حرب العراق 2003: فورة الفرانكوفوبيا في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة

04 ابريل 2023
شيراك يتوسط بلير وبوش في ولاية جورجيا الأميركية، 2004 (تيم سلون/فرانس برس)
+ الخط -

شهدت الحرب على العراق في عام 2003 ومرحلة المفاوضات في الأمم المتحدة التي سبقتها، والتي عبّرت خلالها فرنسا عن معارضتها للسياسة الأميركية، إطلاق العنان في الولايات المتحدة - وكذلك في المملكة المتحدة - لحملة قوية من الفرانكوفوبيا (رهاب فرنسا)، لا مثيل لها ربما في التاريخ المشترك لهذين البلدين.

أنكر (الرئيس الأميركي في ذلك الحين جورج) بوش ومحيطه من المحافظين الجدد في أعقاب الهجمات على نيويورك وواشنطن (11 سبتمبر/أيلول 2001) أن تكون لهذا العنف الشديد - أو هذا "الإرهاب" - دلالة وأسباب عميقة، قريبة أو بعيدة. وقد تجاهلوا ذلك متخذين موقفاً أخلاقياً قاطعاً، لا رجعة فيه، يجعل من الولايات المتحدة أنصار خير تعرضوا لهجوم من قبل أحد أتباع الشر (1). استعمل الرئيس الأميركي الأسبق الراحل رونالد ريغان تعبير "إمبراطورية الشر" مع بداية الثمانينيات، كطريقة للإشارة إلى الاتحاد السوفييتي.

كان الرئيس الأميركي يُقسّم العالم آنذاك إلى معسكرين على أساس "محور الشر"، وأنذر كل أمة أنه عليها أن تختار التموقع على جانب أو آخر من هذا الخط الفاصل الصارم. إما الانحياز إلى جانب أنصار "الإرهاب" أو الانضمام إلى "الحملة الصليبية" لمقاتلي الحرية (بوش هو ذاته من استعمل مصطلح "الحملة الصليبية - croisade"). يجب أن تكون إما مع هذا أو مع ذاك، فلا مفر ممكناً.

كان الرئيس الأميركي يُقسّم العالم آنذاك إلى معسكرين على أساس محور الشر

لم يكن إِنذار بوش أكثر أو أقل من إعلان حرب عالمية على "الإرهاب"، كان التدخل العسكري في العراق محطته الأولى. لم يكن هناك فهم لإحجام فرنسا (وبعض الدول الأخرى) عن تبني هذا المخطط التبسيطي، ثم معارضتها الحرب على العراق. وقد أثار ذلك شعوراً عميقاً بالظلم والغضب لدى الإدارة والمجتمع الأميركيين، سرعان ما تحول إلى فرانكوفوبيا شديدة عامة تقريباً، بلغت ذروتها عامي 2002 و2003 قبل أن تنحسر تدريجياً دون أن تختفي تماماً.

فرنسا إلى جانب أعداء الحرية

كان الموقف الأخلاقي الأميركي يرفض الطعن أو التشكيك فيه، لأن قناعة أولئك الذين تبنوه كانت كاملة وشاملة. لذا كانت الصدمة كبيرة عندما تبين أن الرئيس الفرنسي في ذلك الحين جاك شيراك (توفي عام 2019) لمّح في عام 2002 إلى أنه لا يؤيد الحرب ضد صدام حسين، ولكنه يدعو في المقابل إلى وجود مفتشين من الأمم المتحدة في العراق لتحديد ما إذا كانت البلاد تمتلك أسلحة دمار شامل.

وصل عدم الفهم إلى الذروة عندما أصبح جلياً أن فرنسا ستستخدم سلاحها الفتاك، حق النقض الذي تملكه في مجلس الأمن الدولي، وأنها عملت على إنشاء تحالف مناهض للولايات المتحدة في مجلس الأمن، ولا سيما خلال زيارة خاطفة لدومينيك دوفيلبان (وزير الخارجية الفرنسي آنذاك) إلى الكاميرون وغينيا وأنغولا، الذين كانوا آنذاك أعضاء غير دائمين في مجلس الأمن. لدى مغادرته منصبه سنة 2005، لخّص السفير الأميركي في باريس، هوارد إتش ليتش، موقف الرأي العام للأميركيين قائلاً إنه "لم يعمل أي زعيم فرنسي آخر في الماضي بهذه الطريقة ضد مصالح الولايات المتحدة".

