بحسرة، ينظر محمد مصطفى خبيصة (70 سنة) من بعيد إلى أرضه الواقعة على قمة جبل صبيح، التابع إلى بلدة بيتا جنوب مدينة نابلس شمال الضفة الغربية المحتلة، بعد أن سيطر المستوطنون عليه منذ نحو شهر، وأقاموا نحو 30 بيتاً فوقه، ليتحول المكان إلى أحدث ميدان للمواجهة التي يخوضها الفلسطينيون مع الاستيطان في الضفة الغربية.
ويقف خبيصة على الطرف الآخر من الجبل، مستذكراً كيف كان قبل سنوات قليلة مضت يصعد إلى قمته، ويحرث الأرض، ويزرع فيها التين والعنب والزيتون، ليعود مع عائلته، وعوائل كثيرة أخرى من بلدته والبلدات المجاورة، في مواسم القطاف والحصاد ليجنوا ما كسبته أيديهم. لكن الحال تغير، وتحديداً في العقد الأخير، خصوصاً في السنوات الخمس الأخيرة، بعدما بات الجبل برمته في عين الاستهداف الاستيطاني.
محمد خبيصة: سيستمر أصحاب الأراضي بمواجهة الاحتلال وإن كان الثمن أرواحهم
"بيتا من البلدات القلائل التي لفظت الاستيطان. قصتنا معهم قديمة تعود إلى العام 1984، عندما خضنا مواجهة عنيفة جداً أفضت إلى استشهاد عدد من أبناء البلدة، لكننا طردناهم"، يقول خبيصة لـ"العربي الجديد". ولمحمد خبيصة وعائلته سبعة دونمات، ورثها عن أجداده ثم والده. ويقول: "لن أستسلم للمستوطنين، سيعود أولادي إليها قريباً، لم نهملها يوماً. أذكر أنني كنت أذهب في طفولتي إليها مع جدي ووالدي نزرع ونحصد ونهتم بالأرض، وكذلك فعلت مع أولادي الذين ربيتهم على حب الأرض".
مواجهة المستوطنين
يتعرض خبيصة وأبناؤه إلى التهديد بالقتل كلما حاولوا الاقتراب من أراضيهم. ويقول: "هؤلاء أوباش، مجرمون قتلة، لن يتوانوا عن إطلاق الرصاص علينا. هم مسلحون وجيش الاحتلال يحميهم، ونحن عُزل، لكننا مسلحون بالإرادة". المسؤول الأول عما يجري، كما يقول خبيصة، هو حكومة الاحتلال وجيشها، الذي كان أول من وضع يده على الجبل، وحاول السيطرة عليه من خلال إقامة معسكر لجنوده في الانتفاضة الأولى (1987-1993)، لكننا تصدينا له، فتمت إزالته. لكنه حاول طيلة العقود الماضية العودة إليه، وهو الذي سهل، بأوامر من حكومته، للمستوطنين السيطرة عليه ووفر لهم الحماية، وقتل شبابنا الذين تصدوا لهم". ويفند خبيصة ادعاء جيش الاحتلال بأن هذه الأراضي "مشاع"، قائلاً: "هذا كذب. هذه الأراضي لها أصحاب ويملكون ما يثبت ذلك وليست أراضي دولة. وخطة جيش الاحتلال مكشوفة للجميع، فهو يريد من المستوطنة التي أقامها على الجبل أن تكون فاصلاً وقاطعاً بين شمال الضفة الغربية ووسطها. وفي حال بقيت ستسيطر تدريجياً على آلاف الدونمات من قرى وبلدات جنوب وشرق نابلس، مثل بيتا وقبلان ويتما، وعقربا وأوصرين". ويوضح أنّ "شباب بيتا دفعوا دماءهم فداءً للجبل، وسيستمر أصحاب الأراضي بمواجهة الاحتلال، وإن كان الثمن أرواحهم وأبناءهم. كما أنه تم رفع دعوى لدى محاكم الاحتلال، وقُدمت لها أوراق تثبت ملكية أصحاب الأرض، لكنها تماطل في البتّ بالدعوى، فهي جزء من المنظومة الاحتلالية".
"صبيح" بمواجهة "أفيتار"
ويطلق المستوطنون على البؤرة الاستيطانية التي أقاموها على جبل صبيح اسم "أفيتار"، وهو مستوطن قتل بعملية طعن في العام 2013 عند حاجز زعترة. وحينها شرع المستوطنون بإقامة البؤرة في موقع يستخدمه الاحتلال كنقطة عسكرية، لكن أهالي بيتا تصدوا لهم، ما أجبر الاحتلال على تفكيكها. وفي 2018، عاود المستوطنون محاولاتهم، عقب مقتل حاخام قرب مستوطنة "أرئيل" المقامة على أراضي الفلسطينيين شمال سلفيت شمال الضفة، ووضعوا بيوتاً متنقلة وأوصلوا لها الكهرباء والماء، وتصدى لهم الأهالي بقوة، ليلجأ الاحتلال إلى تفكيكها مجدداً.
