في الحلقة الأخيرة من حواره يستعيد السفير الفلسطيني عمر صبري كتمتو أجواء انشقاق الجبهة الشعبية وتحرير جورج حبش من المعتقل وتأسيس الجبهة الديمقراطية.
- متى انتسبت للجبهة الديمقراطية؟ هل كان ذلك بتأثير من أخيك محمد، أحد مؤسسي الجبهة الديمقراطية؟
لا، أخي محمد كان يصغرني عمرا وأنا الذي أثرت عليه للانتساب لحركة القوميين العرب، بعدها صعد محمد رغم صغر سنه ليكون في قيادة الحركة مع جورج حبش.
وأذكر أن حبش بكى بكاء مرا عندما توفي أخي محمد وقال لي: "كان يذكرني بشبابي". قلت لحبش: أرجو أن تكون قد غفرت له انشقاقه عنك، فأجاب أن حواتمة هو الذي انشق وليس محمد.
انتسبت للديمقراطية عام ١٩٧٤ وانتهت علاقتي التنظيمية بها عام ١٩٨٨.
- هل كان حبش ناقما على نايف حواتمة؟
لم يكن يحبه، ولكن حبش لا يعرف الحقد بينما نايف حقود أو لنقل إن حبش حنون فيما نايف قاس.
- نعود لقصة خروجك من الجبهة الديمقراطية؟
أثناء اجتماع الجزائر وبينما كنت أهم بالدخول لاجتماع الجبهة الديمقراطية برفقة حواتمة جاء فهد سليمان، لا يحبني ولا أحبه، وهمس في أذن حواتمة الذي قال لي إن موقعك التنظيمي لا يسمح بدخول المؤتمر وهكذا انتهت علاقتي التنظيمية بهم.
أذكر أن حواتمة طلب مني عندما عينت سفيرا أن أرسل له نسخة من التقارير التي أرسلها لأبي عمار فرفضت وقلت إنني سفير لفلسطين وليس للجبهة، ولكني عينت أحد منتسبي الجبهة في السفارة ليزود حواتمة بما يطلب.
- لم تكن هناك خلافات عقائدية؟
لا، لو كنت حاضرا يومها لوقفت مع حواتمة وليس مع ياسر عبد ربه، حواتمة أكثر ثقافة ووعيا، ولكنه نرجسي.
- لكن هذا لم يكن الانشقاق الأول في الجبهة الشعبية!
منذ تأسيس الجبهة الشعبية عام ١٩٦٧ لم تتوقّف الخلافات الداخليّة، فبعد شهور من تأسيسها انسحب أحمد جبريل ثم تفاقمت الخلافات فتم إعداد مشروع "وثيقة آب"، وعقد المؤتمر الأول للجبهة في منطقة الأغوار الأردنية عام ١٩٦٨ بغياب الحكيم المسجون في سورية، وشهد المؤتمر مشاحنات صاخبة بين التيارين القوميّ بقيادة الدكتور وديع حدّاد والتيار الأمميّ بقيادة نايف حواتمة، وانتهت الانتخابات بفوز كبير للتيّار الأمميّ، فما كان من الدكتور وديع حدّاد إلّا أن طوّق المؤتمر بشباب مسلّحين ووضع أسماء قيادة جديدة من الطرفين، ما أدّى لموافقة الجميع. أما أسباب الانشقاق فليس ما يقال عنه من يمين ويسار وإنما أسباب ذاتيّة وبمساعدة من قيادة فتح وقيادة البعث الفلسطينيّ (الصاعقة).
- ألم تكن هناك خلافات فكرية نظرية؟
بلى، مع بداية تأسيس الجبهة الشعبية توافق الجميع على مجمل الأفكار والمقولات السياسيّة التي وردت في "وثيقة تموز ١٩٦٧" التي قام بصياغتها جورج حبش وتمّ إقرارها من قيادة الحركة, ولكن بعد اعتقال الحكيم في سورية تزايد الاختلاف الداخليّ الحادّ في صفوف القيادة والكوادر القادمة من حركة القوميّين العرب، وتمحور الخلاف حول الموقف من البرجوازيّة العربيّة والأنظمة الوطنيّة ومدى تبني الماركسية، ولذا تمت صياغة وثيقة أغسطس/ آب عام ١٩٦٨ وعقد المؤتمر الأول، والذي انتهى إلى قيادة مشتركة فرضها وديع حداد، ولكن المؤتمر لم ينجح باستعادة الوحدة ولم يكن ذلك بسبب الخلاف النظري وإنما لأسباب ذاتية، الانشقاق لم يكن ناتجًا عن رؤيتين أو موقفين متناقضين أحدهما "يمينيّ" والآخر "يساريّ" بقدر ما كان انعكاسًا لمواقف ذاتيّة تركت بصماتها على طبيعة العلاقات الشخصيّة.