أفسح سوء الفهم الطريق للغضب. تساءل بعضهم لماذا كان شيراك أول رئيس دولة يزور الرئيس بوش بعد أسبوع فقط من هجمات 11 سبتمبر 2001. لم يُفهم أن عدداً كبيراً جداً من الباريسيين تجمعوا أمام السفارة الأميركية في باريس للتعبير عن تعاطفهم.

حاول الفرنسيون، من دون جدوى، في مواجهة الغضب الأميركي استرجاع ذكرى ملحمة لافاييت أو الإنزال الأميركي في نورماندي، قصد إبراز أن العداء لم يكن موجهاً لأميركا ولكن لسياسة بوش التي تغذيها أيديولوجية المحافظين الجدد. لتقدير حجم الغضب الذي انتاب الأميركيين عند الإعلان عن استخدام فرنسا لحق النقض لمنع أي قرار يفتح الطريق للحرب، تكفي قراءة الصحافة الأميركية (والإنكليزية) في ذلك الوقت أو الأدبيات (2) التي تلت ذلك.

أرض كل "الفواحش"

غطّت حملة من التضليل والافتراء كامل الأراضي الأميركية (3). في هذا الصدد، يعد كتاب كينيث ر. تيميرمان، "الخيانة الفرنسية لأميركا"، ذا دلالة. وهو عبارة عن سرد لمجموعة من "الفواحش" الفرنسية يعطي وصفاً جيداً للحالة الذهنية للأميركيين في ذلك الوقت. "الخيانة ... الرياء، ... الهوس بفعل كل شيء حتى تفشل الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط ... تواطؤ فرنسا مع صدام حسين منذ 1975 ... كل شيء بالنسبة لفرنسا كان مجرد مسألة أموال ونفط وأسلحة، إلخ ..." (4).

أبرز توماس فريدمان، وهو كاتب عمود مؤثر في صحيفة "نيويورك تايمز"، أن فرنسا أصبحت "عدو أميركا وأنها (تريد) أن ترى أميركا تفشل في العراق" (5). ازدهرت من دون عوائق في المجتمع الأميركي حملة تقريع ضد فرنسا (French bashing - حملة التشهير ضد الفرنسيين) - وهي رياضة يتفوق فيها الإنكليز أيضاً: سُكب نبيذ بوردو في المجاري، تمت الدعوة إلى مقاطعة الجبن والنبيذ والمنتجات الفاخرة "المصنوعة في فرنسا". تمّ وضع ملصقات على السيارات تندد بالخيانة الفرنسية وطبع قمصان فيها وصية بضرب "العراق أولاً، ثم فرنسا".

كما دعت اللافتات في التجمعات العامة إلى "قصف فرنسا أولاً" وعادت تسمية "القردة المتخاذلون أكلة الجبن" (6) إلى الظهور وحققت نجاحاً باهراً. بل واتُهمت فرنسا ببيع معدات عسكرية أو حتى نووية سنة 2003 (هكذا!) لصدام حسين. اتُهمت فرنسا بالجحود، متناسية المساعدات العسكرية والاقتصادية التي قدمها لها الأميركيون أيام الحربين العالميتين (7)، لأن واشنطن "أنقذت مؤخرتها" ووفرت لها "حماية مجانية خلال الحرب الباردة".

حاول الفرنسيون في مواجهة الغضب الأميركي إبراز أن العداء لم يكن موجهاً لأميركا ولكن لسياسة بوش

بالنسبة لكريستوفر هيتشنز، المراسل المنتظم لمجلة "فانيتي فير" ووجه من "اليسار" المثقف، شيراك رجل من النوع الذي يُشترى من قبل صدام حسين. وهو يذكره بالشخصية الأدبية لمصرفي: "رجل متعود على الفساد لدرجة أنه سيدفع بطيب خاطر لشراء نفسه من أجل الحصول على المتعة".

في مارس/آذار 2003، نُسبت إلى كوندوليزا رايس، مستشارة الرئيس بوش للأمن القومي، عبارة قاتلة، سواء كانت صحيحة أو خاطئة، جعلت طيور شؤم تحلق فوق العلاقات الفرنسية الأميركية: "يجب أن نتجاهل ألمانيا، وأن نغفر لروسيا، وأن نعاقب فرنسا". وليس من قبيل المبالغة القول إن الفرانكوفوبيا كانت حينها في أوجها (8).

