استمع إلى الملخص
- **تفاعلات أهل نابلس مع الاحتلال**: تباينت ردود فعل أهل نابلس بعد نكسة 1967؛ حيث لعب حمدي كنعان دوراً محورياً في منع تهجير السكان وتواصل مع القناصل الدوليين للضغط على إسرائيل.
- **العلاقة مع عمّان والصراعات السياسية**: كانت علاقة كنعان مع حكومة عمّان والملك حسين متقلبة، وشهدت صراعات سياسية مع رئيس الوزراء بهجت التلهوني، مما أدى إلى استقالته من رئاسة البلدية في مارس 1969.
تتقاطع مذكرات حمدي كنعان، رئيس بلدية نابلس (1963-1969)، مع تاريخ الإدارة الأردنية للضفة الغربية بعد حرب 1947-1949؛ فإلى جانب اعتمادها نص المذكرات التي خطها كنعان بيده، يستعين شلش في كتابه بأرشيف بلدية نابلس خلال تلك الفترة، وما يحتويه من وثائق حول العمل الإداري اليومي وعلاقة المدينة مع حكومة عمّان، إضافة إلى القرارات التي تتقاطع مع الحياة العامة لأهل البلاد إبان الحرب.
تأريخ الحرب أردنياً
تتمثّل معضلة التأريخ للحرب أردنياً في أن هذه الحوادث المركزية التي وقعت في عامَي 1948 و1967 بقيت أسيرة أعمال مؤرخين خطّوا التاريخ الرسمي الأردني من خلال مذكرات المسؤولين في تلك الحقبة ووثائقهم، وهي أعمال، بحسب ملاحظة يوجين روغان Eugene Rogan، أستاذ التاريخ في جامعة أوكسفورد، "موالية للنظام في عمومها، وتخلو من نقد أو مراجعة ذاتية".
مقابل السردية الرسمية، ظهرت كتابات المعارضين الأردنيين في المنفى، ممن احتوتهم أنظمة كانت على خلاف أيديولوجي مع المملكة الناشئة، في مصر ولبنان، لكن هذه الكتابات، لم تخلُ، بحسب روغان أيضاً، من نقائص موضوعية وحمولات استدعت إقصاءها من التاريخ الرسمي وكتّابه. كما أن الأرشيفات البريطانية والإسرائيلية لحرب 1947-1949 لم تُتح إلا بعد عام 1978، وهنا أيضاً ظهرت انتقائية المؤرخين الرسميين في تناولها. وبطبيعة الحال نُظر إليها بوصفها مصادر منحازة إلى الاستعمار البريطاني والعدو الصهيوني. في المقابل، أُتيحت الوثائق الرسمية الأردنية لحلقة ضيقة من المؤرخين، ومُنعت عن غيرهم. هناك إشكالية رئيسية في توثيق الحرب وتأريخها، تتمثّل في أن أرشيف تلك الحقبة قد "طُهّر" ونُهب مع سقوط مراكز المدن الكبرى في فلسطين في عامي 1948 و1967، فانعكس غياب المصدر الأولي على عموم نصوص الرواية العربية للحرب ضعفاً فيها.
تتكثّف مركزية الأرشيف العربي المنهوب من أرض فلسطين العربية إبان حرب 1947-1949 وحرب 1967، ومنه أرشيف وثائق الإدارة الأردنية، والذي بقي رهين "أرشيف الدولة" و"أرشيف الجيش"، ولم يتح حتى وقت قريب إلّا لآلة التأريخ الاستعمارية الصهيونية، وظهر في أعمال متفرقة لباحثين مثل موشيه معوز، ومستشار الشؤون العربية لوزير الأمن الصهيوني آمنون كوهين في مشروعه حول دراسة بقية فلسطين في العهد الأردني.
