حلقة جديدة في قضية تمرّد بريغوجين: هل انقلب الكرملين على التسوية؟

26 يونيو 2023
يبدو أن الكرملين لن يغفر لبريغوجين تمرّده الذي أظهر ضعف قبضة الرئيس بوتين (أسوشييتد برس)
+ الخط -

أكدت صحيفة "كوميرسانت" الروسية، اليوم الاثنين، أن هيئة الأمن الفيدرالي تواصل التحقيق في القضية المرفوعة بحق رئيس مجموعة "فاغنر" يفغيني بريغوجين، بتهمة تنظيم تمرّد مسلّح، مشيرة، نقلاً عن مصدر في الهيئة، إلى أن الملاحقة الجنائية بحقه مستمرّة ولم يتم إغلاق القضية، ما يعني عملياً الانقلاب على التسوية التي كان تم التوصل إليها مساء السبت، وأوقف بموجبها بريغوجين تقدم عناصره باتجاه موسكو.

ولم يصدر تعليق رسمي من الكرملين أو السلطات المعنية حول التسريبات التي نشرتها "كوميرسانت"، علماً أن المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف أعلن مساء السبت، التوصل إلى اتفاق بجهود الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، يقضي بوقف تقدم قوات "فاغنر" نحو العاصمة موسكو، وعودتها إلى قواعدها في لوغانسك، مقابل عدم الملاحقة القانونية للمتمردين، ومن ضمنهم بريغوجين.

وذكرت عدة قنوات عبر موقع "تليغرام"، أمس الأحد، أن مكتب الادعاء العام ألغى قرار التحقيق في تهمة التمرّد بحق بريغوجين، بعدما كان سابقاً وافق على فتح قضية جنائية بناءً على طلب هيئة الأمن الفيدرالي.

المصير المجهول لمجموعة فاغنر

وعلى عكس عادته، لم يظهر بريغوجين بعد خروجه وسط تصفيق الحضور من مقر العمليات العسكرية المشتركة في مدينة رستوف جنوبي روسيا، وإعلانه انسحاب قواته من الأماكن التي وصلت إليها على بعد 200 كيلومتر من موسكو "حقناً للدماء".

ومعلوم أن فصول التمرد الخاطف والقصير لمجموعة "فاغنر" انتهت بانسحاب مقاتليها من المناطق التي سيطروا عليها في جنوب روسيا، بعد الاتفاق الذي أفضت إليه وساطة لوكاشينكو، والذي من المرجح أنه تسوية مؤقتة ومتعجلة لترحيل المشكلة، منعاً لحدوث مواجهة دموية بين الوحدات الروسية المسلّحة ومقاتلي مجموعة "فاغنر" لا يمكن التنبؤ بعواقبها، وحدوث أي انهيار في ساحة الحرب في أوكرانيا.

وربما تكشف تسريبات "كوميرسانت" حول استمرار القضية الجنائية ضد بريغوجين، أن الكرملين تعجل في إنهاء التمرد على الأرض لتقليل تبعاته، ولكنه في المقابل لن يغفر لبريغوجين تمرّده الذي أظهر ضعف قبضة الرئيس فلاديمير بوتين، والارتباك في تعامل السلطات والجيش والحرس الوطني والسلطات على الأرض، وخاصة أن بوتين اتهم طباخه السابق قبل التوصل إلى الاتفاق بنحو 12 ساعة، بالخيانة وتوجيه طعنة في الظهر.

ولم يجب الاتفاق عن عدد من الأسئلة المعقدة والشائكة. فهو قدَّم مخرجاً لزعيم مجموعة "فاغنر" بإسقاط التهم الجنائية ضده، والسماح له باللجوء إلى بيلاروسيا، وعدم اتخاذ إجراءات قانونية ضد مقاتلي "فاغنر" الذين شاركوا في التمرّد. ووضع الاتفاق تصوراً لتسوية وضع مجموعة "فاغنر"، يفصل بين مقاتليها الذين شاركوا في التحرك العسكري ومن تخلفوا عنه. فبالنسبة لمن شاركوا في التمرّد، عليهم العودة إلى معسكراتهم، والجزء الذي لا يرغب في العودة، يمكنه توقيع اتفاقيات مع وزارة الدفاع، في حين يمكن لمن لم يشاركوا في التحرك العسكري المباشر، الانضمام إلى صفوف الجيش الروسي، والتوقيع على عقود مع وزارة الدفاع.

وبقراءة متأنية، فإن الاتفاق أنهى عملياً دور بريغوجين كزعيم لمجموعة "فاغنر"، ولا يسمح له بالبقاء على الأراضي الروسية أو العودة إلى المناطق التي تسيطر عليها القوات الروسية في أوكرانيا. كما تعامل الاتفاق مع مقاتلي "فاغنر" الذين لم يشاركوا في التحرك العسكري باعتبارهم أفراداً، عليهم تسوية أوضاعهم بشكل فردي.

وبحسب التفاصيل المعلن عنها، فإن هناك غموضاً يلف الفقرة الواردة في الاتفاق حول معالجة أوضاع مقاتلي "فاغنر" الذين شاركوا في التحرك العسكري، فالفقرة تنص على أن الجزء الذي لا يرغب في العودة إلى المعسكرات، يوقع اتفاقيات مع وزارة الدفاع، وليس واضحاً بدقة إذا كان المقصود إمكانية التعامل معهم كمجموعة واحدة أم كأفراد. ويبدو أن الفقرة صيغت بدقة كي تكون حمالة للأوجه.