وفي يونيو/حزيران 2018، سلمت سلطات الاحتلال قراراً يقضي بوضع اليد على 25 دونماً بملكية خاصة في جبل صبيح، بحجة استخدامها لأغراض عسكرية. لكن، وفي أعقاب عملية إطلاق النار التي نفذها فلسطيني عند حاجز زعترة، الشهر الماضي، وما تلاها من حملة عسكرية بحثاً عنه في قرى جنوب شرق نابلس، سارع المستوطنون لاقتناص الفرصة، واستأنفوا مساعيهم لإعادة إقامة البؤرة الاستيطانية. وفي وقت قياسي، وبدعم من جيش الاحتلال، نصب المستوطنون خياماً، ثم وضعوا بيوتاً متنقلة على قمة جبل صبيح، وباشروا ببناء بيوت خرسانية ثابتة، ازداد عددها تدريجياً ليصل إلى أكثر من ثلاثين. وإمعاناً في تثبيت البؤرة، عمل المستوطنون، في الأيام الأخيرة، على تعبيد الطرق الداخلية وبناء المزيد من المباني على جبل صبيح.
يشكل جبل صبيح موقعاً استراتيجياً مطلاً على معظم قرى وبلدات جنوب وشرق نابلس
خطة استيطانية مدروسة
بالنسبة لأهالي بيتا، فإن تلك الخطوات ليست عفوية، بل تندرج في إطار مخطط استيطاني مدروس، يتم تنفيذه بدقة بالغة. ويؤكد نائب رئيس بلدية بيتا موسى حمايل، لـ"العربي الجديد"، أن السيطرة على الجبل جزء من خطة واضحة المعالم، تتمثل في فصل نهائي لشمال الضفة الغربية عن جنوبها، من خلال ما يعرف بـ"الحزام الاستعماري"، أي استكمال ربط المستوطنات من منطقة رأس العين الواقعة على حدود العام 1967، إلى مستوطنة "بركان" في محافظة سلفيت، ومنها إلى إحدى أكبر مستوطنات شمال الضفة الغربية، وهي "أرئيل"، ومنها إلى مستوطنة "تفوح" المقامة بالقرب من حاجز زعترة، ومنها إلى جبل صبيح، الذي يشكل موقعاً استراتيجياً مطلاً على معظم قرى وبلدات جنوب وشرق نابلس، وصولاً في المحصلة إلى مستوطنات أريحا والأغوار. ويقول حمايل: "هذه ليست مبالغة، بل خطة استيطانية خبيثة، ستقضي كلياً على أي فرصة لتواصل جغرافي فلسطيني. هذه البؤرة الاستيطانية على قمة الجبل ستحول قرى بيتا ويتما وعقربا وقبلان وأوصرين إلى سجن كبير، وستقضم عشرات آلاف الدونمات الزراعية".
مواجهة قانونية وميدانية
وبموازاة كل ما يجري، هناك جهد قانوني من المجالس المحلية وأصحاب الأراضي، بالتعاون مع هيئة مقاومة الاستيطان الفلسطينية ومركز القدس للمساعدة القانونية، في محاكم الاحتلال للحفاظ على ملكياتهم وتثبيتها. يأتي هذا في وقت تعيش بلدة بيتا ومحيطها حالة ثورية غير مسبوقة، فالمواجهات دفاعاً عن الجبل لم تتوقف، وقد دفع الأهالي ثمناً باهظاً بعد أن ارتقى عدد من الشبان شهداء وأصيب ما لا يقل عن 500، منذ بدء الفعاليات المناهضة للبؤرة، وسط إصرار كبير على إجبار الاحتلال على تفكيكها ورحيل المستوطنين، كما نجحوا في ذلك في المرات السابقة.
وسجّل العقد الماضي، تسارعاً غير مسبوق في عمليات الاستيطان والتهام أراضي المواطنين الفلسطينيين في الضفة الغربية، بما فيها القدس المحتلة، وفق إستراتيجية إسرائيلية ممنهجة تهدف لترحيل الفلسطينيين وسرقة ما تبقى من أراضيهم. ووفق إحصائيات لمركز "بتسيلم" الإسرائيلي لحقوق الإنسان، فإنّ الزيادة السكانية في مستوطنات الضفة الغربية كانت أعلى خلال العام 2020 بنسبة 68 في المائة منها في الأراضي المحتلة، في ظل زيادة إقامة بؤر استيطانية جديدة، وتوسعة رقعتها، على حساب أراضي المواطنين في الضفة الغربية.