الحديثة للممر الأوسط والتي نشرتها شركة مكسار يوم 9 مارس/آذار، وجود ارتفاع متزايد للممر الأوسط تجهيزاً لبدء الملء الرابع مع بداية الفيضان في شهر يونيو/ حزيران المقبل.
ما الذي يعنيه وصول منسوب الممر الأوسط إلى 625 متراً فوق سطح البحر؟
وصول الممر لمنسوب إلى هذا الرقم يعني ضمنياً قدرة إثيوبيا على تخزين قرابة 27 مليار متر مكعب بحيث يصل إجمالي التخزين إلى قرابة 49 مليار متر مكعب، أي 22 مليار متر مكعب بالبحيرة اليوم زائد 27 مليار متر مكعب بالملء الرابع، وهذا هو ما تم الاتفاق عليه خلال اجتماع الدول الثلاث مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في فبراير/ شباط 2020، حيث وقّع وزير الري المصري محمد عبد العاطي، بشكل منفرد على جدول الملء لسد النهضة والذي سمح فيه لإثيوبيا بالوصول إلى مخزون يعادل 49,3 مليار متر مكعب مع نهاية الملء الرابع.
وعلى الرغم من رفض إثيوبيا التوقيع على هذا الجدول، ومغادرة جلسة المفاوضات في البيت الأبيض إلا أنها من حيث المبدأ تلتزم بالكميات المذكورة في الجدول وسوف تصل بمخزون بحيرة سد النهضة خلال الملء الرابع إلى قرابة 49 مليار متر مكعب. وعليه فادعاء الدولة المصرية بأن إثيوبيا تنفذ الملء الرابع بدون "إذن مسبق" هو ادعاء كاذب تماماً، والدليل على ذلك توقيع وزير الري السابق على جدول الملء أمام ترامب في فبراير 2020.
ووصول منسوب التخزين إلى 600 فوق سطح البحر بعد نجاح الملء الثالث وتخزين قرابة 22,4 مليار متر مكعب قد نقل مفهوم التخزين بسد النهضة إلى مرحلة جديدة تماماً. وكان التخزين (الأول والثاني والثالث) يتم بشكل مباشر في بحيرة السد الخرساني، إلا أنه بداية من الملء الرابع سيكون التخزين مباشرة في بحيرة سد السرج وهذا يعني أن كل متر ارتفاعا في بحيرة سد السرج المتسعة تبلغ سعته قرابة مليار متر مكعب.
ادعاء الدولة المصرية بأن إثيوبيا تنفذ الملء الرابع بدون "إذن مسبق" هو ادعاء كاذب تماماً
وفي الوقت الذي اتسعت فيه بحيرة سد النهضة منذ بداية التخزين الأول حتى نهاية التخزين الثالث لقرابة 820 كيلومترا مسطحا، إلا أنه مع نجاح الملء الرابع فمن المنتظر أن تصل فيه مساحة التخزين إلى قرابة 1750 كيلومترا مسطحا، أي بزيادة تعادل 115% عما كانت عليه في أغسطس/ آب 2020. بينما سيصل إجمالي ما سيتم تخزينه بتلك البحيرة خلال الملء الرابع فقط، إلى زيادة بقرابة 35% عن إجمالي كل ما تم تخزينه خلال الملء الأول والثاني والثالث.
ما هي أخطار الملء الرابع على الدولة المصرية؟
تخزين إثيوبيا خلال صيف 2023، 27 مليار متر مكعب، يضاف إليها قرابة 3 مليارات متر مكعب تهدر في فواقد البحيرة، حيث سيتم تخزين الملء الرابع بالكامل في بحيرة سد السرج وليس في بحيرة السد الخرساني، حيث سيهدر على الأقل 3 مليارات متر مكعب من خلال عملية تشبع تربة قاع بحيرة سد السرج، وعليه فإنه عملياً سيتم تخزين 30 مليار متر مكعب، بينما يصل متوسط إجمالي تصرف تدفقات النيل الأزرق خلال فصول الصيف الثلاثة (يوليو/ تموز وأغسطس/ آب وسبتمبر/ أيلول) تقريباً إلى 35 مليار متر مكعب.
في حال كان فيضان عام 2023 متوسطاً، أي يعادل 48,5 مليار متر مكعب سنوياً، فلن يصل إلى بحيرة ناصر خلال أشهر الصيف نقطة مياه واحدة
وعليه فحجز قرابة 30 مليار متر مكعب من تدفقات الصيف تعني تبقي قرابة 5 مليارات متر مكعب سيقوم السودان باحتجازها بسدودها على النيل الأزرق (الروصيرص وسنار). وعليه يمكن القول بكل ثقة، إنه في حالة ما إذا كان فيضان عام 2023، هو فيضان متوسط، أي تدفق يعادل 48,5 مليار متر مكعب سنوياً، ففي هذه الحالة لن يصل إلى بحيرة ناصر خلال أشهر الصيف نقطة مياه واحدة، ولكن سيصلها فيما بعد (سبتمبر/ أيلول) قرابة 14 مليار متر مكعب من النيل الأزرق. بينما في حالة أن فيضان عام 2023 فوق المتوسط، فمن الممكن أن يصل إلى بحيرة ناصر قرابة 20 مليار متر مكعب بنهاية العام المائي والذي سينتهي يوم 31 يوليو/تموز 2024.
