مرّ عام كامل منذ أن أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي، أبي أحمد، بدء حرب ضد "جبهة تحرير شعب تيغراي" في إقليم تيغراي شمالي البلاد، بهدف طرد قادة الجبهة ومحاكمتهم وإنهاء تمردهم، بعد اتهام الجبهة بشن هجوم على قاعدة للجيش. لكن ما أراده رئيس الوزراء الإثيوبي لم يتحقق، لا بل انقلبت الأمور عليه، وتوسّع الصراع إلى أبعد من تيغراي، ووصلت ارتداداته في الأيام الأخيرة إلى قلب العاصمة أديس أبابا التي بات المتمردون على طريقها ومهددين بالزحف إليها، في أخطر منعطف للأحداث منذ عام؛ ليس فقط على الصعيد العسكري وإنما على الصعيد السياسي كذلك. وبات حكم أبي أحمد مهدداً وعرضة لعزلة دولية تزداد يوماً بعد آخر، خصوصاً مع إصرار طرفي الصراع على مواصلة الحرب وانضمام قوميات أخرى لها. ويبدو أن أبي أحمد بات يستعين اليوم بدعم خارجي أبعد من الدعم الإريتري الذي تجلى على أكثر من مستوى خلال أشهر الحرب، إذ أفادت بيانات موقع "فلايت رادار" المتخصص في تتبع رحلات الطيران، أمس الأربعاء، بأن 14 رحلة شحن عسكري انطلقت من الإمارات لإثيوبيا خلال الأيام الـ10 الماضية أي تزامناً مع اشتعال المواجهة بين القوات الإثيوبية والمتمردين.
وتُتهم حكومة أبي أحمد اليوم بارتكاب جرائم إنسانية، في صورة مغايرة تماماً للمشاعر الإيجابية التي سادت داخلياً وخارجياً عند توليه الحكم في مارس/آذار عام 2018، وفي العام التالي خصوصاً عند منحه جائزة نوبل للسلام في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 لجهوده في "تحقيق السلام والتعاون الدولي" بعد دوره في حل النزاع الحدودي مع إريتريا والتوسط في أزمة انتقال السلطة في السودان إلى جانب بوادر الانفتاح السياسي التي كان أبداها عقب تسلمه منصبه. فالرجل الذي بدا "منارة للأمل" و"صانع سلام إقليمي" والذي قال عند استلامه جائزة نوبل إن "الحرب مثال للجحيم"، بات اليوم مداناً كطرف في حرب أهلية شرسة حملت بصمات الإبادة الجماعية وزعزعت استقرار إثيوبيا، وعواقبها لم تنته بعد، لا بل إن المخاوف تكبر اليوم أكثر من جولة جديدة من الحرب قد تكون الأعنف.
اندلعت أعمال عنف بدوافع عرقية في أجزاء أخرى من البلاد
ومنذ بدء الصراع، اندلعت أعمال عنف بدوافع عرقية في أجزاء أخرى من البلاد، بما في ذلك في إقليم أوروميا، مسقط رأس أبي أحمد، والمنطقة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في البلاد، بينما باتت جماعة "جيش تحرير أورومو" تتوعد بإسقاط رئيس الوزراء جنباً إلى جنب مع "جبهة تيغراي". وعلى الرغم من الوعود برأب الانقسامات العرقية وتمهيد الطريق لإثيوبيا ديمقراطية موحدة بعيداً عن الخلفيات العرقية، فقد لجأ أبي بشكل متزايد إلى إجراءات الأنظمة القمعية من قطع خدمات الإنترنت والاتصالات، واعتقال الصحافيين وقمع المنتقدين، كما اتهمته تقارير عدة.
ووسط كل هذه التطورات، يمكن القول إن أبي أحمد لم يحقق شيئاً من حربه ضد "جبهة تيغراي"، لا بل إنه حصد بعد عام من بدء هذه الحرب، خسائر مضاعفة، وتقريراً أممياً يوثق انتهاكات الحكومة، إلى جانب انتهاكات الأطراف الأخرى، ليكون المنجز الوحيد جرائم إنسانية على مختلف الصعد. لكن على الرغم من ذلك، لا يريد رئيس الوزراء إبراز أي تراجع، وهو مصرّ على المقاومة حتى إنهاء الجبهة، ليبقى السؤال حول تداعيات ذلك والثمن الذي سيدفعه الإثيوبيون في الأيام المقبلة من جراء تواصل الصراع وتمدده.
ومجدداً، وعد أبي أحمد أمس الأربعاء، بدفن أعداء حكومته "بدمائنا" في ذكرى مرور سنة على بدء الحرب في إقليم تيغراي. وتحدث أحمد بعد يوم من إعلان حالة الطوارئ في البلاد بعد أن أشارت قوات تيغراي إلى أنها ستتقدم صوب العاصمة.
