جولة أخرى أو حرب قادمة على غزّة

28 مايو 2023
تدريبات عسكريّة جنوبيّ قطاع غزّة (عبد الرحيم الخطيب/Getty)
+ الخط -

مثلت مسألة "وحدة الجبهات" في الآونة الأخيرة؛ للرد على جرائم وتجاوزات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تحدياً جدياً للقيادة السياسية والعسكرية والأمنية الصهيونية، لكون توحد الجبهات، والتوافق النسبي بين القوى الوطنية الفلسطينية، سيفضيان حتماً إلى نقلة نوعية في الأداء الفلسطيني المقاوم، وهو ما افتقدته الساحة الفلسطينية في غالبية مراحلها التاريخية.

لقد أدركت المؤسسة العسكرية والأمنية الصهيونية؛ وقبلها القيادة السياسية، أن جولة التصعيد من عدة جبهات خلال شهر رمضان المبارك، رغم محدوديتها، قد ضربت مفهوم "الردع"، القائم على امتناع المقاومة الفلسطينية عن المبادرة خشية الرد الإسرائيلي في الصميم، كذلك فإن نظرية الأمن القومي الصهيوني، التي رُسخت منذ السنوات الأولى لتأسيس دولة الكيان، والمستندة إلى ثلاث ركائز أساسية؛ إحداها "عامل الردع"، قد اعتراها إخفاق كبير يصعب إخفاؤه. لذلك كان هناك توافق بين مؤسسات صنع القرار الصهيوني على ضرورة إعادة الاعتبار إلى قدرات الردع، من خلال استدعاء الآلة العسكرية الثقيلة، لبث الخوف وزرع الرعب في عقول قادة حركات المقاومة، وفي قلوب حاضنتها الشعبية الجماهيرية.

وتَرسخَ هذا الإصرار الصهيوني بعد استشهاد الأسير الشيخ خضر عدنان في الثاني من مايو/ أيّار الحالي، وبعد ردّ غرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة في غزة على اغتياله، برشقات صاروخية على المناطق الاستيطانية المحيطة بقطاع غزة، ولكن القرار الصهيوني اصطدم بعقبات عدة، تمثلت الأولى بالخشية من تحول أي عملية عسكري محدودة إلى حرب إقليمية شاملة، لا يرغب أحد فيها في دولة الكيان، عوضاً عن الرفض الأميركي لحروب جديدة قد يسببها نتنياهو وشركاؤه في الائتلاف الحكومي اليميني المتطرف.

أما ثانية العقبات، فتمثلت بالجهات المستهدفة صهيونياً، أو القوى التي تمثل الجبهات المتعددة، وذلك لتفاوت الإمكانات والقدرات بينها، خصوصاً العسكرية، التي تسبب إيذاء دولة الكيان بمستويات مختلفة. فإيران مثلاً لا يمكن لدولة الكيان التعامل معها عسكرياً وحيدةً، دون مشاركة أميركية وغطاء أممي غربي، لأن إيران دولة إقليمية كبرى بأذرع منتشرة في مناطق عدة، وقدرتها على ضرب دولة الكيان غير محدودة. أما حزب الله اللبناني، فإنه قادر على دكّ كل بقعة في الكيان بآلاف الصواريخ لأشهر عديدة، والمغامرة مع الحزب في هذه المرحلة غير مضمونة العواقب، لذلك تبقى غزة والمقاومة الفلسطينية فيها الحلقة الأضعف، التي يمكن استهدافها بما يحقق هدف الردع المنشود، دون التسبب بحرب إقليمية أو إغضاب الحليف الأميركي.

وعليه فإن العدوان الأخير على غزة قد يكون مقدمة لعدوان أكبر وأشمل، لا يستثني أيّاً من فصائل العمل الوطني، خصوصاً حركة حماس

على هذه الأرضية شنّ جيش الاحتلال عملية مباغتة  في التاسع من مايو/ أيّار الحالي، استهدف فيها عدداً من قادة حركة الجهاد الإسلامي العسكريين، في محاولة لتصفية القيادة العسكرية الفاعلة في الحركة، ولشق صف المقاومة الفلسطينية في غزة، والاستفراد بحركة الجهاد الإسلامي، وتحييد حركة حماس عن المواجهة، علها تكون الهدف التالي في مرحلة لاحقة، بعد إنضاج الظرفين الإقليمي والدولي، واقتناص فرصة التطورات الميدانية، بما يُمكّن جيش الاحتلال من تكرار الضربة المباغتة على حركة الجهاد الإسلامي، لكن بطريقة أوسع وأشمل مع حركة حماس.

