حلف شمال الأطلسي والاستجابة للأزمة الأوكرانية: عجز أمام نهج بوتين

24 فبراير 2022
جندي أميركي في سلوفاكيا خلال مناورات للناتو، 17 فبراير (Getty)
+ الخط -

لم يعد خافتاً أبداً استدعاء الأوروبيين، على خلفية الأزمة الأوكرانية المتصاعدة مع روسيا حالياً، لتوتر علاقتهم بالزعيم النازي أدولف هتلر في عام 1938، قبيل الحرب العالمية الثانية، وإسقاط ذلك على ما يقوم به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، اليوم.

ففي ذلك العام، كانت طبول الحرب تقرع على وقع تصميم النازيين الاستيلاء على منطقة سوديتينلاند في تشيكوسلوفاكيا، بحجة حماية ما يقرب من ثلاثة ملايين مواطن من أصل ألماني. حاولت أوروبا يائسة ألا تدخل في حرب مدمرة، وذهب لأجل ذلك رئيس وزراء بريطانيا آنذاك نيفيل تشامبرلين، إلى ميونخ، عائداً بورقة (معاهدة ميونخ في سبتمبر/أيلول 1938) لوّح بها للصحافيين، رافعاً عبارة "السلام في عصرنا".

ويستدعي الأوروبيون تلك الحقبة باعتبار أن دبلوماسيتهم آنذاك كانت "ساذجة"، وقدّمت تنازلاً تلو الآخر لهتلر. ولا تقلّ صورة بوتين اليوم، عند الغربيين، سلبية، عن نظرتهم إلى هتلر، بحسب تقرير نشر في صحيفة "بوليتيكن" الدنماركية أمس الخميس. وإلى أقرب من تلك الحقبة، يعود الغربيون بالتاريخ أيضاً قليلاً إلى الوراء، ويقارن بعضهم بين غزو العراق للكويت في عام 1990، ومحاولة موسكو أخيراً قضم أوكرانيا، وتفتيت أراضيها، باعتبارها "كياناً مزيفاً"، وأن روسيا هي من أنشأته. 

سيناريو السيطرة الروسية على دونباس هو الذي يحمل أقل التداعيات على الناتو والغرب

ولم يفاجئ الخطاب الذي ألقاه بوتين، الإثنين الماضي، وأعلن فيه الاعتراف بـ"استقلال" جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين في الشرق الأوكراني "بصورة فورية"، حلف شمال الأطلسي (الناتو). كما لم يفاجأ الناتو، بالأخبار عن تحرك القوات الروسية على الحدود، أو حتى عن وصول دبابات إلى أطراف دونيتسك بعدما أمر بوتين الإثنين بإرسال قوات إلى شرقي أوكرانيا. وقال الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ، أول من أمس الثلاثاء، إن "ما نراه هو غزو إضافي لبلد تمّ غزوه بالفعل".

سيناريوهات للاجتياح الروسي

وفي الواقع، فإن تسويق التحرك الروسي باتجاه الشرق الأوكراني، باسم "قوات حفظ السلام"، وما ستتبعه من خطوات، وإن بدا في البداية "صادماً" للحلف الغربي، إلا أنه شكّل جزءاً من 6 سيناريوهات طرحت في تقرير لباحثين في أكاديميات دفاع سويدية ودنماركية، بالتعاون مع مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، ونشر في شهر يناير/كانون الثاني الماضي على موقع المركز.

وتتراوح السيناريوهات، بين الأكثر "تواضعاً" بالنسبة إلى موسكو، وهو السيطرة على منطقة دونباس، حيث تدور المعارك منذ عام 2014، وفرض "الأمر الواقع" هناك، وحيث سيكون على القوات الأوكرانية التي تحارب الانفصاليين، مواجهة القوات الروسية كأهداف جديدة. ورأى التقرير أن هذا السيناريو هو الذي يحمل أقل التداعيات على الناتو والغرب، ويشبه ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014. أما السيناريو الأسوأ، فهو اتخاذ بوتين قراراً باجتياح أوكرانيا بالكامل.

