لم يترك الرئيس البرازيلي اليميني المتطرف جايير بولسونارو "صديقاً له" ذا وزن، بعد أربع سنوات قضاها في الحكم. حتى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لم يكن مكروهاً إلى المستوى الذي بلغه السياسي البرازيلي الشعبوي.
وفيما تتجه البرازيل إلى انتخابات رئاسية استثنائية غداً الأحد، ترجّح استطلاعات الرأي أن يفوز بها الرئيس الأسبق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، على بولسونارو، من الدورة الأولى. يصعب الحديث عن الأخير من دون التفكير في حجم "الخدمات" التي قدّمها للوبيات واسعة في البرازيل طوال 4 سنوات، التي لا تبدو أنها تسعفه لرفع شعبيته، في مقابل كمّ العداوات والإخفاقات والفوضى التي خلّفتها ولايته، والتي تجعل حتى ألدّ أعداء لولا، لا يمانعون في عودته.
ومن بين هؤلاء، يبدو الرئيس الأميركي الديمقراطي جو بايدن من أشدّ المتحمسين لرؤية الرئيس البرازيلي الحالي يغادر منصبه. فواشنطن باتت مقتنعة بضرورة التعامل مع لولا، الذي يبدو أنه سيكون بنسخة أقل يسارية من حقبة رئاسته (2003-2010)، حتى إنه يتجه نحو الوسط بعد تحالفه مع اليميني جيرالدو ألكمين، ليكون نائباً للرئيس في حال فوزه مع لولا دا سيلفا.
ويخلّف بولسونارو، بشكل عام، نفوراً لدى متابعي خطاباته وسياساته وأساليبه الدعائية، والعبارات التي ينطق بها على وسائل التواصل الاجتماعي هي سلاحه وسلاح أولاده وعائلته ومؤيديه الأكثر فاعلية في التحشيد.
يشكل المؤيدون لبولسونارو خليطاً من المؤسسة العسكرية واللوبيات النافذة والإنجيليين
"جيش" جايير بولسونارو
ويحشد هذا السياسي، الذي انتخب في أكتوبر/تشرين الأول 2018 رئيساً للبرازيل بعد فوزه على مرشح "العمّال" فرناندو حدّاد في الدورة الثانية، "جيشاً" من المؤيدين، لا يتوانى في تسميته "جيشه الخاص"، ويمثلون خليطاً من أفراد المؤسستين الأمنية والعسكرية التي ينتمي إليها في الأصل، ولوبيات السلاح والمعادن وكل المنتفعين من كمّ التغييرات التي أحدثها في الدولة منذ وصوله إلى الحكم.
وتضاف إلى هؤلاء طائفة الإنجيليين، التي لا تزال بنسبة كبيرة مؤيدة له، هو الذي ينطق "باسم الله"، ولا سيما مع الخشية من عودة "العمّال" إلى الحكم. لكن كلّ ذلك لا يسعف الرئيس كاره النساء الذي يتمنى لو بقيت البلاد تحت حكم الديكتاتورية، ولا يخفي إعجابه بالانقلاب العسكري في البرازيل عام 1964، في أن يرفع شعبيته، ما يجعله يهدّد بـ"انقلاب" جديد، إذا ما خسر الانتخابات.
وبعدما وصل إلى الحكم في 2018 على ظهر تحالف اليمين البرازيلي والجيش ودعم الإنجيليين، مصوّباً على اليسار ومتعهداً بأن يكون رئيساً لمحاربة المنظومة، لم يلب بولسونارو تطلعات البرازيليين، الذين واصلوا مع عهده الانحدار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فيما كان ناخبوه يطمحون إلى إغلاق فصل سياسي في بلادهم، ظلّ يدور في دوامة الأزمات المتلاحقة منذ 2013.
ولم يكن بولسونارو على قدر التوقعات الشعبية، بعدما احتفل البرازيليون المعارضون لليسار، في أكتوبر 2018، بخسارة مرشح "العمّال" في شوارع البرازيل، فيما كان الرئيس المنتخب يعيد التذكير عبر "فيسبوك"، الذي اختار أن يلقي من خلاله خطاب النصر، شعار حملته "البرازيل فوق كل شيء، الله فوق كل الناس".
انقلابات بولسونارو
لم يمضِ وقت طويل حتى استبدل الرئيس الجديد آنذاك الموظفين العامين المدنيين، في معظم الإدارات، بعناصر من الجيش، مع حملة خصخصة غير مسبوقة في مؤسسات الدولة، بالتوازي مع تمكين أولاده وعائلته من التغلغل في مفاصلها، ومراكمة الثروات.