في المقابل، ظل جزء مهم من المصادر الأولية محفوظاً في الأرشيفات اليومية أو المجموعات الشخصية لفواعل تلك المرحلة، وقد اعتنى ببعضها اشتغال الباحث بلال شلش الذي يجترح في توثيقه للحرب مساراً يتجاوز ثنائية الرسمي والمعارض إلى همّ يتعلّق بضرورة تناول التاريخ من أسفل، وإعلاء صوت "أهل البلاد" بوصفهم فواعل لهم إرادة زاحمت إرادة السلطة وسطوة الحكم العسكري إبان الحرب.
تأتي مذكرات كنعان استكمالاً لمشروع شلش الذي يُعنى بتاريخ الحربين وما بينهما من أعوام، فيقدّم للكتاب بمدخل عن بواكير حياة كنعان وسيرته الأولى التي تتداخل بسيرة مدينة نابلس، إذ انخرط في مجالها العام حتى صار رئيساً لبلديّتها. يتبعه بتحقيق للمذكرات ينطلق ممّا يدعوه الكاتب بـ "شهور الصدمة"، الممتدة بين شهرَي يونيو/ حزيران وأغسطس/ آب 1967، فيمر فيها على الهزيمة، وما دوّنه كنعان عن أيام الحرب الأولى، والحكم العسكري الذي فُرض على نابلس وعموم مدن الضفة المحتلة، وتفاعلات أهل البلاد مع الاحتلال، وعلاقتها بسلطته العسكرية، وتعاطي عمّان مع الصدمة، في حين تغطي الوثائق مرحلة ما بعد سبتمبر/ أيلول (1967)، وتجديد القيادة الفلسطينية، التي يحاول من خلالها المؤرخ تقديم سردية تاريخية متكاملة لكنعان ونابلس، بوصفها نموذجاً مصغراً لما جرى لبقية مدن فلسطين بعد نكسة حزيران 1967.
أما القسم الثاني من الكتاب فيشمل ثلاث دراسات عن العمران والحرب والصراعات الأخيرة، فتناولت الدراسة الأولى المشاريع الحضرية لبلدية نابلس، وعنيت الدراسة الثانية بسؤال الحرب واحتلال المدينة، أما الدراسة الثالثة فتتبّعت صراع التمثيل بين نُخب نابلس وعموم الضفة المحتلة، وعلاقتها بحكومة عمّان والقصر في الضفة الشرقية.
الصدمة
تباينت تفاعلات أهل البلاد، ممن أُسندت إليهم مهمة إدارة مدنهم المحلية بعد نكسة عام 1967، مع صدمة الاحتلال، فمنهم من آثر الانسحاب خوفاً من المجهول، ولشعورهم بانعدام الجدوى، ومنهم من تصدّر وأسس حكومة محلية تدير شؤون مدينته إلى حين.
عشية الحرب، استدعى تهجير أهل البلاد ذاكرة نكبة عام 1948، وسرعان ما واجه حمدي كنعان خطر إفراغ المدن من أهلها، والجريمة التي بدأها الاحتلال بتهجير سكان مدينة قلقيلية والقرى المجاورة لها، وعددهم بالآلاف، وتدمير بنيتها التحتية، فتدفق المهجّرون إلى نابلس وملأوا الشوارع والساحات العامة والمدارس والمساجد، ريثما يستأنفون هجرتهم إلى الضفة الشرقية، فقرر حمدي كنعان منع المواطنين من مغادرة المدينة، باستثناء الحالات الاضطرارية، بل أرسل دوريات إلى منطقة الغور لضبط المتسربين، فنجح في إعادة كثيرين ممن حاولوا النزوح.
