مرت تونس خلال الأيام الماضية بلحظات صعبة للغاية، بدأت يوم الإثنين الماضي، بثلاث عمليات إرهابية في مدينتين من محافظة سيدي بوزيد وسط تونس، أُردفت بثالثة على الحدود التونسية الجزائرية، وراح ضحيتها أربعة أمنيين، وجُرح عدد آخر منهم ومن المدنيين.
وبعد يوم واحد، وقع حادث أليم تمثل في اصطدام قطار بشاحنة وأودى بحياة 18 راكباً، وجرح العشرات، وسط ترجيحات بأن يكون عدد القتلى أكبر من ذلك.
وأعادت هذه العمليات إلى الأذهان أحداث شهر رمضان الماضي، التي خلقت معها هاجساً، نفسياً وسياسياً، لدى التونسيين، جعل رمضان الحالي مقترناً بمخاوف من تكرار هذه العمليات، ودفع رئيس الحكومة التونسية، الحبيب الصيد، إلى الدعوة لاتخاذ "المزيد من الاحتياطات الأمنية بالنسبة لشهر رمضان تحسباً لأية عمليات إرهابية".
وأكّدت بعض الشخصيات الحزبية، التي حضرت اجتماعاً عقده الصيد مع الأحزاب السياسية منذ أيام، أن الأخير أبدى مخاوف حقيقية من احتمال حدوث عمليات إرهابية خلال رمضان، وحاول إقناع زعماء الأحزاب بصعوبة الظرف الوطني.
وهو ما أكده الصيد مرة أخرى حين تحدث ليلة حادثة القطار عن الفترة، التي وصفها بـ"الصعبة"، داعياً المواطنين إلى الالتفاف حول القوات الأمنية والعسكرية.
ووجّه رسالة إلى المنظمات الوطنية، ومن ضمنها "الاتحاد العام التونسي للشغل" تقول: "إذا لم نتحمل مسؤولياتنا التاريخية، فالكارثة ستحل بالوطن دون استثناء سياسيين وعمال وموظفين ورجال أعمال"، داعياً إلى ضرورة التهدئة الاجتماعية في هذه الفترة، لافتاً إلى أن الاحتجاجات الموزعة في كامل الجهات "تهدر قوى الوحدات الأمنية وتشتت قواها مما يشجع المجموعات الإرهابية على الخروج من أوكارها وتنفيذ عملياتها الإرهابية".
وشحنت أحداث هذين اليوميْن الساحة السياسية بمزيد من التوتر، لكنها كشفت عن أزمة سياسية حقيقية، وليس مجرد سجال وتسجيل نقاط بين الحكومة ومعارضيها. ويقول عميد المحامين، فاضل محفوظ، (أحد أطراف الرباعي الراعي للحوار الماضي)، لـ"العربي الجديد"، إن "هناك حاجة حقيقية لحوار وطني جديد وتجديد مناخ الثقة المتآكل، ليس بالضرورة أن ينعقد تحت نفس العنوان والرعاية المتمثلة في اتحاد الشغل ومنظمة أرباب العمل والمحامين وهيئة حقوق الإنسان، كما حدث إبان الأزمة التي انتهت بخروج الترويكا، وتولي مهدي جمعة رئاسة الحكومة المحايدة. يمكنها أن تنعقد بدعوة من رئيس مجلس نواب الشعب أو رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة".
وأكد محفوظ أن هناك مساعيَ تتم مع عدّة أطراف من أجل تهيئة مناخ للحوار، تتجدد على أساسه الثقة بين مختلف الأطراف المتنازعة، مشيراً الى أن هناك أزمة بين راعييْ الحوار السابقين؛ اتحاد الشغل ومنظمة رجال الأعمال، وبين الحكومة واتحاد الشغل من جهة ثانية، مشدداً على أن المناخ الاجتماعي متوتر للغاية والظرف الاقتصادي صعب، ولا يمكنها تلبية كل الطلبات، وهو ما يستوجب كشف كل الأوراق على طاولة صريحة تجمع كل الجهات، على حدّ تعبيره.
