في هذه الأيام يكون قد مر حوالي المائة عام على التاريخ المتفق عليه لنشوء الحركة العمالية والنقابية في فلسطين وخلال قرن من الزمن لم تكن نشأة النقابات الفلسطينية كنتاج طبيعي للتطور الاقتصادي في فلسطين أو نتيجة صراع طبقي أو مطالب حقوقية بشكل عام ولكنها مثل جميع المنظمات والأحزاب السياسية التي ظهرت خلال قرن من الزمن تزامنت مع التغيرات العديدة سياسياً واقتصادياً وثقافياً بشكل متسارع.
من الاحتلال البريطاني تحت مسمى الانتداب الذي ساهم في هجرة آلاف الفلاحين الفلسطينيين أرضهم من الريف إلى المدن ليتحولوا إلى العمل المأجور، الذي ترافق مع نشوء العديد من الصناعات والأعمال العديدة مثل الطباعة والبريد والميناء والسكة الحديد وغيرها، التي تم إنشاؤها لتلبية احتياجات حكومة الانتداب البريطانية، مما أدى إلى وجود تجمعات في المدن ذات مصالح مشتركة في العمل. وبالتالي لم يكن غريباً نشوء الجمعيات العمالية التي تم تأسيسها للدفاع عن المصالح العمالية وفي تنظيمهم للقضايا الاقتصادية والاجتماعية (يمكن العودة النظام الداخلي لجمعيـة العمال العربية الفلسطينية بحيفا. (أحمد اليماني. جمعية العمال العربية الفلسطينية بحيفا. دار كنعان للدراسات والنشر والتوزيع. دمشق. 1993) وترافق ذلك مع تسهيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
وفي خضم النضال من أجل تحسين ظروف العيش والعمل تصدر الموضوع السياسي وخطر تزايد المهاجرين اليهود إلى فلسطين، لينتبه الشعب الفلسطيني ونقابيوه إلى خطورة هذا الاتجاه، وبدأ الصراع والنضال الوطني للتصدي لهؤلاء المستعمرين الجدد، وبدأت تبرز أولوية النضال الوطني التحرري كقضية أساسية، في حين تراجع العمل النقابي والمطلبي في انتظار التحرر ويلي ذلك الذهاب إلى القضايا المعيشية والمطلبية، ولعبت القيادات النقابية دوراً في تنظيم الاحتجاجات والنضال ضد الاحتلال البريطاني ومشروعه في تسهيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
لذلك لم يكن غريباً أن معظم النقابات العمالية أو ما سمّي حينها جمعيات العمال العرب؛ بمختلف أسمائها؛ كانت ظاهرياً نقابية ولكنها في الواقع كانت جزءاً من النضال الوطني الفلسطيني من أجل الاستقلال، ووجدت القيادات العمالية نفسها في قلب النضال الوطني (رغم محاولات التهميش التي كانت القيادات الوطنية التقليدية تسعى لها) لمقاومة الاحتلال البريطاني، وتم تحييد النضال المطلبي وتهميشه في سبيل الأولوية الوطنية. من هنا بدأ استخدام النقابات كأداة للتأثير السياسي والحصول على الاعتراف الوطني بهم كقيادات سياسية، حتى إن البعض سعى إلى تأسيس أحزاب سياسية لم يكتب لها الظهور ولم يكن الظرف ليتيح لها ذلك فقد جاءت النكبة لتقضي على كل الطموحات الوطنية التي بنيت عليها الآمال.
مع ذلك فإن النقابيين الفلسطينيين حتى بعد تشتتهم لم يتغير فهمهم لهذا الربط القصري بين ما هو نقابي مطلبي ومعيشي وما هو نضال وطني من أجل التحرر وبناء الوطن الفلسطيني المستقل، وهذا أدى لاحقاً إلى ملاحقة هذه القيادات وتعرضها للقمع والاعتقال وخاصة بعد نكبة 1948، بسبب مواقفهم الوطنية الواضحة ووقوفهم ضد الاستعمار وأعوانه. تم استخدام النقابات كمداخل علنية للعمل السياسي والحزبي في ظل حظر الأحزاب فترة الحكم الأردني في الضفة الغربية وقطاع غزة حتى عام 1967.
ومع اكتمال احتلال فلسطين التاريخية استشعر الاحتلال الإسرائيلي خطر النقابات والنقابيين، إذ قام بحظر الأحزاب والتنظيمات الفلسطينية والنقابات وأبقى على هامش محدود للعمل العلني لبعض النقابات، وخاصة في الضفة الغربية، مما أبقى النقابات تحت سلطة القيادات السياسية والحزبية في محاولة لتنظيم الجمهور مع بعض الأنشطة المحدودة ذات الطابع العمالي والمطلبي المحلي. في حين كانت أعين النقابيين على النشاط السياسي والوطني، ولم تتغير النظرة إلى النقابات باعتبارها أدوات "يسارية" لتغطية النشاط الوطني والحزبي لذلك، لم يكن الانضمام للنقابات ذا أسباب مطلبية اقتصادية واجتماعية، مما أعاق خلق نقابيين أو حركة نقابية فاعلة تكون رديفاً مهماً للحركة الوطنية السياسية الفلسطينية، وهذا ظهر واضحاً في الانشقاقات التي ظهرت في الحركة العمالية في ثمانينيات القرن الماضي، التي اتسمت بالطابع السياسي، وما يدلل على ذلك لاحقاً الطريقة التي تم بموجبها توحيد الحركة النقابية في اتحاد واحد، تتقاسم فيه التنظيمات الفلسطينية المواقع القيادية بعيداً عن العمال وهمومهم ومطالبهم، وبقي مفهوم الأولوية السياسية والوطنية وتغليبها على القضايا العمالية والاجتماعية، بدلاً من تعزيز النضال العمالي والاجتماعي كي يساهم في التحرر الوطني.
لم يساعد إنشاء السلطة الفلسطينية في توضيح العلاقة والفصل بين العمل النقابي والعمل السياسي، بل كرس الهيمنة السياسية على النقابات الفلسطينية بمباركة السلطة الفلسطينية وجميع القوى "اليسارية واليمينية" على حد سواء، ما أضعف دور النقابات حتى أصبحت على هامش العمل الوطني والسياسي أيضاً، إذ تم بشكل مدروس افراغ النقابات من العضوية الحقيقية لصالح تقاسم المواقع، ما ساهم في تراجع العمل النقابي بل وأدى إلى غيابه عن الفعل الحقيقي الوطني والمطلبي وابقاه في الهامش. فعلى الرغم من بروز عدد من النقابات والنقابيين المستقلين في بدايات القرن الحالي نتيجة الأوضاع الاقتصادية والمعاناة في العمل، حيث تشكلت العديد من النقابات خارج الأطر الرسمية، إلا أن دورها بقي هامشياً في ظل الدعم الرسمي الكامل للنقابات الرسمية والضغوطات التي مورست على النقابات المستقلة لإبقائها في موقف ضعيف.
لذلك ليست صدفة أن الواقع العمالي الحالي تم إفراغه من مضمونة الحقيقي وفقد ثقة العمال، ما أدى إلى ابتعادهم عن النقابات والأحزاب، وبالتالي الابتعاد عن المساهمة في الفعل السياسي أو الاجتماعي لصالح النخبة السياسية الحاكمة وبقي التداخل والتناقض بين أي من الأولويات يمكن تبنيها في ظل كل ما يحدث.