وقال في كلمة ألقاها خلال فعالية في مقر للجيش بأديس أبابا: "الحفرة التي تم حفرها ستكون عميقة جداً، وستكون حيث يدفن الأعداء وليس حيث تتفكك إثيوبيا"، في ما يمكن اعتباره رداً ضمنياً منه على الحديث المتصاعد عن عواقب الحرب وتهديدها بتفكيك إثيوبيا التي تعيش فيها عرقيات وقوميات عدة. وأضاف: "سندفن هذا العدو بدمائنا وعظامنا وسنعلي مجد إثيوبيا من جديد".
واتهم أبي أحمد أمس تحالف المتمردين بـ"تحويل إثيوبيا إلى ما يشبه ليبيا أو سورية". وقال: "يريدون تدمير دولة وليس بناءها"، داعياً الإثيوبيين إلى الوحدة.
وأُعلنت دقيقة صمت في مراسم تأبين بالشموع المضاءة لإحياء ذكرى قتلى يوم الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني 2020 عندما هاجمت قوات موالية لـ"جبهة تحرير شعب تيغراي"، قواعد عسكرية في الإقليم، بحسب الحكومة.
وفرضت الحكومة حالة الطوارئ أول من أمس الثلاثاء. وجاء القرار بعدما قالت "جبهة تيغراي" إنها استولت على مناطق عدة في الأيام الأخيرة ولا سيما مدينتي ديسي وكومبولشا الاستراتيجيتين، وإنها قد تزحف نحو العاصمة أديس أبابا التي تبعد مسافة 380 كيلومتراً إلى الجنوب من مواقعها المتقدمة. وبدا الخطر أكثر إحداقاً بالعاصمة مع إعلان "جيش تحرير أورومو" بإقليم أوروميا المجاور للعاصمة، والذي تحالف في أغسطس/آب الماضي مع "جبهة تحرير شعب تيغراي"، أنه دخل إلى مدن عدة في جنوب كومبولشا بينها كيميسي على بعد 320 كيلومتراً من أديس أبابا.
متمردون: السيطرة على أديس أبابا مسألة أشهر أو أسابيع
وستمكن حالة الطوارئ التي تستمر ستة أشهر، الحكومة من توجيه الأمر للمواطنين البالغين بتلقي التدريب العسكري وقبول الواجبات العسكرية. كما يسمح إعلان حالة الطوارئ للسلطات بالقبض بشكل عشوائي على أي شخص تشتبه في تعاونه مع "جماعات إرهابية" واعتقاله مدة الطوارئ، وفقاً لنص الإعلان. علماً بأن الحكومة صنفت "جبهة تيغراي" منظمة إرهابية في مايو/أيار الماضي. ووصف المتحدث باسم "جبهة تحرير تيغراي" غيتاشو رضا، أمس، هذه الإجراءات بأنها "تفويض مطلق لسجن أو قتل عناصر جبهة تيغراي". وكتب على تويتر: "فيما أصبح النظام على وشك الانهيار، يطلق أبي ومساعدوه أجواء رعب وانتقام".
وبعد إعلان حالة الطوارئ تواترت أنباء عن اعتقال أشخاص من تيغراي في العاصمة على أساس عرقي واقتياد الشرطة لهم مساء أول من أمس الثلاثاء. وقال أحد السكان لوكالة "رويترز" إنه رأى الشرطة في حي بولي في وسط المدينة توقف الناس عشوائياً في الشارع وتطلب منهم إبراز بطاقات هوياتهم التي تحدد عرقيتهم. وقال: "رأيت ثلاثة أشخاص جرى اعتقالهم".
ولكن لا يبدو أن ذلك سيثني الجبهة وحلفاءها عن مواصلة التهديد، وقد أعلن "جيش تحرير أورومو"، أمس الأربعاء، لوكالة فرانس برس، أن الاستيلاء على أديس أبابا "مسألة أشهر، إن لم يكن أسابيع". إذ قال المتحدث باسمه أودا طربي، رداً على سؤال حول احتمال دخول العاصمة: "إذا استمرت الأمور على الوتيرة الحالية، فسيكون ذلك حينئذ مسألة أشهر إن لم يكن أسابيع". وأضاف أن "جيش تحرير أورومو" و"جبهة تحرير شعب تيغراي"، "انضما أساساً بعضهما لبعض وهما على اتصال دائم"، مؤكداً أن سقوط رئيس الوزراء أبي أحمد "محسوم".
في الأثناء، وبينما تواصل القوات الإثيوبية تنفيذ غارات على تيغراي منذ أسابيع، أعلنت الحكومة الفيدرالية أمس الأربعاء أنها استهدفت "مركز تدريب عسكري لمجموعة جبهة تحرير شعب تيغراي الإرهابية" في ادي بوراي بشمال تيغراي.
وبدأ النزاع في تيغراي في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، وشهد تحولاً كبيراً وتبدلاً في موازين القوى أكثر من مرة في الأشهر الماضية. وأعلن أبي أحمد الانتصار في 28 نوفمبر 2020، بعدما أرسل الجيش إلى المنطقة لإقالة السلطات المنشقة من "جبهة تحرير شعب تيغراي" التي اتهمها بأنها هاجمت قواعد عسكرية فيدرالية. لكن في يونيو/حزيران الماضي، استعاد المقاتلون المتمردون السيطرة على معظم المنطقة، وأجبروا القوات الإثيوبية على الانسحاب إلى حد كبير. وواصلوا هجومهم في مناطق بإقليمي أمهرة وعفر المجاورين.