"شيراك دودة"

من جانب إنكلترا، لم يكن التعبير عن المشاعر المعادية للفرنسيين أقل حدة أيضاً. عرضت الجريدة الشعبية "ذا صن"، رسماً كاريكاتورياً يظهر جاك شيراك في شكل دودة أرض، في طبعة ورقية وزّعت حتى في فرنسا نفسها ("شيراك دودة"، عنونت الجريدة تابلويد بالفرنسية). كما غامرت "ذا صن" بتقديم الرئيس الفرنسي على أنه "عاهرة صدام حسين".

وعلى نحو أكثر أو أقل دهاء، قدّم رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الحين توني بلير، الموالي لأوروبا، شيراك بطريقة منحازة للمساهمة في خلق مشاعر مؤيدة للحرب في المملكة المتحدة، ثم حمَّل الرئيس الفرنسي مسؤولية حرب لا تحظى بتفويض من الأمم المتحدة كان هو نفسه يجر بلاده إليها، وهو أمر لم يكن العديد من البرلمانيين وأعضاء من معسكره السياسي وجزء من الرأي العام مستعدين لقبوله. في 30 يناير/كانون الثاني 2003، شارك توني بلير في توقيع رسالة مفتوحة تطالب الاتحاد الأوروبي - الذي انقسم بعد ذلك بشأن صواب خوض الحرب - بأن يظل موحداً وراء السياسة الأميركية، من دون أن يتحدث عنها مع بعض الشركاء الأوروبيين، بما في ذلك فرنسا.
أنت ما لست أنا

على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، تمّ تقديم الفرنسيين في الصحافة المكتوبة أو السمعية البصرية على أنهم عكس الأميركيين تماماً. تم تذكيرهم بأنهم "قذرون" وبأنهم متعودون "على الخيانات"؛ وأنهم يظهرون "مسالمة" بينما يظهر الأميركيون وطنيتهم؛ وبأنهم خسروا كل حروبهم. وبأنهم كانوا يعيدون الاتصال بأعداء الولايات المتحدة، كما سبق أن فعل شارل ديغول، وفقاً لتصور أميركي؛ وأن ماريان - رمز الجمهورية الفرنسية - لم تكن محاربة قادرة على الدفاع عن الجمهورية بل امرأة واهنة ومسالمة وفاترة، على نقيض العم سام القوي وورثته الأبطال في سينما هوليوود (طرزان، رامبو، سوبرمان، باتمان، رعاة البقر). كما ازدهرت الاتهامات بمعاداة السامية، والتي دعمتها الهجمات المعادية لليهود (9) في الأشهر الأولى من عام 2002. 

كأنه شيء سبقت رؤيته (déjà-vu)

لم تكن هذه الكليشيهات جديدة. سبق أن تم استخدامها سنة 1957 للتنديد بأحداث السويس وحرب الجزائر. وتم سكب النبيذ الفرنسي (الذي صار بالتأكيد علامة عن الحضارة الفرنسية) في مجاري لوس أنجليس. في سنة 1958، اعتبر بعض السياسيين الأميركيين طلب الجنرال ديغول تنصيبه من قبل الجمعية الوطنية بمثابة عمل ديكتاتوري. وقد تذكر الأميركيون حينها لفتة ونستون تشرشل (رئيس وزراء المملكة المتحدة 1940 – 1945) التهكمية عندما صرح بأن أثقل صليب (عبء) كان عليه أن يحمله خلال الحرب هو صليب اللورين. في عام 1986، انطلقت حملة جديدة من الفرانكوفوبيا في القارة الأميركية لأن الحكومة الفرنسية رفضت حق تحليق القاذفات الأميركية فوق الأراضي الفرنسية لضرب ليبيا. وسُكب النبيذ مرة أخرى.

تمّ تقديم الفرنسيين في الصحافة على أنهم عكس الأميركيين تماماً

لقد مرّ بعض الوقت. كانت لبعض الأسماء الكبيرة في الصحافة الأنغلوسكسونية، التي سارعت إلى دعم مشروع واشنطن الحربي، فَضِيلَة القيام بنقد ذاتي. في افتتاحية مطولة في 26 مايو/أيار 2004، اعترفت صحيفة "نيويورك تايمز" بأنها تركت نفسها تنجرف ولامت نفسها لكونها لم تكن أكثر يقظة تجاه مصادرها. برّأت الصحيفة مراسليها لكنها حملت عبء أخطائها على عاتق مديري تحريرها، منتقدة إياهم لأنهم لم يظهروا مزيداً من الاِرتياب تجاه معلوماتهم - خاصة تلك التي يقدمها المنشقون العراقيون - بدلاً من التسرع في نشر هذه المعلومة أو تلك ركضاً وراء سبق صحافي.