غير أن فصائل المقاومة كانت واعية لمخطط الاحتلال، وحالت دون الاستفراد بحركة الجهاد الإسلامي، فقد شَكَّلت غرفة العمليات المشتركة المظلة الجامعة لكل فصائل العمل الوطني، في جو يسوده الانضباط التام، والتفاهم وتبادل المشورة، وهو ما افتقدته الحركة الوطنية الفلسطينية تاريخياً، خصوصاً عندما ناضلت فصائل العمل الوطني على الحدود الأردنية الغربية بين الأعوام 1968-1971، وفي لبنان حتى عام 1982، وانتقلت عدواها إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، حيث أصيبت الحركة الوطنية بأدوار الانقسام والتشرذم والتنافس المذموم، التي بقيت فيها غزة استثناءً منذ سنوات قليلة مضت فقط.

سجلت حكومة الاحتلال إنجازاً تكتيكياً باغتيالها/استشهاد عدد من قادة المقاومة المنتمين إلى حركة الجهاد الإسلامي، وبتعزيز ما يُسمى "قدرة الردع"، كذلك حقق رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، إنجازات تكتيكية سياسية أخرى، لا تقلّ أهمية عن هدف تعزيز الردع، ربما كانت حاضرة في ذهنه عندما اتخذ قرار الضربة المباغتة، أو أنها تحصيل حاصل إلى جانب أهداف الضربة الرئيسية، فقد عزز نتنياهو من شعبيته وشعبية حزبه على المستوى الجماهيري، وأعاد التماسك لائتلافه الحكومي بعد تذمر شركائه من "القوة اليهودية"؛ بقيادة إيتمار بن غفير، وخفّضَ من مستوى الاحتجاجات الجماهيرية، ولو مرحلياً، ضد خطط الانقلاب القضائي، وتقييد قرارات المحكمة العليا، لصالح الهيئات التشريعية والتنفيذية.

وعليه، لا يمكن اعتبار العملية الجوية المباغتة في غزة، إنجازاً استراتيجياً لدولة الكيان، أو كسراً للمعادلات القائمة بين جيش الاحتلال وفصائل المقاومة، في ظل ميزان القوى المختل بشكلٍ لا يمكن مقارنته لصالح الاحتلال، وبعد أن استمرت المقاومة؛ وبالتحديد حركة الجهاد الإسلامي، في العمل وإطلاق الصواريخ، واستهداف مدينة القدس المحتلة، وأحياء من مدينة تل أبيب وسط فلسطين المحتلة.

وبالنظر أكثر إلى العقل الجمعي الصهيوني، ومفهوم تعزيز الردع ضمن نظرية الأمن القومي، التي يستند إليها الكيان في وجوده واستمراره، فإن العملية الأخيرة تدخل ضمن سياق الإنجازات التكتيكية المحدودة، ذات المردود قصير المدى، وعليه فإن العدوان الأخير على غزة قد يكون مقدمة لعدوان أكبر وأشمل، لا يستثني أيّاً من فصائل العمل الوطني، خصوصاً حركة حماس، كبرى فصائل المقاومة في غزة، التي تهدف بالمحصلة إلى كسر حلقة غزة بقواها المقاومة، وتفكيك مفاعيل القوة العسكرية لجبهة أو حلقة رئيسية في سلسلة الجبهات المتعددة، التي تحيط بدولة الكيان، ولا يعني ذلك أن غزة أمام عدوان عسكري صهيوني وشيك، لكن المسألة خاضعة للظروف الميدانية، وقدرة المؤسسة الاستخبارية التابعة للاحتلال على الوصول إلى أهداف المقاومة المركزية، وتوافر أسباب تتناغم مع سياقات إقليمية ودولية مواتية.