حلف شمال الأطلسي: حدودٌ للدعم

يمثل حلف شمال الأطلسي، بالنسبة إلى معظم دول الاتحاد الأوروبي، ركيزة رئيسية لأمنها القومي، على الرغم من تصاعد الخطاب الأوروبي، وخصوصاً من فرنسا، لضرورة بناء جيش أوروبي موحد. وفي موازاة التشديد الأوروبي على ضرورة اعتماد خيار الدبلوماسية، يجري التأكيد على أهمية الحلف، وخصوصاً المادة الخامسة من معاهدة الناتو، التي تتيح للحلف التدخل المباشر دفاعاً عن دولة عضو فيه تتعرض لاعتداء.

لكن الحلف، والدول المنضوية فيه، وعلى رأسها الولايات المتحدة، يعرفون جميعهم حدود قوتهم في ما خصّ دولة غير عضو في الناتو، مثل أوكرانيا، التي تلقت وعداً منذ 2008، بأنها ستمنح فرصة الانضمام إلى الحلف. ويختلف الأمر بعض الشيء بالنسبة إلى التزام حلف شمال الأطلسي في كلّ من السويد وفنلندا، غير العضوين فيه، وذلك بفضل اتفاقيات تعاون تطورت منذ 2014، على خلفية قراءة أوروبية لموسكو كـ"خطر على السلم والأمن الأوروبيين"، بعد صدمة ضمّ شبه جزيرة القرم.   

ويواجه التزام الحلف الغربي في دول البلطيق (إستونيا، لاتفيا وليتوانيا)، ودول "الشمال" (الدنمارك والنرويج والسويد وفنلندا وآيسلندا)، تحدياً حقيقياً في الاستجابة، مع الأزمة الأوكرانية أخيراً، وهو تحد لم تواجهه القارة منذ الحرب العالمية الثانية (1939-1945). فروسيا النووية ليست ألمانيا الأربعينيات، ولا عراق 1991. وبالنسبة للساسة الغربيين، الذين لا يعملون بمعزل عن سيناريوهات العسكر ومراكز الأبحاث والتفكير، فإن المعضلة الآن تتعلق بتحديد مصير مستقبل أوروبا.  

وليس بعيداً عن استجابة الناتو بانتشار عسكري متزايد، واتفاقيات قواعد أميركية في الدنمارك مقابل جيب كالينينغراد الروسي على البلطيق، يرى كثيرون أن سرعة التصرف بفرض عقوبات، ليست بمعزل عن تكتيكات حلف شمال الأطلسي.

وأبرز هذه العقوبات، تطاول أهم مشروع شخصي لبوتين والطبقة الرأسمالية المحيطة به، وهو خط "السيل الشمالي 2" (نورد ستريم 2) للغاز، مع ألمانيا، وهو ما بشّر به أمين عام الحلف، في مقابلة مع التلفزة الدنماركية قبل أيام بحديثه عن العقوبات الغربية المتسقة والمنسقة كجزء من استجابة أوسع. وأعلن المستشار الألماني أولاف شولتز الثلاثاء، تعليق المصادقة على خط أنابيب الغاز، وهي أمر ضروري "لتشغيله".

الناتو في قلب المواجهة 

وعلى الرغم من أن الحلف العسكري الغربي، أي الناتو، يبدو في الخلفية، في هذه الأزمة، وذلك إذا ما اعتبر أن السياسيين هم من يقررون الشؤون الأمنية والدفاعية في دولهم، إلا أن الحلف يبقى في الواقع بقلب التوتر الغربي الروسي.

يعرف الناتو حدود قوته في ما خصّ دولة غير عضو فيه مثل أوكرانيا

فتلويح بوتين بالقوة لفرض سرديته عن أن حلف شمال الأطلسي قد خدع روسيا ووسّع نفوذه، ووضعه اشتراطات تقهقر الحلف، قوات وأسلحة، من مناطق الجوار في شرقي وجنوبي شرق القارة، يضع مستقبل هذا الحلف برمته على المحك. 