مصير مجهول لفاغنر

الملاحظات السابقة تضع مجموعة "فاغنر" أمام مصير مجهول. فالاتفاق بصيغته المعلنة، ينطلق ضمناً من التعامل مع المجموعة بشكلها الراهن كتهديد مستقبلي، لكن طريقة المعالجة التي يريدها الكرملين غامضة. الأكيد أن الكرملين يريد تفكيك تشكيلات جماعة "فاغنر" على الأراضي الروسية والأوكرانية، لأن بقاءها لم يعد مقبولاً للأخطار التي تترتب عليه. وهو في الوقت نفسه، في حاجة ماسة إلى جهدها وطاقاتها وخبرات مقاتليها في الحرب على أوكرانيا، والجمع بين الغايتين ممكن بدمج مقاتلي "فاغنر" في وحدات الجيش الروسي كأفراد، وليس كمجموعة.

كما يبرز خيار إعادة فك وتركيب الهرم القيادي لمجموعة "فاغنر"، لوضع بريغوجين وأتباعه المقربين خارج المشهد، واستبدالهم بأشخاص خاضعين للكرملين، بما يحافظ على المهام الخارجية التي تقوم بها مجموعة "فاغنر" في العديد من البلدان الأفريقية والأميركية اللاتينية، وفقاً للأجندات التي أنشئت من أجلها.

لكن تطبيق أي من الخيارين لن سيكون سهلاً وسريعاً، أو يمكن تمريره بسلاسة. فإفصاح الكرملين عن رغبته في تفكيك مجموعة "فاغنر"، ودمجها داخل وحدات الجيش الروسي، كان المحرك الرئيسي للتمرد الذي قاده بريغوجين. كما أظهر مقاتلو "فاغنر" درجة عالية من الانضباط والتماسك خلال التمرد، تجعل من الصعب الاعتقاد بأنهم سيتخلون عن قياداتهم وهياكلهم المستقلة عن الجيش الروسي.

وواقعياً، لا يستطيع الكرملين أن يفرض بالقوة على مقاتلي "فاغنز" الالتزام بالخضوع لوزارة الدفاع الروسية، لأن "فاغنر" ما زالت تحتفظ بكامل قوتها وجهوزيتها، وأي احتكاك بينها وبين وحدات الجيش الروسي على الأراضي الأوكرانية، ستستفيد منه أوكرانيا بدرجة كبيرة.

كما أن انعدام الثقة المتبادلة بين الكرملين و"فاغنر"، يضفي على الاتفاق بينهما، الذي توسط فيه لوكاشينكو، طابع تسوية مؤقتة وليس حلاً متكاملاً وطويل الأمد.

والسؤال الذي يحاول الكرملين تجاهله، كيف سيستطيع الجيش الروسي أن يستوعب في صفوفه مجرمين مدانين بقضايا جنائية، وكيف سيتعامل المجتمع الروسي مع أولئك المجرمين الذين يشملهم العفو، بعد أن ينهوا خدمتهم في الجيش؟ وهنا الحديث عن عشرات آلاف المجرمين، الكثيرين منهم مدانون بجرائم جنائية خطيرة.

اهتزاز صورة بوتين

وكانت ساعات التمرد القليلة كافية لهز صورة الرئيس بوتين التي بناها على مدار 23 عاماً في الحكم، كشخصية قوية ومهيمنة. فقد واجه الكرملين صعوبة في الخروج بردّ سريع على التمرد، وتقدم مقاتلي "فاغنر" باتجاه موسكو، مما سلّط الضوء على تراجع قوة بوتين، ووجود نقاط ضعف شديدة في المنظومة الأمنية الروسية الداخلية.

وأظهر التمرد أيضاً حالة عجز تعاني منها القوات المسلحة الروسية، فمقاتلو "فاغنر" كادوا يصلون إلى مشارف ضواحي العاصمة الروسية موسكو من دون أي مقاومة تذكر. وربما يكون السبب عدم رغبة الكرملين في إراقة دماء، إلا أن مجرد قيام بريغوجين بتمرد، دليل على انكسار شوكة قوة ردع الجيش الروسي.

وسيكون على بوتين مسابقة الزمن لترميم صورته قبل الانتخابات الرئاسية في العام المقبل 2024، بما في ذلك ربما الإقدام على تغييرات في قيادة أجهزة الاستخبارات والقيادة العسكرية العليا، لكن هذا القرار سيتأخر لفترة ما، حتى لا يظهر وكأنه خضوع لبريغوجين الذي اشترط إقالة وزير الدفاع ورئيس الأركان لإنهاء تمرده. بيد أن إقدام بوتين على قرار إحداث تغييرات واسعة على رأس الهرم الأمني والعسكري، قد يكون قفزة في الفراغ شديدة الخطورة، لأنه في حال استمرار الإخفاقات العسكرية الروسية في أوكرانيا، سيتحمل شخصياً مسؤولية ذلك.

وفي ظل حالة عدم اليقين بعد التسوية المؤقتة، كلّ شيء يقع في إطار الاحتمالات، مصير بريغوجين ومجموعة "فاغنر"، ومصير كبار قادة الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية، ومصير الحرب في أوكرانيا، ومصير الرئيس بوتين شخصياً.