وتخللت النزاع الدائر منذ عام روايات عن انتهاكات من مجازر وعمليات اغتصاب، خصوصاً في حق مدنيين، وقد غرق الشمال الإثيوبي في أزمة إنسانية خطرة يواجه فيها مئات الآلاف خطر المجاعة. وهذه الانتهاكات وثقتها الأمم المتحدة في تقرير أعدته بشكل مشترك مع اللجنة الإثيوبية لحقوق الإنسان التي أسستها الحكومة الإثيوبية، وأصدرته أمس الأربعاء. ونددت المفوضة السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، ميشال باشليه بـ"وحشية قصوى" تطغى على النزاع في إقليم تيغراي خلال عرضها نتائج التحقيق المشترك والذي خلص إلى احتمال وقوع جرائم ضد الإنسانية ارتكبها كل الأطراف. وأكدت باشليه في جنيف أن "خطورة الانتهاكات التي رصدناها تؤكد ضرورة محاسبة المسؤولين عنها مهما كان المعسكر الذي ينتمون إليه". وأفاد التقرير بأنه "ثمة أسباب معقولة تدفع للاعتقاد بأن كل أطراف النزاع في منطقة تيغراي ارتكبوا، بدرجات متفاوتة انتهاكات للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي وقانون اللاجئين الدولي، وقد يشكل بعضها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية".
تقرير أممي: الحرب في إثيوبيا اتسمت بوحشية قصوى
من جهته، قال دانيال بيكيلي كبير المفوضين من قبل اللجنة الإثيوبية لحقوق الإنسان، كما ورد في بيان للمفوضية السامية، إن "هذا التقرير يشكل فرصة لكل الأطراف للاعتراف بمسؤوليتهم والالتزام باتخاذ خطوات ملموسة في ما يتعلق بالتعويض على الضحايا وإيجاد حل دائم لإنهاء معاناة ملايين الأشخاص". بدوره، قال رئيس الوزراء الإثيوبي إنه يقبل التقرير على الرغم من وجود بعض "التحفظات الشديدة"، وأضاف أنه لا يتهم الحكومة بارتكاب أعمال إبادة أو استخدام الطعام كسلاح. وأوضح أنه سيتم تشكيل فريق عمل من المدنيين والعسكريين للتحقيق في جميع الاتهامات الواردة في التقرير.
ويغطي التقرير الفترة الممتدة من الثالث من نوفمبر 2020، حين أطلق أبي أحمد الهجوم ضد سلطات تيغراي المنشقة، حتى 28 يونيو/حزيران حين أعلنت أديس أبابا وقفاً لإطلاق النار من جانب واحد. وأعد التقرير بعد تحقيقات في تيغراي وإجراء 269 مقابلة سرية واجتماعات مع السلطات المحلية والفدرالية ومنظمات غير حكومية أو حتى أعضاء من الطواقم الطبية. لكن الفريق واجه عراقيل ولم يتمكن من القيام بكل زياراته إلى بعض مناطق تيغراي كما جاء في بيان المفوضية السامية. كذلك أثار التحقيق شكوكاً حول حياده لا سيما وأن السلطات طردت أحد محققي المفوضية السامية إلى جانب ستة مسؤولين آخرين من الأمم المتحدة.
في رد فعل قبل نشر التقرير، تحدثت "جبهة تيغراي" عن "منهجية منحازة تشوه سمعة" المفوضية السامية.
وندد التقرير مستنداً إلى شهادات، بـ"هجمات عشوائية" ضد المدنيين وإعدامات خارج إطار القضاء وأعمال تعذيب وخطف وتوقيفات عشوائية أو حتى أعمال عنف جنسية ونهب. وأكد أن كل أطراف النزاع استهدفت بشكل مباشر المدنيين والمدارس والمستشفيات ودور العبادة. كذلك سلط الضوء على دور القوات الإريترية التي جاءت لدعم القوات الحكومية وأجبرت لاجئين على العودة إلى إريتريا. وذكر التقرير الذي جاء في 100 صفحة أن الجنود الإريتريين قتلوا نحو 100 من المدنيين في مدينة أكسوم وأنهم أخرجوا نحو 70 رجلاً من منازلهم عنوة وأعدموهم في ثلاث قرى في جنوب تيغراي. وأحجم وزير الشؤون الخارجية الإريتري عثمان صالح عن التعليق. وذكر التقرير أن إريتريا رفضت التعاون مع المحققين.
وقال التقرير أيضاً إن قوات تيغراي قتلت نحو 200 مدني من أمهرة في بلدة ماي كادرا وهي جريمة أعقبتها عمليات قتل انتقامية للمنتمين لتيغراي على يد قوات أمهرة. فيما نفت سلطات إقليم أمهرة ارتكاب أي انتهاكات. ودعا التقرير المجتمع الدولي لضمان محاسبة مرتكبي هذه الأعمال عبر تشكيل لجنة تحقيق دولية بهدف إطلاق ملاحقات مستقبلية.
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)