وعلى الرغم من ظهور الناتو مرتبكاً بمواجهة الأزمة والتصعيد الروسي، وليس على مستوى الاستجابة للتحدي، فذلك يعيده خبراء في المجال الدفاعي، إلى تأن سياسي غربي، يرى في الرئيس الروسي "لاعب جودو خشنا"، وليس لاعب شطرنج، حيث لم تنفع منذ مؤتمر ميونخ للأمن في 2007 محاولات احتوائه بشراكات مع القارة العجوز. 

وتبدو معضلة حلف الناتو مع روسيا، ظاهرياً، في أنه غير معني بفتح حرب مباشرة مع الجيش الروسي في أوكرانيا. لكن، خطوات وخطابات بوتين، تطلق لدى صنّاع القرار السياسي والعسكري الأوروبي أجراس إنذار كثيرة، خصوصاً أنه استطاع تحويل الأزمة الأوكرانية إلى مشكلة أمن أوروبي أوسع. 

معضلة مواجهة النهج البوتيني  

سوّق بوتين أخيراً تبريرات لتصرفاته العسكرية باستدعاء ما سماه "حرب إبادة" في شرقي أوكرانيا. أراد الرئيس الروسي من ذلك استدعاء مقاربة تدخله بتدخل حلف الأطلسي في كوسوفو لوقف عمليات الإبادة. 

بالطبع أوكرانيا ليست عضواً في الحلف ليجري تفعيل المادة الخامسة تلقائياً. ويراهن بوتين على أن ضفّة الأطلسي الأوروبية من الحلف أقل قابلية لمواجهة مباشرة على الأرض. وبالتالي، فإن التحالف الغربي وجد نفسه اليوم أمام معضلة أوسع من أوكرانيا، وتتعلق أساساً بمطالب واشتراطات روسية تطالب بإعادة تنظيم هيكل الأمن الأوروبي، وهو ما يدركه صنّاع القرارين الأمني والسياسي في الغرب.

ويأتي ذلك خصوصاً أن المعسكر الغربي السياسي يعتبر نفسه "قيمياً"، في مواجهة مع السلطوية التي يمثلها تيار البوتينية الروسية وميولها في بعض دول جوار روسيا، وفي بعض أوروبا الشرقية. ويعتقد بعض الأوروبيين أن السيناريو المقبل، بعد شرقي أوكرانيا، يضعهم بين خيارين: الطاعون أو الكوليرا.  

معضلة لبوتين أيضاً

لكن حتى وإن بدا حلف الناتو خارج معادلة المواجهة المباشرة مع القوات الروسية، يبقى الرئيس الروسي، أيضاً، يواجه معضلة جدّية مع خطوته التالية. 

ويركز الخبراء العسكريون في أكاديميات الدفاع الأوروبية، والتي يعول عليها في اتخاذ الخطوة التالية في القارة، على أن الناتو "بنى قوة كبيرة في أوروبا"، وهو يمثل اليوم قوة ردع غربية مهمة بمواجهة موسكو وتلاعبها بخرائط حدود الدول. فقد استغل الحلف تطورات الأسابيع الأخيرة، للوصول إلى وضع يقارب إحاطة روسيا بعشرات آلاف القوات والمعدات العسكرية الإستراتيجية.

السيناريو الأقرب للمواجهة

ويبدو السيناريو "الأطلسي" الأقرب، لمواجهة روسيا، وبالاستفادة من الذرائع التي يقدمها بوتين، هو التركيز على تدفيع موسكو ثمناً كبيراً على الأرض، دون اشتباك مباشر معها، وبشكل متسق مع العقوبات والمقاطعة الدبلوماسية المستقبلية.  

