واصلت اللجنة البرلمانية الإيطالية جلسات الاستماع للمسؤولين السياسيين في حكومة ماتيو رينزي، التي وقع في عهدها حادث خطف وقتل الطالب جوليو ريجيني في مصر عام 2016. وتركّز اللجنة على اتصالات هؤلاء مع المسؤولين المصريين في تلك الفترة. وخارج إيطاليا، تستمرّ الاجتماعات البرلمانية الأوروبية وفي المجلس الأوروبي لبحث سبل التعامل مع النظام المصري، على خلفية انتهاكات حقوق الإنسان، وما آلت إليه التحقيقات المصرية والإيطالية في قضية مقتل ريجيني وامتناع النظام عن تسليم الأشخاص المشتبه فيهم وإغلاق القضية محلياً. وتتابع السفارة المصرية في روما عن كثب جلسات الاستماع المتتالية، رغم انعقادها بشكل سري وعن بعد في بعض الأحيان لدواعي تفشي وباء كورونا، وتقدّم عنها تقارير دورية لوزارة الخارجية بالقاهرة.
وحملت الجلسة الأخيرة اتجاهاً سلبياً بالنسبة للمصريين، يتمثل في طرح احتمالية أن تكون "مستويات عليا في النظام الحاكم"، على حد تعبير مصادر دبلوماسية مطلعة، قد عرفت بطبيعة خطف ريجيني وما يواجهه من خطر على حياته، قبل الإعلان عن العثور على جثته صباح 4 فبراير/ شباط 2016. وهو ما يؤكد المسؤولية السياسية للنظام، وتعمّده تضليل روما منذ ذلك الوقت.
غويدي قالت إنها شعرت بحصول أمر جلل في قضية ريجيني
وأجرت اللجنة جلسة الاستماع الأخيرة منذ يومين مع وزيرة التنمية الاقتصادية السابقة فيديريكا غويدي، التي كانت آخر مسؤولة إيطالية تلتقي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قبل العثور على جثة ريجيني. والتزمت غويدي الصمت بصورة ملحوظة خلال السنوات الخمس الماضية، بشأن تفاصيل حديثها مع السيسي عن مصير ريجيني، قبل أن تفجر مفاجأة بقولها إنها "شعرت أن هناك أمراً جللاً سيحدث عندما سألت السيسي عن مصير الطالب (المختفي آنذاك)"، وتأكيد السيسي لها أنه "سيبذل كل ما في وسعه لتوضيح الأمر".
وكانت غويدي قد وصلت إلى القاهرة مطلع فبراير/ شباط 2016، على رأس وفد اقتصادي كبير يضم 46 رجل أعمال، من ممثلي كبرى الشركات الإيطالية العاملة في القطاعات المختلفة، من بينهم مديرون تنفيذيون لشركات كانت مصر تبدأ تعاوناً معها، وأخرى كانت تسعى لإيجاد مكان لها في السوق المصرية. ووقتها كان معروفاً للجميع أن ريجيني غائب، مع ترجيح اختطافه، وكانت السفارة الإيطالية قد أعلنت عن ذلك بالفعل وتواصلت، وكذلك فعل والداه، مع عدد من أصدقائه الذين أبلغ بعضهم بتوتره، لشعوره بأنه تحت المراقبة في الفترة السابقة على ذكرى ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2016، والتي يستنفر فيها الأمن المصري بشكل عام ضد الأجانب وسكان الشقق المستأجرة في وسط القاهرة والجيزة. وكانت التوقعات السائدة في الدوائر الدبلوماسية آنذاك أن ريجيني محتجز لحين انتهاء فترة ذكرى الثورة، كما كان يحدث في تلك الفترة مع العديد من الشبان المصريين والأجانب من أصحاب الاتجاهات اليسارية والإسلامية.
وفي صباح 3 فبراير 2016، استقبل السيسي غويدي في اجتماعين؛ أولهما منفرد بصحبة السفير الإيطالي ماوريزيو ماساري، والثاني جماعي مع ممثلي الشركات. وقالت غويدي في جلسة الاستماع البرلمانية إنها سألت السيسي عن ريجيني وإنه "نظر لعينيها طويلاً وكرر أكثر من مرة حرصه على توضيح كل شيء"، مما ولّد لديها انطباعاً بأن شيئاً ما سيحدث، وأن روما ستعرف "أمراً خطيراً" في القريب العاجل، بحسب قولها.
بالعودة للاتصالات المعلنة بين الجانبين في تلك الأيام؛ اتضح أن حديث غويدي مع السيسي لم يكن الأول من نوعه، إذ طالب رينزي السيسي في 31 يناير، أي قبل لقاء غويدي بثلاثة أيام، بالعمل على إظهار الحقيقة الكاملة لاختفاء ريجيني. ويعني هذا أن الرئاسة المصرية كانت على علم بأهمية الحدث وكان أمامها فترة كافية للاطلاع على حقيقة خضوع ريجيني لمراقبة أمنية، وهو ما لم تعترف به مصر إلا بعد عامين تقريباً من مقتله.
