ربما يدرك ضابط الشرطة الذي يدير كميناً متحركاً لاستيقاف المارة من الشبان والمراهقين بشارع محمد محمود المؤدي إلى ميدان التحرير بوسط القاهرة، أنّ عدداً كبيراً ممن استوقفهم للتفتيش في هواتفهم المحمولة وأجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم، بحثاً عن أي تدوينة أو فيديو أو رسالة تُذكر فيها ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، هم بمعظمهم لم يشاركوا في تلك الثورة، وربما ثمة لا صلة بينهم وبين الملايين الذين احتشدوا في ذلك المكان نفسه لإسقاط نظام حسني مبارك قبل عقد من الزمن.
لكن الضابط المستنفر وأمناء الشرطة الذين يفتشون محتويات الحقائب بدقة، ويحاولون تفحّص وجوه المارة بعناية، هم جزء من آلة أمنية باتت تعمل بكامل طاقتها في مثل هذه الذكرى من كل عام، وتحركها أهداف تقترب من كونها دفاعاً تلقائياً واستباقياً عن النفس والسلطة والقواعد التي يشاركون هم في وضعها وتطبيقها. ولم لا؟ وقد تعرضوا في مثل هذه الأيام، قبل عشرة أعوام، لضربة مفاجئة أفقدتهم توازنهم ودفعتهم إلى الهاوية في ساعات معدودة.
الثورة كانت عابرة للأيديولوجيات والأفكار والمعتقدات والخلافات
انقطعت علاقة قسم كبير من المؤمنين بثورة يناير، بالأخيرة؛ فكرياً أو عضوياً، وبات من شبه المستحيل أن تندلع ثورة أخرى أو حتى انتفاضة في مثل هذا اليوم تحديداً. لكن الفكرة التي بات هذا التاريخ يحملها، تبقى أخطر على السلطة الحاكمة في مصر -أياً كانت- من أي تهديدات وجودية أو تنظيمية أخرى، لسبب بسيط يدركه كل نظام حكم مصر خلال السنوات العشر، وهو أنّ هذه الثورة كانت عابرة للأيديولوجيات والأفكار والمعتقدات والخلافات، وأنّ السلطة لم تتمكن من هزيمتها إلا بعدما انشغل أبناء الثورة بالخاص على حساب العام، وقدموا الطموح الذاتي على المصلحة الوطنية، والتحالف مع أركان الدولة على التفاهم مع شركاء الميدان. ولأنّ هذا إيمان السلطة؛ حكّاماً ونظاماً وأجهزة وجهات سيادية وتشريعاً وقضاءً وإعلاماً، فلا تنال الأكاذيب التي رددتها تلك الأجنحة جميعاً عن الثورة وأحداثها وأجندتها، من طقوس القلق السنوية التي تمارسها هذه الأجنحة خوفاً من "بشاير يناير"... فلو أنّ تلك الثورة كانت صنيعة غربية/شرقية، إخوانية/أناركية، قطرية/تركية، إيرانية/أميركية، لما استُقبلت الذكرى مع تغيّر الأجيال والسمات والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية وتراجع السياسة وانحسار المجال العام، بالأدوات نفسها التي تعكس الخشية من تكرار ما حدث.
وحتى في العام الحالي، مع تصاعد الحديث في أروقة السياسة والإعلام في مصر خلال الأيام الماضية، عن قرب الإفراج عن عدد من المعتقلين السياسيين من النشطاء والصحافيين المحبوسين على ذمة قضايا مختلفة، بعضها يعود إلى العام 2018، فضلاً عن بعض المحكوم عليهم المدانين في قضايا ذات طابع سياسي وتظاهر، في إطار رغبة النظام المصري في تحسين صورته أمام العواصم الغربية والإدارة الأميركية الجديدة، حافظ النظام على عاداته غير منقوصة، وإن بدت أقل حدة. فقد شنّ حملات أمنية في وسط العاصمة على العقارات التي تحوي شققاً لإيجار الطلاب والشبان المصريين والأجانب، وقد تمت مطالبة المواطنين بإبراز بطاقات هويتهم وعقود الإيجار، فيما طُلب من الأجانب وثائق السفر والإقامة، هذا فضلاً عن إقامة الكمائن المتحركة لاستيقاف المارة والدراجات البخارية وسيارات الأجرة، وفحص الهواتف المحمولة للمواطنين والكشف السريع عن سجلهم الجنائي والسياسي.
كما تظلّ ذكرى ثورة يناير عاملاً أساسياً في تحديد مواعيد إخلاء سبيل المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي، فعلى الرغم من تلقي الوسطاء السياسيين والنقابيين تأكيدات منذ أسبوعين تقريباً بخروج العشرات من المتهمين في قضايا سياسية، إلا أنّ النظام ولأسباب أمنية فضل الانتظار.