في الوقت ذاته تواصل مع قناصل الولايات المتحدة والدول الغربية في القدس، لخلق ضغط دولي يعيد المهجّرين، وهو ما تم بعد أسبوع، حين تعهّد كنعان بإزالة الأبنية المهدمة في قلقيلية، وإصلاح شبكتَي الكهرباء والمياه الرئيستين وغيرها من آثار الاحتلال، وتهيئة المدينة لعودة أهلها. وكان هذا التعهد الذي قدّمه كنعان لوزير الدفاع الإسرائيلي حينها موشيه دايان فاتحة علاقة ستمتد بينهما، فدايان الذي تبنى مبدأ "لا تحكموهم ودعوهم يعيشون حياتهم الخاصة"، كان معنياً بالتواصل مع حمدي وغيره من نُخب ورؤساء بلديات، بوصفهم وسطاء بين سلطة الاحتلال وأصحاب البلاد. وقد وصف دايان كنعان بأنه "الرجل المركزي والأكثر أهمية في عموم الضفة الغربية".
تسببت علاقة دايان بكنعان بانتقادات وُجهت إلى الأخير، وحول ذلك يشير طاهر كنعان في مقدمة الكتاب إلى أن هذه العلاقة ساعدت والده في تجاوز مشكلات سياسية في مراحل لاحقة، وأنه اجتهد في أن تصب في مصلحة بلده، ووقف نداً في وجه دايان، إذ ترد في مذكراته واقعة اكتشاف سلطات الاحتلال مستودعاً للسلاح في بيت لعائلة الهدهد، فقال دايان موجهاً كلامه إلى كنعان إن الأسلحة التي صادروها تكفي لنسف نصف مدينة، فرد كنعان بأن "كل القوانين والأعراف الدولية تقر للشعب المحتل بمقاومة محتليه، ونحن سنقاوم احتلالكم"، ليقاطعه دايان قائلاً: "أتريدها فيتنام؟"، فأجابه كنعان: "نحن قدها وقدود". وعلى الرغم من انتساب ولديه طاهر وباسل إلى حزب خارج المزاج العام للفلسطينيين، ظل كنعان يتبع خطاً سياسياً محافظاً، يميل إلى الملكية الدستورية، وربطته صداقة وثيقة برئيس الوزراء الأردني وصفي التل، وأبدى تحفّظات مبكرة على الخطاب الشعبوي للحاج أمين الحسيني وأتباعه.
بحلول أكتوبر/ تشرين الأول 1967، حل موعد فتح المدارس، في أول عام دراسي بعد احتلال مدينة نابلس، فبعد أن غيّرت سلطة الحكم العسكري الجديد المناهج في أكثر من عشرين كتاباً، أحجم الناس عن إرسال أبنائهم إلى المدارس، على الرغم من أن حمدي كنعان كان يعارض فكرة الإضراب، ويرى استئناف التعليم دعماً لصمود الناس، ومنعاً لهجرتهم بحجة تدريس أبنائهم، كما حصل في أول الأيام. تحوّل الإحجام إلى إضراب منظّم، واعتقد دايان والحاكم العسكري تسفي عوفر بضرورة اتخاذ إجراءات تأديبية ضد نابلس وضرب كبريائها، ففُرضت رقابة شديدة على نقل رواتب المعلمين من الضفة الشرقية، وهُدد المخاتير ومدراء المدارس بالسجن، ومع ذلك لم يُعلّق الإضراب سوى في مدارس قليلة، إذ دعم المجلس البلدي موقف معلمي المدينة، فحتى "لو حجبوا عنا الهواء الذي نتنفس، لما كان علينا أن نُذعن لمشيئتهم"، وألّف المجلس البلدي لجنة من التربويين لدراسة التعديلات المقرة.
