تونس: خطاب وسلوك من قاموس الحروب الأهلية

03 فبراير 2022
سوق باب الفلاح في العاصمة تونس (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -

الأجور، فقدان بعض المواد الأساسية، ارتفاع أسعار المحروقات... أصبحت هذه الأخبار وغيرها حديث الناس والمجالس في تونس، وهو ما دفع برئيس الدولة قيس سعيّد إلى استدعاء كل من وزيرة المالية سهام بوغديري ووزيرة التجارة فضية الرابحي، وطالبهما بضرورة صرف الجرايات (الأجور الشهرية) في مواعيدها، ووضع نصّ قانون جديد خاص بمسالك التوزيع.

وأكد سعيّد على أنه "لا مجال اليوم لما حصل من احتكار ومضاربة". ويدل ذلك على أن الهواجس الاقتصادية قد بدأت تطغى على الأزمة السياسية، وتضع التونسيين أمام مرحلة جديدة من المخاطر والمخاوف التي قد تعرّض الملايين منهم لهزات عنيفة من شأنها أن تنسف ما تبقى لديهم من قدرات ومدخرات مالية ونفسية.

فتونس اليوم أصبحت مدرجة ضمن قائمة عشر دول في العالم "تواجه صراعات مميتة أو حالات طوارئ إنسانية، أو أزمات أخرى"، حسبما ورد في تقرير مجموعة الأزمات الدولية لسنة 2022.


تونس اليوم أصبحت مدرجة ضمن قائمة عشر دول في العالم تواجه صراعات

صراعات داخلية في تونس

يبدو أن تونس تتجه لتصبح عبئاً ثقيلاً على أصدقائها بسبب المنحدر الذي سلكته في السنوات الأخيرة، والذي قد يفضي بها قريباً إلى وضع صعب ومعقد من شأنه أن يستوجب سنوات طويلة للخروج منه.

ونظراً لغياب المعلومات الموثقة والصادرة من جهات مسؤولة، يتعرض الرأي العام حالياً لموجة متصاعدة من الأخبار غير المؤكدة التي لم تستثن أي مؤسسة مهما كانت قيمتها وحساسيتها.

وتتلاقى هذه الأخبار حول مسألة جوهرية وأساسية تتعلق بتعميق الحيرة الجماعية وخلخلة ثقة المواطنين في دولتهم وفي مستقبلهم. وقد كثر الحديث عن صراعات تزداد حدة في مختلف المواقع، بما في ذلك بين قيادات الجيش حول موقفها من الأوضاع الراهنة.

وهي أخبار يصعب التأكد من صحتها، لكن مجرد رواجها من شأنه أن يزيد من الحيرة الجماعية، ويحجب المستقبل، ويحد من قدرة الاستشراف لدى جميع الأطراف مثل علماء السياسة والاجتماع، ويجعل كل الاحتمالات واردة بما في ذلك السيناريوهات الأكثر سوءاً.

تتسع معارك سعيّد وتحتد. فالتجار الذين سبق له أن وجه إليهم التحذير تلو التحذير، يقرر اليوم مواجهتهم من خلال إصدار قانون يشدد فيه العقوبات على من يتهمهم بـ"المحتكرين".

وهذا إجراء منطقي تلجأ له الدولة في كل مكان للدفاع عن مواطنيها وعن استقرارها. لكن للتجار وجهة نظر أخرى. هم لا ينفون أن بعضهم يلجأ إلى احتكار بعض السلع مثل السميد وتهريبه نحو ليبيا، لكنهم يشتكون من فقدان هذه السلع من الأسواق، ويعتبرون أن النقص يعود أساساً إلى الأزمة المالية المتصاعدة التي جعلت المزودين في الخارج يترددون في تزويد السوق التونسية بسبب الصعوبات المالية التي تعاني منها الحكومة.

وبدلاً من مصارحة الشعب بهذه الوضعية، والبحث بشكل جماعي عن حلول عاجلة، يقع اللجوء مرة أخرى إلى خطاب المؤامرة "التي تحيكها أطراف في الداخل والخارج ضد الرئيس وضد الشعب".


ينوي سعيّد فتح ملف "الصلح الجزائي" بوجه رجال الأعمال

كما يختار رئيس الجمهورية فتح ملف "الصلح الجزائي" الذي يستهدف المتهمين من رجال الأعمال بسرقة الدولة قبل الثورة وبعدها، من دون تمييز بين مختلف الملفات.

وسيتم إجبارهم على إنجاز مشاريع داخل مختلف المعتمديات (المقاطعات)، وهو ما زاد في درجات الخوف والشك في صفوف المستثمرين التونسيين وحتى الأجانب، وقد يترتب عن مثل هذا القرار تراجع مناخ الثقة، وخطوة أخرى نحو السقوط في الهاوية.

وعلى الرغم من استمرار الضغوط التي تمارسها دول عديدة تعتبر صديقة لتونس، وذلك من خلال رؤسائها وسفرائها، مثل ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة، يتجاهل الرئيس سعيّد هذه الأطراف، مكتفياً بمطالبتهم بالصبر قليلاً حتى يستكمل "إصلاحاته" الداخلية.

وبدلاً من أن يترك اللجنة التي وعد بتشكيلها للإعلان عن نتائج الاستشارة الالكترونية مع نهاية شهر مارس/آذار المقبل، فاجأ سعيّد الجميع بالإعلان عما سماها "النتائج الأولية لهذه الاستشارة"، مؤكداً أنها أتت داعمة للاختيارات التي سبق له أن دافع عنها مثل النظام الرئاسي، والنظام الانتخابي القائم على الأفراد، ومراجعة قانون الأحزاب والجمعيات، وذلك بنسب عالية قاربت 90 في المائة.

تركيز قيس سعيّد على الاستشارة الإلكترونية

ومع أن عدد المشاركين في الاستشارة الإلكترونية لم يتجاوز 115 ألف مشارك من مجموع 8 ملايين مواطن، إلا أن الرئيس اعتبر ذلك دليلاً على صحة اختياراته التي سيقع تنفيذها قبل نهاية السنة الحالية.

ولم يطمئن هذا التصريح الرئاسي النخب والمراقبين في الخارج، بل حصل العكس، إذ خسر سعيد بعض حلفائه في الداخل مثل حركة الشعب، ودفع بالدول الغربية إلى مزيد من الشك في نواياه، وجعلها تتوجس من النظام السياسي الذي ينوي إقامته قريباً.

وعلى الرغم من ذلك، يواصل الرئيس تصدّره استطلاعات الرأي، ويحظى بثقة عالية من قبل التونسيين. كما أن كارهي حركة النهضة مستمرون في دعمه، ويدفعونه نحو "استئصالها" من الوجود.

ففي منبر تلفزيوني علق أحد هؤلاء ويدعى عبد العزيز المزوغي، وهو محام وناشط سياسي، على تأخير دفع الرواتب لبعض الموظفين، وقال إنه "مستعد نضحي بعدم تسلم راتبي لمدة 10 شهر. المهم يخلصونا من الإسلام السياسي".

لم يكتف بذلك، بل دعا المواطنين إلى النضال ضد الإسلاميين، قائلاً "يلزم نناضل شوية، وأنا مستعد أناضل بالفلوس أو بالكرتوش (الرصاص) حتى نزيلهم".

خطاب هزّ الكثيرين، وأشعرهم بأن البعض يعمل على تفجير حرب أهلية في تونس الآمنة دفاعاً عن "الحداثة والديمقراطية".