أكد اجتياح الاحتلال الإسرائيلي لمدينة ومخيم جنين مطلع يوليو/تموز الجاري على معطياتٍ وحقائق عدة، لا تخطئها العين والبصيرة، أهمها بالطبع استمرار نكبة وتغريبة اللاجئين في المخيم، كما استمرار الصمود الأسطوري، وعجز الاحتلال؛ رغم جرائمه البشعة والمستمرة طوال قرنٍ تقريباً، عن هزيمة الشعب الفلسطيني، أو عن فرض الاستسلام عليه.
لذلك لم يكن غريباً أن يستخدم أهل المخيم، وحتى وسائل الإعلام الفلسطينية مجتمعةً، على اختلاف انتماءاتها وخلفياتها، مصطلحاتٍ مثل النكبة والتغريبة، في وصف مشاهد التدمير الهائل للمخيم، وتهجير الآلاف من سكانه وأهله اللاجئين أصلاً، والذين هجروا قسراً قبل ذلك من مدنهم وقراهم، أثناء النكبة الأولى "الأصل" في مايو/أيّار عام 1948.
في هذا الصدد؛ تبدو الإحصائيات والأرقام عما جرى أثناء الاجتياح الأخير للمخيم صادمةً، مع استشهاد 12 شاباً بمن فيهم أطفالٌ، وإصابة 140 آخرين ثلثهم تقريباً بحال الخطر، إضافةً إلى تدمير 80% من عمران المخيم، وفي مساحةٍ صغيرةٍ ومحدودةٍ أصلاً؛ 0.4 كم مربع تقريباً، وتهجير الآلاف من ساكنيه، وجرف البنى التحتية، والطرق المتواضعة أصلاً، لتصل خسائرها إلى حدود 40 مليون دولار على الأقل، خلال 48 ساعةً، وهو رقمٌ كبيرٌ جداً قياساً إلى مساحة المخيم، ومعدل دخل ساكنيه، والوضع الاقتصادي في فلسطين عامةً.
نحن هنا أمام عجزٍ موصوفٍ أيضاً عن مواجهة الحقيقة، وخطاب الفصائل في غزة يمثل كذلك هروباً إلى الأمام
لا شك أن الانتقام الاحتلال الإسرائيلي من المخيم بدا واضحاً مع حلاقة الشوارع، حسب التعبير العنصري والدموي المستخدم من قبل جيش الاحتلال، حيث دُمرت حاراتٌ وشوارع بأكملها في معظم المخيم، واستعيدت مشاهد اجتياح 2002، أثناء عدوان السور الواقي على مدن الضفة الغربية المحتلة، في ذلك العام قاتل شباب المخيم بصمودٍ وعنادٍ، حتى استشهادهم في معارك خاضوها وجهاً لوجهٍ ضد قوات الاحتلال، أدت في حينها إلى مقتل عشراتٍ من الجنود الإسرائيليين المدججين بالسلاح أيضاً.
في السياق الإسرائيلي للاجتياح الأخير، ورغم إطلاق اسم "بيت وحديقة" عليه، إلا أنه بقي متداولاً داخل أروقة الجيش فقط، في حين وصف إعلامياً بـ عمليةٍ محدودةٍ وصغيرةٍ، في سياق الاجتياحات والتوغلات التقليدية للمخيم، لتخفيف الانتقادات الداخلية، وردود الأفعال الإقليمية والدولية.
كما العادة؛ حضر التناقض والانفصام الإسرائيلي، إذ في مقابل التهوين من الاجتياح خارجياً، جرى تضخيمه داخلياً، واتباع سياسة عدّ الجثث، وإبراز مشاهد الدمار، لإرضاء اليمين الإسرائيلي المتطرّف ونزعة الدم في الشارع الإسرائيلي عامةً، ما أدّى إلى ارتفاعٍ مؤقتٍ في شعبية رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، قبل أن تنخفض بعد ذلك، على وقع الاحتجاجات الشعبية الغاضبة والصاخبة ضد خطته/ الانقلاب لإصلاح القضاء.
إسرائيلياً أيضاً؛ بدا لافتاً تأييد المعارضة الإسرائيلية الكامل لاجتياح مخيم جنين، في تعبيرٍ واضحٍ عن التطرّف، أو الانزياح إلى اليمين عامةً، وتأكيداً على حقيقة أن المعارضة هي يمينية أساساً، مع غياب واضمحلال اليسار التقليدي؛ حتى وفق المعيار الإسرائيلي، في مقابل تموضع حزب الليكود وحلفائه المتدينين والعنصريين في خانة اليمين المتطرّف.