بالرغم من اتّفاق الفريقين على جوهر الأفكار المطروحة في وثيقة أغسطس/ آب، إلّا أنّ الفريق المنشقّ أصرّ على الاستمرار في ترتيب عمليّة الانشقاق، بعدما فشلت محاولات القائد المؤسّس جورج حبش لرأب الصدع الداخليّ عبر الحوار مع رفاقه عمومًا والرفيق نايف حواتمة، لكن هذا الفريق تمترس بطروحات سياسيّة وفكريّة كان من الواضح أنّها تدفع سريعًا نحو الانشقاق. وفي هذا السياق، يقول الحكيم: كانت لدى نايف حواتمة وبعض الرفاق وجهات نظر في قضايا سياسيّة وتنظيميّة. كانوا يقولون مثلًا إنّ منظّمة التحرير الفلسطينيّة هي إفراز بورجوازيّ وإنّنا عندما نراهن عليها نكون كأنّنا نعيد للبورجوازيّة شرعيّتها في قيادة حركة التحرّر الوطنيّ. وبالتالي فإنّ علاقتنا مع منظّمة التحرير يجب أن تكون علاقة صراع في الدرجة الأولى. وكانوا يقولون أيضًا إنّ قيادة منظّمة التحرير إنّما هي قيادة يمينيّة تقليديّة وإنّ الجبهة باعت ما تمثّله بسبب موقفها المترامي أو الذيلي من منظّمة التحرير، وكانوا يرون أنّ التجمّع الوطنيّ في الأردنّ لا فائدة منه وأدانوا الجبهة لأنها دخلت فيه. وهذا التجمّع الذي سموه "التجمّع اللاوطنيّ" شجعنا قيامه واشتركنا فيه ليكون عمليّة إسناد لحركة المقاومة الفلسطينيّة، تمامًا كما هو الحال في لبنان بالنسبة للحركات الوطنيّة التي تساند المقاومة. وعلى الصعيد العربيّ كانوا يطالبون بخوض معركة مع الانظّمة البورجوازيّة الصغيرة في تلك الفترة. وكانوا يعتبرون موقف عبد الناصر يمينيًّا متخاذلًا.
وعلى الصعيد العالميّ كانوا على يسار ماوتسي تونغ بمئة متر وخاضوا معارك كتابيّة ضدّ الاتّحاد السوفييتيّ.
وبالنسبة إلى الأمور العسكريّة طرحوا مبدأ اعتماد الديمقراطيّة التامة في البناء العسكريّ وأنّه لا يجوز أن تقام قواعد عسكريّة في الأردنّ لأنّ القتال يجب أن يتم داخل الأرض المحتلّة.
وكانوا يرون أنّ البورجوازيّة الصغيرة يمكن أن تكون معسكرًا وطنيًّا لمرحلة معيّنة لكن بعد ذلك لا بدّ من خوض معركة معها.
- لكن الانشقاق تأخر حوالي العام!
تكرس الانشقاق في ٢٢ شباط/ فبراير ١٩٦٩، ولكن بين المؤتمر الأول للشعبية وتاريخ إعلان ولادة الديمقراطية نشر جناح المنشقين مقالات ودراسات في مجلّة "الحريّة"، يصف فيها نفسه "بالأوساط التقدميّة داخل الشعبيّة" مضمّنًا إياها اتّهامات مختلفة للجبهة.