وبدأت تعلو الأصوات التي تدعو للحوار أكثر من قِبل جهات سياسية وحكومية مختلفة، مما يعكس إحساساً بالأزمة من ناحية، وولادة وعي جديد بضرورة الخروج من حالة التلاسن والتشكيك المتبادل، التي سادت فترة ما بعد تشكيل الحكومة، من ناحية ثانية.
ولمّح رئيس مجلس نواب الشعب، محمد الناصر، بعد خروجه من مقابلة الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، بعد حادثة القطار، إلى أن الأخير يفكر جديا في إطلاق مبادرة جديدة للخروج من الأزمة.
بدورها، دعت حركة "النهضة" في بيان أصدرته إثر العمليات الإرهابية إلى "التعجيل بانطلاق حوار وطني يفضي إلى عقد مؤتمر وطني يضع استراتيجية شاملة لمكافحة الإرهاب".
وأكد رئيس المكتب السياسي للحركة، نور الدين العرباوي، لـ"العربي الجديد" أن "تصاعد واتساع الاحتجاجات في العديد من القطاعات يعكس أزمة مخيفة، والحكومة مستهدفة بشعارات الرحيل والإسقاط، إلا أن التونسيين تجاوزوا في السابق أزمات مماثلة ولن يعجزوا الآن عن حلها، ولكن ينبغي على الجميع أن يتحمل مسؤوليته في الذهاب إلى حوار وطني". وأشار إلى وجود قناعة بالذهاب إلى الحوار حتى لدى الأحزاب المترددة.
وقال العرباوي:" إن صيغة الحوار وآلياته لن تشكل حاجزاً إذا ما اتفقت الأطراف التونسية حول ضرورته، ويمكن الاجتماع حول ذلك وبحثه، بالإضافة إلى أن لدينا اليوم مؤسسات شرعية وقائمة مثل رئاسة الجمهورية أو رئاسة الحكومة المسؤولة عن الأوضاع الاجتماعية في تونس، وبإمكانها أن تقوم بهذا الدور".
بدورها، دعت "الجبهة الشعبية" اليسارية إلى حوار وطني شامل برغم اعتراضها على لقاء "النهضة" منفردة، وقال القيادي، زياد الأخضر، لـ"العربي الجديد"، إنه "لا بد من حوار حقيقي بين جميع الأطراف، يضع حداً للتصعيد المتبادل بين أطراف حكومية ونقابية، ولا بد للحكومة من مصارحة التونسيين والمنظمات والأحزاب بحقيقة مواردها وكيفية التصرف فيها، وهو ما يمكن أن يرسي مناخا للثقة يمكن البناء عليه".
وشدد الأخضر على أن هناك تهديدات كبرى تستهدف تونس بطريقة غير مباشرة، بحكم مشروع دولي أصبح واضحاً، ويهدف إلى تفتيت الدول، كما حدث في العراق وسورية وليبيا واليمن، ويستهدف حاليا الجزائر مرورا بتونس، على حدّ قوله.
ويبقى موقف اتحاد الشغل مركزياً في الحياة السياسية التونسية ولا يمكن تجاوزه في حوار وطني، خصوصاً أنه كان راعي الحوار السابق. وأشار أمينه العام، حسين العباسي، صراحة إلى أن الحكومة تنكرت لمطالب بعض القطاعات و"للأسف الشديد غاب منطق الحوار الاجتماعي، مما تسبب في أزمة في الحوار، وبلادنا لا تستحق سياسة تغييب الحوار الاجتماعي وصدّ الأبواب".
اقرأ أيضاً: اتحاد الشغل يستعد لإطلاق حوار وطني جديد في تونس
ولم يعارض العباسي فكرة الحوار، لكنه أشار إلى شروط مبدئية بقوله إن "النقابيين ليسوا فوضويين بل يريدون حواراً على الطاولة، والعمال مستعدون للتضحية، ولكن ليس على حساب حقوقهم بل على الجميع تقاسم التضحيات"، مشدداً على أن التفاوض ينبغي أن يكون بعيداً عن المزايدات وسياسة الهروب إلى الأمام، مضيفاً أن "يد الاتحاد ما زالت ممدودة للحوار مع الحكومة".
والتقى العباسي رئيس مجلس نواب الشعب، محمد الناصر، وحبيب الصيد، للتحاور حول الوضع الاجتماعي الحالي، خصوصاً في قطاعات التعليم والصحّة والجباية.