في ما يخص سياق الاجتياح العسكري العام لمخيم جنين، كانت محاولةً إسرائيليةً سياسيةً وإعلاميةً واضحةً لتزوير المشهد في فلسطين، وتصويره على غير حقيقته، والقول أن عمليات المقاومة الفردية؛ في معظمها، ضد الجيش والمستوطنين تخرج من جنين، أو يجد منفذوها مأوى لهم في المخيم، وأنها أدت إلى مقتل 50 إسرائيلياً منذ بداية العام الحالي، رغم سقوط 250 شهيداً فلسطينياً في نفس الفترة، في تعبيرٍ واضحٍ عن العنصرية والغطرسة، لأن الدم الفلسطيني رخيصٌ لدى الاحتلال الإسرائيلي، الذي يشيطن أي مقاومةٍ في مواجهته، رغم أنها مشروعةٌ ومحميةٌ حسب المواثيق والشرائع الدولية، إضافةً إلى تجلياته وممارساته التهويدية والاستيطانية وانتهاكه حقوق الإنسان الفلسطيني بأبعادها المختلفة، الحق في التملك والتنقل والعمل والعلاج والتعبّد، بما فيها حق الحياة نفسها، مع هذا العدد الكبير من الشهداء خلال النصف الأول من العام، أثناء ولاية بنيامين نتنياهو؛ ومشاركة بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير في الحكومة الحالية، وكذلك في ظل ولاية الحكومة الإسرائيلية السابقة نفتالي بينت- يئير لبيد- بيني غانتس.
في السياق السياسي أيضاً، تتعمد إسرائيل تهميش وإهانة السلطة الفلسطينية، والحطّ من مكانتها وهيبتها، ورفض أي استئنافٍ للمفاوضات ولعملية التسوية، أو خلق أي أفقٍ سياسيٍ أمامها؛ على علاّت المصطلح، وإبقائها في خانة الحكم الذاتي تحت وصاية الاحتلال الإسرائيلي وهيمنته، وخلق نسخةٍ محدثةٍ من ميليشيات أنطوان لحد وسلطته سيئة الصيت في جنوب لبنان، في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.
حضر التناقض والانفصام الإسرائيلي، إذ في مقابل التهوين من الاجتياح خارجياً، جرى تضخيمه داخلياً
في ما يخص السلطة كذلك؛ فقد بدت أثناء الاجتياح الأخير على حقيقتها، حيث الانفصام والعجز عن تحقيق آمال الناس، وطموحاتهم الوطنية، وبالحد الأدنى عاجزةً عن حمايتهم، أو عن توفير الحياة الكريمة واللائقة لهم، في مقابل عدم امتلاكها شجاعة المراجعة والرحيل، بعد الوصول إلى نهاية الطريق، من أجل إفساح المجال أمام أجيالٍ ودماء جديدةٍ لقيادة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي.
في المقابل، عمدت قيادة السلطة الفلسطينية؛ بدلاً من المراجعة واستخلاص العبر الصحيحة من اجتياح المخيم وتدميره وتشريد أهله وتهجيرهم، إلى التحايل والتلاعب والتذاكي، عبر الدعوة الشكلية للقاء أمناء الفصائل العامين، للمرة الثانية منذ 20 عاماً تقريباً، والهرب من مواجهة الواقع المؤلم، والسعي إلى شرعنة وتعويم نفسها أمنياً، وركوب موجة عملية إعادة الإعمار، واستجداء المساعدات دون شفافيةٍ أو نزاهةٍ في صرفها، أو دون نيل ثقة الناس اللازمة لذلك.
فلسطينياً أيضاً؛ بمعزلٍ عن موقف السلطة لم نجد تعاطياً فلسطينياً واقعياً ودقيقاً مع نتائج الاعتداء الإسرائيلي على المخيم، بل كان هناك مبالغةٌ وهربٌ من رؤية المشهد على حقيقته، عبر الحديث عن الانتصار، وذهب بعضهم إلى الحديث عن قرب انتهاء الاحتلال نفسه، بعد الاجتياح الأخير، الذي دمّر المخيم وقتل وأصاب المئات، إذ لم تسمح المساحة الزمنية للاحتلال بإكمال المهمة، لذا سوف يسعى إلى تحقيقها على مراحل؛ بالمفرّق، في الفترة القادمة، كما يصرح قادته دائماً، بعدما عجز عن تحقيقها كاملةً في الاجتياح الأخير.