هذا الأمر، لم يقم به بولسونارو بـ"حياء"، بل بأسلوب إقصائي وعلني، جعله دائماً على خلاف مع أطراف سياسية نافذة، كاليمين البرازيلي الكلاسيكي، الذي زرع الرئيس الحالي شرخاً بينه وبين الجيش. وانقلب بولسونارو كذلك على المحكمة العليا، التي كانت قد سهّلت في السابق إقصاء اليسار، فيما عزّز سطوة لوبيات السلاح، وكل الجماعات الطامعة بثروات غابات الأمازون.
وشكّل أمران علامتين فارقتين في سياسة الانحدار البرازيلي في عهد بولسونارو: أزمة كورونا وأزمة الأمازون. أما العلاقة مع الولايات المتحدة ما بعد ترامب، فكان لها الدور في أن تشبه نزع آخر ورقة توت عن عهده الكارثي، بعدما لم يخف تحالفه مع نظام فلاديمير بوتين في روسيا، وواصل سياسة تقويض الديمقراطية في الداخل.
شكّلت أزمة كورونا مفترقاً حاسماً بين الرئيس اليميني المتطرف وغالبية البرازيليين
بولسونارو وتفكيك الدولة البرازيلية
وبشكل عام، واصل بولسونارو، طوال 4 سنوات في الحكم، سياسة "تفكيك" الدولة، وشعبياً تحديد "الأعداء" وشيطنتهم، من اليسار إلى المؤيدين للإجهاض، إلى العلمانيين، إلى النساء (يعرف بتصريحاته المتحيّزة جنسياً)، إلى المثليين، وصولاً إلى السكّان الأصليين، الذين شهدوا خلال ولايته الأولى تراجعاً غير مسبوق في حقوقهم أو في حماية أراضيهم وممتلكاتهم، كذلك أصبحت حياتهم أكثر عرضة للخطر.
وغذّى بولسونارو خطاب الكراهية والعنف في البرازيل، الذي تحوّل إلى واقع ملموس، إذ إنه بعدما بدأ عهده "افتراضياً" عبر خطاب على "فيسبوك"، نزل إلى الشارع، حيث يحتشد مناصروه مرّتين بالشهر في مدن عدة، ويقومون باستعراضات استفزازية بدراجاتهم النارية وأسلحتهم. واستغل بولسونارو هؤلاء، في كل مرّة اندلع فيها الصراع بينه وبين أي مؤسسة في الدولة، سواء البرلمان أو المحكمة العليا.
وشارك العسكريون في تجمعاته والتظاهرات المؤيدة له، فيما دقّ مقتل مؤيد للولا، في شهر يونيو/حزيران الماضي والعثور على جثته مرمية في الأمازون واعتراف قاتله بتأييده بولسونارو، أو تصفية ناشطين بيئيين، ناقوس الخطر من الانحدار العنفي الذي وصلت إليه البلاد.
ومن أبرز "إنجازات" بولسونارو، بخلاف شعبيته العارمة بين صفوف الجيش، إغراقه البلاد بالسلاح، وفتح الأمازون لكل المتربصين بثرواته الطبيعية، من دون أن يخفي الرئيس البرازيلي عداءه منقطع النظير للجماعات البيئية والبيئيين.
على جبهة أخرى، شكّلت أزمة كورونا مفترقاً حاسماً بين الرئيس اليميني المتطرف وغالبية البرازيليين، الذين عاشوا كارثة الأزمة الصحية بكل تفاصيلها، ما وصل إلى حدّ المطالبة بالتحقيق في أدائه خلال الأزمة، الذي قد يصل إلى حدّ ارتكاب جريمة إنسانية.
وفقدت البرازيل أكثر من 600 ألف مواطن جرّاء إصابتهم بكورونا، فيما لم يسهّل بولسونارو وصول اللقاحات، ورفض الاعتراف بجدواه، محذّراً البرازيليين من أنهم قد يتحولون إلى "قرود"، إذا ما أخذوا اللقاح.
يروي مقدمو برامج سياسية في البرازيل كيف أنهم كانوا يستقدمون بولسونارو، وهو جنرال سابق في الجيش، ومشرّع في الكونغرس البرازيلي عن ريو دي جانيرو، لثماني سنوات قبل وصوله إلى الرئاسة، كيف كانوا يأتون به للمقابلات التلفزيونية، قبل أن يصل إلى الحكم، فقط ليؤكدوا للمواطنين مدى انحدار السياسة البرازيلية خلال العقد السابق.
اليوم، بات خطاب بولسونارو مصدر خطر للبلاد، بحسب متابعين كثر. فبعدما بنى حملته في 2018 على شيطنة "الماركسية الثقافية"، يقود اليوم حملة الرئاسة مجدداً بشعار التشكيك بكل أسس الدولة البرازيلية، من النظام الانتخابي إلى صدقية الانتخابات، إلى الديمقراطية البرازيلية، مهدداً بالانقلاب على النتائج إذا ما خسر السباق، فيما يحذّر متابعون من انخراط للجيش في خططه، وإسالة دماء.
(العربي الجديد)