كان ذلك نهجاً سعت السلطة العسكرية لتكريسه بإصرارها على تفريغ نضالات أهل البلاد من أي مطالب سياسية، وهذا ما صرّح به وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه دايان في اللقاء الذي جمعه وحمدي كنعان حين قال بوضوح: "نقبل الإضراب لرفع الأجور مثلاً، أما لسبب سياسي فلا". في المقابل كان ثمة سعي دائم لتأكيد أن العلاقة بين الفلسطينيين والصهاينة علاقة سلطة احتلال بمحتلّيها، ويذكر كنعان مثالاً على ذلك إعلان المدينة إضرابها في الذكرى الأولى للاحتلال الذي شاركت فيه البلدية. ويصف كنعان تلك الفترة بأنها كانت فترة جمود في حركة المقاومة في الضفة الغربية، وكأن الناس في حالة استسلام، فدعا كنعان رؤساء البلديات لاتخاذ إجراء لشجب الاحتلال، فقرروا مطالبة القائد العام للضفة الغربي رفائيل فاردي بجملة من المطالب، كان على رأسها المطالبة بتسهيل عودة الطلاب من الضفة الشرقية، وعودة بعض أهالي القرى الذين هُجّروا.
ومما يذكره كنعان، في عشية الحرب واحتلال نابلس، بقاء 42 طالباً جزائرياً في المدينة، من أصل 100 كانت قد استضافتهم الحكومة الأردنية من أبناء شهداء الثورة الجزائرية عام 1965، أُضيف إليهم ثمانية طلاب يمنيين من عدن، وجدوا أنفسهم عالقين فيها مع اندلاع الحرب، فتوسط كنعان عند الحاكم العسكري لتسهيل مغادرتهم إلى عمّان.
فاعلية نساء فلسطين
تشير المذكرات إلى الفاعلية السياسية لنساء البلاد تحت الاحتلال؛ ففي أغسطس/ آب 1968، اعتقلت السلطة العسكرية ثلاث سيدات من القدس ورام الله، هن: عبلة شفيق طه، ولطفية الحواري، وسارة هاشم جودة، وبلغت الناس أنباء تعذيبهن، فانطلقت في القدس تظاهرة نسائية فرّقها الاحتلال بالقوة، وخرجت سيدات نابلس في 24 أغسطس بتظاهرة أخرى.
وفي إضراب طلبة المدارس الذي نُفّذ في فبراير/ شباط 1969 بسبب الاعتقالات ومنع التجوّل في مدينة غزّة، اقتحم جنود ملعب المدرسة العائشية في نابلس، واعتدوا بالضرب على بعض الطالبات، فقررت المعلّمات تعميم دعوة لإضراب في اليوم الثاني احتجاجاً على انتهاك حرمة المدرسة، وشهدت المدينة إضراباً شاملاً استمر ستة أيام.
يشير كنعان إلى حادثة احتجاز جثمان شادية أبو غزالة، مسؤولة الجناح النسائي في تنظيم الجبهة الشعبية في نابلس، بعد انفجار في بيت والدها نايف أبو غزالة تبيّن أن الشهيدة تسببت به، إذ كانت قد زودت، قبل استشهادها بأيام، رندة النابلسي وسهام الوزني بعبوة ناسفة لزرعها في القدس، لكن خللاً تقنياً أعاق العملية.
تاريخ سياسي: العلاقة مع عمّان
يروي نجل طاهر كنعان أن والده وأعضاء المجلس البلدي والفعاليات الاجتماعية في نابلس، دعوا الملك حسين، في مطلع عام 1965، إلى زيارة المدينة، وطلب كنعان من مختلف الفعاليات إنجاح الزيارة، وحصر المطالب والمشاكل التي تهم الناس لعرضها على الملك، فكان المطلب الرئيس إعلان العفو العام وتبييض السجون. وفي يوم الزيارة تحدث رئيس البلدية باسم أهالي نابلس وأهالي المسجونين، وأكدت المدينة مطالب العفو بعريضة طولها ثلاثة عشر متراً، وهو ما تم بعد بضعة أشهر، حين كلّف الملك رئيس الوزراء وصفي التل بإعلان العفو العام.