وردًّا على هذه المواقف قامت الجبهة الشعبيّة بإصدار بيان أكّدت فيه تبنّيها منذ مؤتمر آب الاشتراكيّة العلميّة دليلًا نظريًّا، كما أكّدت أنّ المؤتمر اتّفق على "أنّه في مرحلة التحرّر الوطنيّ لا بدّ من تحالف طبقيّ يشمل كافّة الطبقات بقيادة الطبقة الكادحة وفي ظلّ أيدولوجيتها الاشتراكيّة، وأنّه لا بدّ من فتح النار على كافّة القوى المعادية للجماهير في الوطن العربيّ"، واتّهم البيان منتقدي الجبهة من الداخل بأنّهم جيوب انتهازيّة تمثّلت بمجموعة من المراهقين مثقّفي المناصب الذين يتشدّقون بالاشتراكيّة العلميّة تشدّقا لفظيًّا دون أن تكون لديهم القدرة على ممارستها "رفضوا النزول إلى القتال في الداخل ورفضوا الإقامة في المخيّمات والريف بيئة اليسار الحقيقيّ واكتفوا بعمليّة كيل الاتّهامات هنا وهناك دون تقدير لخطورة المرحلة ودون وعي لمصير الكفاح المسلّح". وأضاف البيان أنّ القيادة طلبت منهم العمل تحت اسم آخر غير الجبهة، لكنّهم رفضوا، ولهذا أكّدت الجبهة على أنّه إذا أصرّ المفصولون على العمل باسم الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين فسنعتبر صراعهم هذا انتهازًا رخيصًا وعملًا تخريبيًّا لا يجوز السكوت عنه.
وفي ٢٢ شباط/ فبراير ١٩٦٩ تكرّس الانشقاق الأخطر في حياة الجبهة بإعلان تأسيس الجبهة الديمقراطيّة لتحرير فلسطين، "وتشكيل لجنتها المركزيّة ولم يمثّل فيها من "الأكثرية اليساريّة" التي انتخبها مؤتمر آب سوى نايف حواتمة".
- ماذا عن هروب جورج حبش من سجن الشيخ حسن في دمشق عام ١٩٦٩؟
حصل اتفاق بين الطرفين، الذين بقوا في الجبهة الشعبية والذين انشقوا عنها، لأن كل طرف كان يأمل بأن يكون الحكيم معه، فضلا عن أن خروج حبش من السجن يمكن أن يعيد توحيد الجبهة.
وضعوا خطة الهروب وكانت تعتمد على رقيب سوري في السجن منتم لحركة القوميين العرب وكان رئيس المخابرات عبد الكريم الجندي يستدعي كل فترة حبش من السجن لمقر المخابرات وكان يحرص على إهانته، وعرف المخططون خط سير المركبة التي ستقل الحكيم، وقاد عملية التحرير ذكي هللو وكان ذا بنية ضخمة واغتاله الموساد لاحقا في إسبانيا.
وضع هللو رتبة عميد في الجيش السوري وكان معه سائق وسيارة عسكرية أخرى فيها أعضاء من الجبهة بملابس عسكرية سورية واعترضوا المركبة التي تقل الحكيم في باب الجابية وجردوا الجنود السوريين من ذخائر أسلحتهم وحرروا الحكيم متوجهين به إلى الحدود اللبنانية.
- غلبني قدري!
كان عمر صبري كتمتو قبل انشغاله بالسياسة يكتب الشعر والمسرح فأصدر ديوانا شعريا بعنوان (نداءات لصقر قريش) عام 1972 عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق ومثل الشعر الفلسطيني في مهرجان الجزائر رفقة أحمد دحبور وخالد أبو خالد ومن ثم كتب مسرحية عام 1983 (بيت ليس لنا) ولكن نشرها تأخر حتى عام 2019 ومن ثم عاد لكتابة الأدب بعد التقاعد فأصدر ديواناً شعرياً ثانياً (ما زال في العمر بقية) ورسائل متبادلة بينه وبين الأديبة الفلسطينية روز يوسف شعبان بعنوان (وطن على شراع الذاكرة).
يتذكر السفير أجواء النقاشات الثقافية وتحديدا حول قصيدة النثر وشعر التفعيلة في مرسم فاتح المدرس بحضور ممدوح عدوان وعلي كنعان كما يتذكر صداقته مع الراحل غسان كنفاني والشاعرة الراحلة سنية صالح التي عرفته على محمد الماغوط وكتبت له عند زواجها من الماغوط "لقد غلبني قدري".
الحلقة الأولى من الحوار:
الحلقة الثانية من الحوار: