استمع إلى الملخص
- شهدت حلب معارك ضارية ومجازر بحق سكانها، خاصة بعد تدخل الروس في 2015. في 2016، خرجت المعارضة من المدينة، لكنها عادت بعد تسع سنوات للسيطرة عليها بالكامل، مما يعكس تحولاً كبيراً في الصراع.
- حلب ذات أهمية استراتيجية بسبب موقعها الجغرافي والاقتصادي، مما يمنح المعارضة ميزة في المفاوضات السياسية ويزيد من عزلة نظام الأسد.
لم يكن أشد المتفائلين في صفوف المعارضة السورية، وأشدّ المتشائمين في جانب النظام، يضع في حساباته هذا السيناريو الذي حدث خلال 72 ساعة فقط في شمال سورية، بحيث باتت كبرى مدنه حلب الشهباء، أقدم المدن في التاريخ البشري، تحت سيطرة فصائل المعارضة التي ما تزال تتقدم، ممزقة في طريقها خرائط سيطرة ظلّت ثابتة منذ عام 2020. ولم تكن هذه المرة الأولى التي تعيش فيها حلب هذه الأحداث الكبرى، إذ مرّت هذه المدينة التي تعد عاصمة البلاد الاقتصادية، بأحداث مماثلة منذ انطلاق الثورة السورية في ربيع عام 2011. ترددت "الشهباء" في الانخراط بأحداث الثورة، حيث كانت المجازر التي ارتكبها النظام في المدينة، وخصوصاً مجزرة "المشارقة" في عام 1980، حاضرة في أذهان الحلبيين. كما كان النظام يضع ثقله الأمني في هذه المدينة الاستراتيجية بتاريخها وموقعها الجغرافي وأهميتها الاقتصادية، فحلب هي مركز الصناعة في سورية.
ارتكب النظام مجازر رهيبة بحق سكّان حلب
حلب من هامش الثورة إلى متنها
لكنّ طلّاب جامعة حلب كانوا سباقين في الحراك الثوري للحد الذي أطلق الناشطون الثوريون على هذه الجامعة اسم "جامعة الثورة"، وهو ما دفع النظام إلى ارتكاب مجزرة بحق الطلّاب في 15 يناير/كانون الثاني 2013، حين قصف كلية العمارة والسكن الجامعي، ما أدى إلى مقتل وإصابة العشرات. كانت تلك المجزرة رسالة واضحة لأهالي المدينة كيلا ينخرطوا في الثورة، فالنظام يدرك أهميتها لبقائه في السلطة، فهي عصب الاقتصاد في سورية فضلاً عن أنها من أكبر المدن السورية بعدد السكّان.
ولطالما سعى النظام السوري إلى إبقاء حلب، ثاني أكبر المدن السورية، على هامش ما يجري في البلاد، ولكنها خلال السنوات الماضية، كانت تنتقل من هامش الثورة إلى متنها، نظراً لأهميتها بالنسبة للنظام وقوى الثورة على حدّ سواء. فصائل المعارضة السورية التي تُعرف باسم "الجيش السوري الحر" كانت في عام 2012 تتقدم في أرياف المدينة، وتدرك أهميتها، فدخلت أحياءها الشرقية، وأبرزها: الشعار، الصاخور، الحيدرية والقاطرجي، وأحياء داخل حلب القديمة، فضلاً عن حي صلاح الدين جنوب غربي المدينة. وحاولت السيطرة على كامل حلب إلا أنها لم تكن تملك القدرة العسكرية على ذلك، وبذلك انقسمت حلب إلى قسمين: غربية تحت سيطرة النظام، وشرقية تحت سيطرة الجيش السوري الحر. وتربط القسمين معابر قتل فيها عدد كبير من السوريين أثناء تنقلهم حيث كانوا صيداً سهلاً لقناصة النظام.
وارتكب النظام مطلع عام 2014 مجازر رهيبة بحق سكّان الأحياء الشرقية من خلال رميهم بالبراميل المتفجرة ما أدى إلى تهجير أكثر من مليون مدني إلى الشمال وتركيا. ولم يستثن النظام أي منطقة كانت تحت سيطرة فصائل الجيش الحر، إذ قصف المسجد الأموي، أو ما يُعرف بـ"الجامع الكبير" في عام 2013، ما أدى إلى سقوط مئذنته واحتراق سوق "المدينة"، أشهر الأسواق ليس في حلب فحسب، بل في سورية.
تركز الجهد الروسي فور دخوله على خطّ الأزمة السورية على حلب وريفها
وشهدت الأحياء الشرقية في ذلك العام معارك ضارية بين فصائل الجيش الحر وتنظيم داعش الذي كان تسلل إلى هذه الأحياء، أدت إلى طرده بالكامل من مدينة حلب. وبقيت الأحياء الشرقية من حلب تتعرض للقصف الجوي يومياً، ما أدى إلى وقوع مجازر بحق من بقي من أهلها حتى أواخر عام 2015 فقد تبدلت المعادلات العسكرية في سورية مع تدخّل الروس المباشر إلى جانب النظام. وفي الربع الأول من عام 2016، تركز الجهد الروسي على حلب وريفها الواقع تحت سيطرة النظام، فوجدت فصائل المعارضة نفسها أمام قوة نارية هائلة أدت إلى تقدم قوات النظام ومحاصرة الأحياء الشرقية عبر قطع طريق الكاستلو الشهير الذي كان شريان الحياة لهذه الأحياء. وفي منتصف ذاك العام، شنّت فصائل المعارضة السورية هجوماً من غربي حلب، استطاعت من خلاله الدخول إلى أحياء في المدينة، إلا أنها سرعان ما انسحبت تحت وطأة قصف ناري روسي غير مسبوق. كما حاولت الفصائل فكّ الحصار عن أحياء حلب الشرقية عبر محور الراموسة جنوب حلب، وهو ما نجحت به، ولكن لأيام عدة فقط.
في أواخر عام 2016 بدأت قوات النظام ومليشيات إيرانية هجوماً تحت غطاء ناري روسي على فصائل المعارضة السورية في الأحياء الشرقية لحلب، ما دفع هذه الفصائل للقبول باتفاق جرى بين موسكو وأنقرة، أدى إلى خروجها نهائياً من حلب في ديسمبر/كانون الأول من ذاك العام. ولكن هذه الفصائل عادت بعد نحو تسع سنوات ولكن هذه المرة سيطرت على كامل مدينة حلب وهو ما ستكون له تداعيات كبرى وتأثير عميق على مجرى الصراع في البلاد كلّها.
ورقة قوية للمعارضة
ووصف الخبير العسكري ضياء قدور، في حديث مع "العربي الجديد"، حلب بـ"المدينة ذات الأهمية الاستراتيجية لأسباب عدة"، مضيفاً: "الموقع الجغرافي لحلب يجعلها نقطة وصل حيوية بين الشمال والجنوب، ما يمنح من يسيطر عليها ميزة التحكم في الحركة والتنقل بين هذه المناطق". وتابع: "حلب تُعتبر العاصمة الاقتصادية لسورية، وتحتوي العديد من المصانع والمراكز التجارية، ما يجعل السيطرة عليها مكسباً اقتصادياً كبيراً يمكن أن يعزز الموارد والإمكانات اللوجستية للمعارضة". وأشار إلى أن لحلب "بعداً رمزياً"، فهي "واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، ولها تاريخ طويل وعريق، ما يعطي السيطرة عليها قيمة معنوية كبيرة للفصائل ويعزز من روحهم القتالية". وبرأيه، فإن السيطرة على حلب "تعني التحكم في واحدة من أكبر المدن السورية، ما يمنح قاعدة قوية للعمليات العسكرية ضد النظام السوري"، معرباً عن اعتقاده بأن "خسارة نظام الأسد لمدينة حلب تعكس يأس المجتمع الدولي من رغبة النظام في إعادة ملايين المهجرين السوريين". وأضاف: "تحرير حلب سيشكل دافعاً قوياً لعودة ملايين المهجرين السوريين".
ضياء قدور: السيطرة على حلب مكسب اقتصادي كبير يعزز الموارد والإمكانات اللوجستية للمعارضة
وتابع: "مع تحرير حلب، ستزداد عزلة نظام بشار الأسد بشدة، ومع الضربات المعنوية والعسكرية التي تلقاها، ستتشكل موجة ضخمة من الارتدادات على كل المناطق التي يسيطر عليها. إن تحرير مدينة حلب، ثاني أكبر مدينة في سورية والمدينة الصناعية الأولى، يجب أن يدق ناقوس الخطر لدى كل المتحالفين مع نظام الأسد بأن هذه الموجة العارمة لردع العدوان لن تتوقف عند حدود هذه المحافظة، ما يهدد شرعية واستقرار النظام الحاكم في دمشق".
وتعليقاً على سيطرة فصائل المعارضة السورية، بيّن الباحث السياسي أحمد القربي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "النظام كان مدركاً منذ البداية أهمية حلب لذا كان التركيز الأمني عليها كبيراً، إذ جنّد آلاف الشبيحة لوأد أي حراك ثوري في المدينة، وهو ما دفع الجيش الحر لمحاولة تحريرها بالقوة في عام 2012". وتابع: "الحديث عن حلب وريفها، يعني الحديث عن نصف سورية وعن ثقل اقتصادي وثقافي هائل وكتلة بشرية كبيرة، وهي بوابة تركيا إلى العالم العربي". وأوضح القربي أن "لحلب أهمية سياسية كبيرة في سورية منذ استقلال البلاد"، مضيفاً أنه "مع تحرير حلب، يعني أنه بات لدى المعارضة ورقة مهمة جداً، بحيث بات اليوم الحديث عن إنجاز حلّ سياسي ممكناً جداً. إن سيطرة قوى الثورة والمعارضة على حلب يعطيها الورقة الأهم، خصوصاً أن النظام لم يعد في مقدوره الحديث عن سلطة الدولة في سورية".