لقد مر وقت. لكن الولايات المتحدة وفرنسا، كل في فئته، تتظاهران بأنهما بطلتان للمُثُل العالمية والديمقراطية، غير أن واشنطن تجزم أنه لا يمكن أن يكون هناك سوى "ذَكَرٌ ألفا" واحد. (أي "الأحادية الأميركية" أو "القوة المفرطة"، وفقا لصيغة وزير الخارجية الفرنسي الأسبق هوبير فيدرين).

تلطف الجو. ولا تقتضي الظروف السياسية الحالية عودة تصريحات محملة بالفرانكوفوبيا. لكن التحيزات نوع معمر، وهي راسخة في العقل الباطن الجمعي حيث لا يتطلب الأمر الكثير لكي تعود بسهولة.

في 26 يناير 2023، نشرت وكالة "أسوشييتد برس"، وهي وكالة أنباء أميركية مهمة، تغريدة حول كيفية الكتابة في وسائل الإعلام: "نوصي بتجنب التسميات الشاملة والمزيلة في كثير من الأحيان للطابع الإنساني، مثل "الفقراء" و"المرضى عقلياً" و"الفرنسيين" و"المعوقين" و"الخريجين". استخدم بدلاً من ذلك كلمات مثل الأشخاص المصابين بمرض عقلي. ولا تستخدم هذه الأوصاف إلا عندما تكون ذات صلة بشكل واضح".

يبدو، في آخر المطاف، أننا سنضطر إلى حب سلسلة "إميلي في باريس"، المليئة بالكليشيهات ولكنها "شيك" للغاية.

يُنشر بالتزامن مع "أوريان 21"
https://orientxxi.info/ar

(1) "محور الشر": تعبير استخدمه الرئيس جورج دبليو بوش في خطابه في 29 يناير 2002. الدولتان الأخريان من محور الشر هما إيران وكوريا الشمالية.
(2) بعض وسائل الإعلام والأعمال التي نشرت وأنتجت برامج معادية لفرنسا والفرنسيين أو تشير إليهما: واشنطن بوست، نيوزويك، نيويورك تايمز، واشنطن تايمز، نيويورك بوست، وول ستريت جورنال، شيكاغو تريبيون، سي بي إس لايت شو، إن بي سي ذا تونايت شو، فوكس نيوز كانال شو، مارك موليسكي وجون جيه ميلل، أعداؤنا الأقدم: تاريخ علاقة أميركا الكارثية بفرنسا؛ هارلو جيلز أونغر، الحرب الفرنسية ضد أميركا؛ جستان فايس، "عودة الفرنكوفوبيا"، مجلة السياسة الدولية، رقم 97 (خريف 2002)، إلخ.
(3) جيرار أرو، جواز سفر دبلوماسي، Grasset and Fasquelle، 2019.
(4) كينيث ر. تيميرمان، الخيانة الفرنسية لأميركا Three Rivers Press، 2005.
(5) نيويورك تايمز- 18 سبتمبر 2003.
(6)"القردة المتخاذلون أكلة الجبن"، تأتي العبارة من سلسلة عائلة سمبسون، التي اخترعتها على ما يبدو في إبريل/نيسان 1995.
(7)، أنظر وليام سافاير: والآن: الدبلوماسية التحريرية -
William Safire, "And Now: Op-Ed Diplomacy",The New York Times, 3 février 2003.
(8) يتجاهل هذا المقال عن قصد الشعبية التي لا تضاهى التي تمتعت بها فرنسا في جميع أنحاء العالم خلال هذه الفترة، خارج الولايات المتحدة، بما في ذلك إسبانيا والمملكة المتحدة، وهما دولتان كانتا مع ذلك جزءاً من التحالف العسكري.
(9) هجمات معادية للسامية في فرنسا (2002)، لا سيما ضد كنيس يهودي في ليون (30 مارس) أو في مرسيليا (1 إبريل).