بالتأكيد؛ نحن أمام صمودٍ اسطوريٍ، كما عجز الاحتلال عن كسر إرادة الناس، تماماً كصمود بيروت أثناء اجتياح 1982، حينها لم يتحدث أحدٌ عن انتصارٍ رغم الصمود الأسطوري للثورة وقيادتها أيضاً، وحتى يمكن العودة إلى تجربة مخيم جنين نفسه الماضية، إذ لم يتحدث أحدٌ عن انتصارٍ في العام 2002، مع استشهاد عشرات المقاتلين، وإنما تحدث الجميع عن عناد المخيم وصموده، وعن استحالة فرض الاستسلام والهزيمة على المخيم تحديداً، وعلى فلسطين عامةً.
في السياق ذاته، لا بد من استحضار مواقف الفصائل داخل قطاع غزة وخطابها أثناء الاجتياح، وتكرارها مصطلحاتٍ منفصلةً عن الواقع، مثل قواعد الاشتباك، ووحدة الساحات، وربط التدخل بارتكاب إسرائيل حماقاتٍ أخرى، وكأن ما فعلته لا يكفي، أو حتى وضع الحارات الضيّقة كخطٍ أحمر رغم تدمير إسرائيل 80% من المخيم وشوارعه وحاراته الضيّقة.
للأسف، نحن هنا أمام عجزٍ موصوفٍ أيضاً عن مواجهة الحقيقة، وخطاب الفصائل في غزة يمثل كذلك هروباً إلى الأمام من العسكرة وطريقها المسدود، ونتائجها الكارثية في غزة، وهو محاولةٌ لاستنساخ نموذجٍ ثانٍ في مخيم جنين، وهو الأمر الذي يستغله الاحتلال الإسرائيلي عبر مزيدٍ من التدمير والتنكيل، وعبر استخدام الحد الأقصى من القوة ضده.
من كل ذلك؛ كنا ولا شك أمام برهانٍ جديدٍ على عدم واقعية مصطلح وحدة الساحات، وعدم صحته، إذ لم يتحرك أعضاء محور الممانعة المزعوم، مع تبنيهم خطاباً دعائياً عالي النبرة، لتغطية العجز، والادعاء بقدرة شباب جنين ومخيمها على الدفاع عن أنفسهم، وكأنهم ليسوا بحاجةٍ لدعمٍ أو إسنادٍ ومساعدةٍ منهم.
في ما يخص السلطة كذلك؛ فقد بدت أثناء الاجتياح الأخير على حقيقتها، حيث الانفصام والعجز عن تحقيق آمال الناس
وبالعموم؛ إذا كانت غزة نفسها عاجزةً عن تجسيد مصطلح وحدة الساحات، خلال السنوات الثلاث الماضية، أي منذ ابتداعه، فكيف يمكن طلب تجسيده من الخارج؟ حتى مع صراخ وضجيج المحور المزعوم، وتسويغ وتغطية ممارساته، والاستقواء الداخلي لحماية أنظمة الفساد والاستبداد، بذريعة الدفاع عن المقاومة والقضية الفلسطينية.
في الختام؛ بدا لافتاً كذلك عدم الاكتراث الإقليمي والدولي بالاجتياح، وبالتطورات في فلسطين، مقابل الانشغال في ملفاتٍ أخرى، مترافقاً مع الخبث الإسرائيلي، عبر ادعائه أن العملية سوف تستغرق ساعات قليلة فقط. وهنا أيضاً يحاول الاحتلال تحقيق أهدافه بالتدريج، انطلاقاً من عجزه أو عدم قدرته؛ أو نظراً إلى اعتقاده أن الظرف غير مناسبٍ، لتحقيقها مجتمعةً. وعليه ستكون هناك؛ بالتأكيد، اجتياحاتٌ وتوغلاتٌ أخرى في الفترة القادمة، ما يكرس من جهةٍ أخرى ضرورة استخلاص العبر فلسطينياً، وقراءة المشهد والواقع الراهن قراءةً صحيحةً، لجهة انتخاب سلطةٍ جديدةٍ شرعيةٍ وصادقةٍ، واتباع خيار المقاومة الشعبية المنظمة، على اعتباره أكثر جدوى، وأقل تكلفةٍ، في مواجهة الاحتلال وممارساته، ونظراً إلى انشغال؛ بل استنزاف، العالم بملفاتٍ وأزماتٍ إقليميةٍ وأمميةٍ أخرى.