وعقب لقاء السيسي وغويدي أصدرت الرئاسة المصرية بياناً أبرزت فيه "أهمية العلاقات الوثيقة التي تجمع مصر وإيطاليا على جميع الأصعدة، وحرصه على تعزيز التعاون مع روما في جميع المجالات، وحرصه على المتابعة المستمرة للإجراءات التي تتخذها الحكومة لتذليل العقبات التي تواجه الشركات الأجنبية العاملة في مصر. وأكد تقدير مصر لعلاقات الصداقة التي تربطها بالشعب والحكومة الإيطالية، وتطلعها للتعاون مع الشركات الإيطالية في مختلف المجالات". ولم تشر الرئاسة إلى تطرق المباحثات لمسألة اختفاء ريجيني، بل لم تعلن تطرّق السيسي إلى هذا الأمر حتى 6 فبراير 2016 خلال اتصال مع رينزي.
وأعلنت السلطات المصرية عن العثور على جثة ريجيني صباح 4 فبراير وبعدها بدقائق أعلنت السفارة الإيطالية مغادرة غويدي القاهرة، لكن حديث الوزيرة في جلسة الاستماع كشف أمراً آخر، هو أنها "علمت في المساء"، وأنها "تلقت تعليمات من رينزي بقطع زيارتها للقاهرة". ما يدل على أن مصر أبلغت إيطاليا في وقت سابق على الإعلان الرسمي، وأن إيطاليا أيضاً تمهلت في الإعلان لليوم التالي.
تجدر الإشارة في سياق مراجعة السياق الزمني للأحداث أن أول تصريح رسمي من مسؤول أمني مصري عقب إعلان العثور على الجثة، كان من مدير الإدارة العامة لمباحث الجيزة (مساعد وزير الداخلية لأمن المنافذ حالياً) اللواء خالد شلبي، الذي أفاد بأن ريجيني لقي مصرعه في حادث سير وأن الجثة خالية من آثار طلقات نارية أو طعنات.
وقالت مصادر دبلوماسية مطلعة لـ"العربي الجديد" إن السفارة المصرية في روما رصدت توجّه عدد من النواب المترصدين للحكومة والناشطين في حملة "الحقيقة من أجل ريجيني"، لاستغلال الشهادة التي أدلت بها غويدي، للدفع في اتجاه توسيع تحميل النظام المصري المسؤولية. وعلّل هؤلاء ذلك باعتبارها "دليلاً محتملاً على المعرفة المسبقة بما حدث لريجيني، أو على الأقل المعرفة باختطافه بواسطة جهة أمنية".
الاستغلال القضائي أو القانوني لما ورد في شهادة غويدي مستبعد
وأضافت المصادر أن الاستغلال القضائي أو القانوني لما ورد في شهادة غويدي "مستبعد"، لكن بالطبع يمكن استخدامه سياسياً في تكوين رأي جماعي لدى نواب البرلمان الأوروبي وأعضاء المجلس الأوروبي ضد النظام المصري. وشدّدت المصادر على توالي جلسات الاستماع التي يعقدها أعضاء بالمجلس والبرلمان منذ نهاية العام الماضي، للوقوف على مستجدات القضية، ضمن تحركات يسارية لانتزاع قرار من المجلس الأوروبي، أعلى سلطة في الاتحاد، بتطبيق عقوبات عسكرية عامة على مصر بحظر التوريد والتعاون. وتطرقت إلى الحراك الإيطالي في الشأن ذاته سعياً لإلحاق مصر بكل من السعودية والإمارات، في تطبيق القانون المحلي رقم 185 لسنة 1990، الذي يمنع توريد الأسلحة إيطالية الصنع إلى الدول التي تنتهك حقوق الإنسان.
وكانت النيابة العامة المصرية قد تحدثت رسمياً للمرة الأولى عن سيناريو المؤامرة في مقتل ريجيني، في ختام تحقيقاتها في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، مدّعية أنه "من المحتمل استغلال مجهولين للتحركات المريبة المنسوبة لريجيني لخطفه وإيذائه وتعذيبه وقتله لإلصاق التهمة بالأمن المصري، والإساءة للعلاقات بين القاهرة وروما، بالتزامن مع ذكرى ثورة 25 يناير وزيارة وفد اقتصادي كبير لمصر"، أي الوفد الذي كانت ترأسه غويدي.
قرّر الادعاء الإيطالي الشهر الماضي تحريك دعوى جنائية غيابية ضد أربعة ضباط مصريين، مشتبه بضلوعهم في خطف وتعذيب ريجيني، بعد انقضاء المهلة التي حددها ليردوا بأنفسهم على الاتهامات الموجهة لهم. وأعلنت نيابة الجمهورية في روما أن محاكمتهم ستبدأ في الربيع المقبل. ونظراً لعدم امتلاك روما أي معلومات شخصية عن الضباط المشتبه فيهم، عدا أسماء غير كاملة ووظائف بعضها قديمة، سيتم توجيه طلبات المثول ومذكرة الادعاء إلى النيابة العامة المصرية وكذلك السفارة المصرية في روما، باعتبارها القائمة على المصالح المصرية في إيطاليا وفقاً للاتفاقات الدبلوماسية بين البلدين والقانون الدولي الجنائي، في ظل عدم وجود اتفاقية تعاون قضائي تنظم مثل هذه الحالة بين البلدين. والضباط الأربعة هم اللواء طارق صابر (الذي أصبح مساعداً لوزير الداخلية لقطاع الأحوال المدنية)، والعقيد آسر كمال، والعقيد هشام حلمي، والمقدم مجدي عبد العال شريف.