وفي هذا السياق، يأتي التركيز على تسليح الأوكرانيين، وتقديم معلومات واستشارات استخبارية وعسكرية للجيش الأوكراني، لمواجهة تخطي حدود اتفاقية مينسك نحو عمق أوكرانيا. وغير بعيد عن ذلك، يأتي استهداف الأوليغارشية الروسية، التي بات يعتمد عليها الكرملين بشكل أكثر عمقاً منذ عقدين.

استغل الحلف التطورات لإحاطة روسيا بعشرات آلاف القوات والمعدات العسكرية الإستراتيجية

وبحسب قراءات خبراء أوروبيين، فإن خطوة بوتين وخطابه الإثنين الماضي، قد يخففان من معضلة الناتو والغرب، بالتصميم على رفض إضافي لسردية الرئيس الروسي، الذي يعتبر أن ما جرى بعد انهيار جدار برلين وتوسع حلف شمال الأطلسي إلى الشرق كـ"أكبر خطأ جيوسياسي في القرن العشرين".

ولعل التباين والتردد السابق في أوروبا حيال الأزمة، قد يتراجعان، بما يجعل حلف شمال الأطلسي، أكثر تضامناً وفعالية، سواء في زيادة الموازنات العسكرية، أو على مستوى خلق حالة استقطاب أوسع تعزل معسكر مهادنة موسكو.  

إذا، نتائج عكسية كثيرة قد تواجهها موسكو جرّاء سياسات بوتين الأخيرة، إذ إن الغرب يدرك أن مراهنة موسكو على قبول الناتو السريع لمطالبها بالانسحاب من مناطق بعينها، يضع عملياً أوروبا في مواجهة نظام أمني جديد.

وقبيل التحرك الروسي الأخير، كان أقصى ما يمكن أن يقدمه الحلف، برأي خبراء في علاقة الطرفين، بعض تحسينات على هيكل انتشاره، هو ما جرى تداوله قبيل الخطوة الأخيرة، وكان جزءاً من محادثات كانت مفترضة اليوم الخميس، بين وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، ونظيره الروسي سيرغي لافروف، قبل أن يتم إلغاؤها من الجانب الأميركي. 

في المجمل، فإن الناتو، على ضفته الأوروبية، باستثناء النرويج غير العضو في الاتحاد الأوروبي، لم يعد بعيداً عن العقوبات، والتي من المتوقع أن تتصاعد "خطوة بخطوة" مقابل التحرك الروسي على الأرض أو في الفضاء السيبراني، والذي بات يصنف كحرب هجينة روسية ضد الغرب. 

ومقابل التصعيد الاقتصادي، لا يُستبعد في سياق مخططات وسيناريوهات "الأطلسي"، أن يذهب الحلف إلى سيناريو المواجهة غير المباشرة، بما فيها بالوكالة، سواء في أوكرانيا أو في غيرها حيث المصالح الروسية نافرة وواضحة. وسيواجه الحلف كذراع ودرع غربية، بالتأكيد، مزيداً من تحديات ما يسمى في هذا المعسكر بـ"انتهازية موسكو"، واستغلالها تركيز واشنطن وأوروبا على الصين أخيراً، وعدم رغبتهما في مواجهة مباشرة مع قوة نووية.  

في المحصلة، يرى المعسكر الغربي أن حدوداً ترسم بين نظامين وتوجهين في أوروبا وروسيا. يعتبر الأول الوقوف مع كييف مسألة تتعلق بالقيم والمبادئ، فيما يجري في الثاني التركيز أكثر على استدعاء التاريخ، أملاً في تثبيت أعمدة نظام حكم قلق من توسع إحاطته بأنظمة لا تشبهه. وبين معضلة الطرفين، تبقى التسويات والحلول الدبلوماسية مؤجلة، خشية أن يظهر أحدهما خاسراً. وسيعمل الغرب، بتدفيع موسكو أثماناً باهظة، على جعل بوتين في نهاية المطاف الخاسر الأكبر من كل ما يجري.

المساهمون