كانت علاقة كنعان مع حكومة عمّان والملك حسين مباشرة، فيذكر أن الزيارة الأولى لعمّان بعد النكسة كانت في 10 يوليو/ تموز، لبحث مشكلة حاجة البلدية والسكّان إلى النقد، فاجتمع مع الملك حسين ورئيس الوزراء سعد جمعة، كان المجتمعون متعطشين لسماع أخبار الضفة الغربية، وسلموه مبالغ مالية لبلدية نابلس وغيرها من بلديات الضفة الغربية، واغتنم مسؤولو وزارة التربية الفرصة وحمّلوا كنعان رواتب موظفي نابلس وجنين، إلّا أن دايان رفض الموافقة على إدخال رواتب المعلمين "لأن السلطة المحتلة مسؤولة عن دفع الرواتب"، ما يشير إلى وجود قرار استعماري مبكّر بعدم ربط أهل البلاد بأي رديف من الخارج.
ستشهد العلاقة مع عمّان أيام مد وجزر، وستصل ذروة جزرها إلى حملة تشويه طاولت حمدي كنعان، مع تسلم بهجت التلهوني رئاسة الوزراء، وصف فيها كنعان بـ "حمدي دايان". ووفقاً لأكرم زعيتر، وزير البلاط الأسبق، أرسل كنعان رسالة إلى الملك حسين، يخبره فيها بأحوال الضفة الغربية، ويبث له ما يعانيه من "عديمي الإحساس" في عمّان، فطلب الملك لقاء كنعان، ليرد زعيتر عليه بأن "حمدي يؤدي واجبه في الضفة الغربية، وهو آلى على نفسه ألا يزور الضفة الشرقية ما دام رجل كرئيس الوزراء يجرؤ على اتهامه بالعمالة لليهود". وقد استدعى هذا التشويه كتابة كنعان مذكراته التي افتتحها بقوله إنه لم يخطر بباله يوماً تدوين يومياته إلا أنه خشي "حكم التاريخ".
يتتبّع مؤرخ الكتاب مراسلات أكرم زعيتر وحمدي كنعان بوصفها مصدراً لتوثيق صراعات كنعان المختلفة، إذ أدى صعوده السريع بعد الحرب ليصير بمنزلة ممثل لأهل الأرض المحتلة. تعدّدت مستويات الصراع، وكانت ذروته مع التلهوني الذي حمل بعدين، أحدهما شخصي والآخر سياسي، ويرصد المؤرخ خلفيات الصراع التي سبقت الحرب بسبب قرب كنعان من أكرم زعيتر ووصفي التل الذي احتدم الخلاف بينه وبين القصر، خاصة مع انتقاد التل خوض الأردن حرب حزيران، فأدى ذلك إلى ابتعاده عن المشهد السياسي. وعموماً، تضمن الصراع بين التلهوني وكنعان صراعات خفية بين حلفاء كل طرف، وبدأت تتشكل تيارات داخل نابلس والضفة الغربية فُهم أنها تقع ضمن ثنائيات "محسوب على عمّان" في مقابل الكيانية الفلسطينية. وكما يبدو فإن كنعان لم يكن قريباً من كلا التيارين، فحين كان على خصام مع حكومة عمّان، لم يكن من المتحمسين لكيان فلسطيني مستقل.
تدوّن مكاتبات زعيتر - كنعان أن الأخير نجح خلال الأسابيع الأولى للحرب في فتح طريق خفي لإسناد نابلس، ونجح قبل تولي التلهوني رئاسة الوزراء في إدخال الرواتب وأموال صُرفت بتنفيذ بعض المشاريع العالقة.