ما هو الموقف المائي للدولة المصرية في العام الحالي؟
وصل منسوب بحيرة ناصر يوم 4 مارس/ آذار الحالي إلى قرابة 180,88 فوق سطح البحر وذلك انخفاض قدره متر واحد فقط عما كان عليه يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول 2022، حيث كانت البحيرة في أعلى منسوب ممكن بالقرب من 182، وهذا إن كان يدل على شيء فهو يدل على أن وزارة الري تنفذ مخططاً تقشفياً شديداً، وأنها تقريباً تسمح بتصريف التدفق اليومي الذي يصل إليها من روافد النيل المختلفة من دون أي سحب ملحوظ من بحيرة ناصر، وهذا أمر جيد جداً في هذا التوقيت بهدف الحفاظ على كل نقطة مياه ممكنة في البحيرة لمواجهة تبعات الملء الرابع.
إلا أن هذه السياسة التقشفية الحذرة لا يمكن أن تستمر طويلاً. فتدفق النيل الأزرق اليوم ليس أكثر من تلك الـ50 مليون متر مكعب التي تصرف لدولتي مصر والسودان من أنبوب المنفذ السفلي بالجانب الغربي لسد النهضة، يضاف إليها قرابة 20 مليون متر مكعب تصرف التوربينات المنخفضة والتي تعمل قرابة 12 ساعة فقط يومياً، بينما تصرف النيل الأبيض منذ بداية شهر فبراير الماضي حتى اليوم يعتبر خيبة أمل كبيرة حيث انخفض منسوب بحيرة فيكتوريا منبع النيل الأبيض بشكل ملحوظ جداً، قد يكون تمهيداً لبداية السنوات العجاف على دول حوض النيل جميعها.
وانعكس ذلك بشكل كبير من خلال العديد من الحرائق التي خرجت من أرضية عدد من القرى السودانية، والتي بنيت على أرضية من تربة الـ(Peat) وهي تربة عضوية مغمورة بالمياه الجوفية القادمة من النيل الأبيض طيلة الوقت، إلا أنه بعد شح النيل الأبيض خلال هذه الأيام انخفض منسوب المياه الجوفية تحت أرضية العديد من القرى السودانية حيث أفرزت تلك التربة العضوية الجافة كميات كبيرة من غاز الميثان، والذي تسبب في اشتعال أرضية تلك القرى على مدار الشهرين الماضيين.
وعليه فإن شح النيل الأبيض هذا العام والذي يترافق مع الملء الرابع على النيل الأزرق، قد يضع الدولة المصرية في مأزق حياتي خطير. وتضر وزارة الري بصرف كميات ضخمة من الاحتياطي ببحيرة ناصر والذي يبلغ اليوم قرابة 150 مليار متر مكعب، وهذا احتياطي قد يكفي الدولة المصرية لتعويض ما سيتم تخزينه في بحيرة سد النهضة خلال عام 2023/2024، إلا أنه مع حلول شهر سبتمبر 2024، سيكون من الصعب جداً تعويض أي مياه من بحيرة ناصر، إذ يُتوقع وصول منسوب البحيرة إلى قرابة 162 فوق سطح البحر.
شح النيل الأبيض هذا العام والذي يترافق مع الملء الرابع على النيل الأزرق، قد يضع الدولة المصرية في مأزق حياتي خطير
وهنا يجب لفت النظر إلى ما يحدث بسدود السودان، والتي كانت تبدأ بتفريغ ما تبقّى بها من مياه قبل وصول فيضان النيل الأزرق في أغسطس/ آب، وهذا كان يفيد الدولة المصرية بشكل كبير حيث كانت تتسلم من السودان قرابة 5,5 مليارات متر مكعب سنوياً تُعرف بالسلفة السودانية. إلا أنه بسبب شح النيل الأبيض فمن المتوقع أن تصرف السدود السودانية، الواقعة على النيل الأزرق، قدراً مما بها من مخزون، ولكن ليس لتصل إلى بحيرة ناصر بل لتخزن في بحيرة سد مروي والذي ينتظر أن يتعرض إلى قدر من قلة التدفق بسبب شح النيل الأبيض هذا العام، وعليه فالسلفة السودانية غالباً لن تذهب هذا العام إلى مصر بل ستخزن في بحيرة سد مروي.
هل من إمكانية لتوجّه مصر للمرة الثالثة إلى مجلس الأمن، وهل من جدوى لمثل هذه الخطوة إن حدثت؟
لا أعتقد أن أي تحرك دبلوماسي مصري سواء على المستوى العربي أو الدولي سيكون له أي مغزى على أرض الواقع، فقد فشلت المباحثات الفنية السرية بين مصر وإثيوبيا في أبوظبي، الأسبوع الماضي، هذا على الرغم من تدخّل دولة الإمارات بكل ثقلها الاستثماري، إلا أن رفض إثيوبيا كان قاطعاً وغير قابل لأي مساومة. لذلك فتحركات وزير الخارجية المصري، سامح شكري، ليست أكثر من رد فعل، لحديث المعارضة المصرية بالخارج والتي تتهم نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، ببيع النيل لإثيوبيا، ثمناً لوصول السيسي إلى حكم مصر.
ولهذا فلا يمكن توقّع أي حل إيجابي لهذه المشكلة حتى ولو تم رفع ملف سد النهضة للمرة الثالثة لمجلس الأمن، فكيف لمجلس الأمن أن يتدخّل ويساعد الدولة المصرية في وقت تصر فيه الدولة المصرية على التمسك باتفاقية مبادئ سد النهضة والتي تغل يد أي وسيط خارجي من اتخاذ أي قرار قد يفيد الدولة المصرية في المستقبل.
ولذلك فلن ينظر مجلس الأمن إلى قضية سد النهضة بشكل جدي، ما لم تنسحب الدولة المصرية من اتفاقية مبادئ سد النهضة بشكل نهائي وتطلب تدخّل وسيط دولي لحل تلك المشكلة، والتي هي ليست مشكلة حياة للشعب المصري فقط، بل أيضاً هي مشكلة أمنية تمس استقرار إقليم الشرق الأوسط بالكامل.