التشديد الأمني يرتبط بتخويف المواطنين من مجرد التفكير في ما حدث قبل عشر سنوات
وفسّر مصدر أمني مطلع، لـ"العربي الجديد"، إصرار النظام، عبر الشرطة، على التشديد الأمني قبل الذكرى العاشرة لثورة يناير، بالقول إنه "أمر يتعلق بالعقيدة الأمنية للنظام، ويرتبط بتخويف المواطنين من مجرد التفكير في ما حدث قبل عشر سنوات، ولا يتوقف على وجود تهديدات أمنية جادة من عدمه". وأضاف أنّ "ما استجد هذا العام، هو التأكيد على وسائل الإعلام، بعدم تناول الثورة بأي شكل، والتركيز فقط على عيد الشرطة التاسع والستين (يصادف يوم 25 يناير كذلك)، إلى حدّ إصدار عملة جديدة من فئة الجنيه احتفاءً بتلك المناسبة، إلى جانب اللقاءات التي عقدها الرئيس عبد الفتاح السيسي مع المجلس الأعلى للشرطة وزيارته لكلية الشرطة خلال الأيام الثلاثة الماضية، احتفاء بوزارة الداخلية".
ولا يكتفي السيسي بالتعبيرات الضمنية للإشارة إلى عدائه للثورة، كاستمرار حبس رموزها الشبابية والتنكيل بتيارات الميدان، بل امتد الأمر لتعبيرات صريحة ومتكررة كالتي حمّل من خلالها الثورة مسؤولية وضع البلد على حافة الانهيار، وإتاحة الفرصة أمام إثيوبيا لإنشاء سدّ النهضة، ووضع دستور غير قابل للتطبيق (2012)، وغيرها من الاتهامات.
وعلى الرغم من أنّ السيسي لم يكن ليصل لرئاسة الجمهورية لولا ثورة يناير، فإنّ كراهيته لها لا تنفصل عن السياسات التي شارك في صنعها في أعقابها كعضو في المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والتي ارتكزت على التفرقة وإشعال الخلافات بين رفقاء الميدان، بداية من الزج بهم في أتون خلاف سياسي عاجل حول التعديلات الدستورية، وعدم تطبيق روح تلك التعديلات بأمانة، ثمّ عقد اجتماعات متفرقة مع كل منهم، واتباع أساليب الترغيب والترهيب والتقريب والإبعاد.
وبعد التهديد باستمرار الاعتصام في الميدان، في صيف 2011، رضخ المجلس العسكري لمطالب مثول مبارك ونجليه علاء وجمال أمام القضاء، على خلفية قضية أُعدّت على عجالة وبصورة مليئة بالثغرات والعيوب التي استُغلت لاحقاً لتبرئتهم، فضلاً عن تغييب المجلس عمداً للإرادة السياسية لمحاكمة أركان النظام على جرائمهم السياسية والاقتصادية، واستعادة أموالهم المهربة للخارج.
تأكيد على وسائل الإعلام، بعدم تناول الثورة بأي شكل
وعند تصاعد الحديث عن ضرورة إجراء انتخابات رئاسية، حاول المجلس العسكري جسّ نبض الشعب تجاه استمرار قيادته في الحكم، حين ظهر رئيسه المشير حسين طنطاوي للمرة الأولى مرتديا زياً مدنياً، ومتجولاً في شوارع منطقة وسط البلد في 26 سبتمبر/أيلول 2011، وهي الخطة التي قابلها شباب الثورة والسياسيون بهجوم حاد وعنيف على المجلس وتصعيد المطالبة بتشكيل برلمان حر.
وخلال الأشهر اللاحقة، تورّط المجلس العسكري في قتل وإصابة المئات من شباب الثورة في عدد من الأحداث، بدءاً من موقعة ماسبيرو التي قتلت فيها قوات الجيش 27 من الأقباط المتظاهرين أمام مبنى التلفزيون في أكتوبر/تشرين الأول 2011. ثم جاءت بعد ذلك مذبحة أحداث مجلس الوزراء، ومحمد محمود الأولى، واللتان راح ضحيتهما العشرات من شباب الثورة على يد العسكر. ثمّ شهدت مدينة بورسعيد مذبحة كبيرة راح ضحيتها 72 من مشجعي النادي الأهلي "أولتراس أهلاوي". ووقتها أدلى طنطاوي بتصريحه الشهير في محطة السكة الحديد "الشعب سايب دول ليه مش يتحرك"، والذي اعتُبر تحريضاً على العنف الأهلي. وفي مايو/أيار 2012، رفع المجلس العسكري عصا الجيش الغليظة ضدّ الشباب الإسلاميين، والذين كانت قياداتهم قد وضعت أيديها في أيدي طنطاوي بعد الثورة قبل أن تكتشف حقيقته، إذ قتلت قوات الجيش عدداً من شباب حركة "حازمون" الذين كانوا قد نظموا اعتصاماً في محيط وزارة الدفاع للضغط على المجلس العسكري لتسليم السلطة.
هذه الأحداث كانت جزءاً من سلسلة طويلة أشعرت القيادة العسكرية أنّ مصالحها في خطر، طالما ظلّت الثورة مستمرة، فبدأت مساعيها لإعادة الاصطفاف السلطوي ضدها، تمهيداً للانقلاب عليها وعلى مكتسباتها، وهو ما حدث في الثالث من يوليو/تموز 2013، عندما تمت الإطاحة بالرئيس الراحل محمد مرسي.