أزعج هذا الجهد سلطة الاحتلال، وكان أحد أسباب حصار المدينة الطويل بين سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول 1967، ويبدو أنه أزعج كذلك بعض منافسي كنعان في المدينة. أدرك بهجت التلهوني أثر إشراف كنعان على استحضار الأموال وصرفها على شعبيته، لذا توجه إلى فتح خطوط جديدة تتجاوز كنعان. وإلى جانب المال، كان هناك مدخل أكثر أهمية لهجوم التلهوني على كنعان تمثّل بمسألة الكيان الفلسطيني. ويرافع المؤرخ عن كنعان بأن موضوع الكيان الفلسطيني أو الحكم الذاتي أو الإدارة المحلية لم يبدأ مع زيارات كنعان لبيروت، ولقاءاته بقيادات فلسطينية هناك، كما ادعى التلهوني، إنما بدأ مع زيارة ممثلي القسم السياسي في جيش الاحتلال في الأيام الأولى بعد الحرب، لاستطلاع رأي السكان حول إقامة حكومة فلسطينية توضع تحت حماية الجيش، وهو ما رفضه كنعان، وتبرز أوراقه أنه، حتى تاريخ استقالته من رئاسة البلدية، كان يرفض رفضاً تاماً أي حديث عن كيان فلسطيني يؤسَس في ظل السلطات الاستعمارية.
وتشير مراسلات زعيتر - كنعان إلى تفاصيل لقاء جمع كنعان بالقنصل الفرنسي مطلع عام 1968، لاستطلاع الرأي حول مشروع عرضه البابا يتلخص في انسحاب القوات الإسرائيلية، لتحل محلها قوات دولية على الحدود، ويتولى حاكم دولي الإشراف على القدس، على أن يبقى هذا الوضع مدة سنة تكون الأمور خلالها قد تبلورت نحو تسوية نهائية، فكان رد كنعان ورجالات نابلس بمعقولية الفكرة، شرط الاحتفاظ بالعلاقة الاقتصادية والاجتماعية مع الحكومة الأردنية.
الاستقالة
يشير زعيتر في يومياته إلى زيارة كنعان عمّان نهاية عام 1968، ووصفه سوء الأوضاع في الضفة، وسعي سلطات الاحتلال للقضاء على عروبة البلاد، وأن الناس حائرون بسبب رفض الدول العربية التفاوض، وفي الوقت نفسه رفضها إعلان الحرب، فما العمل؟ يشير المؤرخ إلى أن سؤال "ما العمل؟" كان دافع كنعان وآخرين للتواصل مع الإسرائيليين، فإما أن تكون نتيجة الاتصال مفيدة تدفع ضرراً، وإما أن تخفق فتسقط حجة إسرائيل في الإصرار على التفاوض للسلام. وينقل زعيتر عن كنعان قوله: "إننا لن نتنازل عن كوننا جزءاً من الأردن [...]، ولن نقدم على هذه الخطوة إلا بعد استشارة جمال عبد الناصر والحسين، فإذا وافقا دخلنا في التجربة، وليحتفظ الفدائيون بموقفهم ورفضهم لأي تسويات".
في آخر زيارة لكنعان بصفته الرسمية، التقى الملك حسين وعاتبه على سياسته مع الفدائيين، وشرح له وجهة نظر أهل البلاد بشأنهم، ونقل إليه تفاصيل لقائهم مع رئيس وزراء إسرائيل ليفي إشكول، ورفضهم دعوة إشكول لمفاوضة الفلسطينيين بشكل منفرد. وبعد اللقاء كان التضييق على كنعان، وتقليل حصص نابلس من الإعانة أول الإجراءات التي اتخذها التلهوني.
يذكر كنعان في مذكراته مواجهته عقبات عدة، كان أقساها، والسبب الأبرز في استقالته لاحقاً، هجوم التلهوني عليه، وخذلان بعض الأصدقاء والحلفاء. وفي 12 مارس/ آذار 1969 أعلن استقالته للمرة الثالثة والأخيرة، بعد استقالته الأولى احتجاجاً على رفض عوفر صرف أموال المعلمين التي أتى بها من عمّان، والثانية بسبب استمرار نسف بيوت المقاومين. ويوم غادر مكتبه بدار البلدية، قال لأربعة عشر صحافياً فرنسياً إنه استقال لأسباب عدة، يجمعها "وعاء اسمه الاحتلال"، بعد 21 شهراً أمضاها رئيسًا للبلدية في ظل الاحتلال.