استأثر الرئيس التونسي قيس سعيد بالسلطة التشريعية وبكامل السلطة التنفيذية، وحصّن قراراته بأنها غير قابلة للطعن والإلغاء، وأصبح بذلك المتحكم في كل السلطات، بل ومنح نفسه أيضاً سلطة الإصلاحات الدستورية وتغيير النظام السياسي والانتخابي من خلال لجنة يؤسسها بنفسه ودون استشارة أحد، بما يعني التحكم في الحاضر وتحديد ملامح المستقبل أيضاً.
وبمقتضى الأمر الذي أصدره أمس، الأربعاء، يمارس رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية بمساعدة حكومة، ويرأس مجلس الوزراء، ويتولى القيادة العليا للقوات المسلحة، وإحداث وتعديل وحذف الوزارات وكتابات الدولة وضبط اختصاصاتها وصلاحياتها، وإحداث وتعديل وحذف المؤسسات والمنشآت العمومية والمصالح الإدارية وضبط اختصاصاتها وصلاحياتها.
وجاء في الفصل الـ15 من هذا الأمر أن "لرئيس الجمهورية أن يعرض على الاستفتاء أي مشروع مرسوم. وإذا ما أفضى الاستفتاء إلى المصادقة على المشروع، فإن رئيس الجمهورية يُصدره في أجل لا يتجاوز خمسة عشرة يوما من تاريخ الإعلان عن نتائج الاستفتاء". وبذلك يواجه التونسيون مصيرهم المحتوم ويجيبون في قادم الأيام عن السؤال الأهم في تاريخهم الحديث، هل سيتشبثون بديمقراطيتهم أم سيقبلون بالعودة إلى منظومة الحكم الفردي؟
وتعلق أستاذة القانون الدستوري منى كريم، في تصريح لـ"العربي الجديد"، على قرارات سعيد بالقول: "خرجنا من حالة الاستثناء ودخلنا في حالة الاعتباط، والأمر يؤسس لدكتاتورية بأتم معنى الكلمة". ويعلق المحامي عبد الواحد اليحياوي "هذا التنظيم المؤقت للسلطات هو نهاية التجربة الجماعية للتونسيين، المتميزة بالنسبية والتعددية، وبداية عصر الفرد الواحد، مالك الحقيقة السياسية المطلقة. لقد وقعنا في الفخ".
ويتضح أن الرئيس سعيد قد حبك قراراته أمس بعناية كبيرة، فقد حل البرلمان دون أن يعلن عن حله رسميا، حين جمّد صلاحياته وأوقف المكافآت، لأن في ذلك بالضرورة دعوة لانتخابات تشريعية في أجل تسعين يوما، لا يبدو أن الرئيس مستعد لها في الوقت الحاضر. كما أعلن سعيد عن تدابير استثنائية وليس عن تنظيم مؤقت للسلطة، حتى يبقى شكليا داخل الدستور برغم أنه ألغاه، وأعطى لنفسه كل الصلاحيات المطلقة دون أدنى مراقبة أو مراجعة من أي جهة كانت، وألغى حتى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، التي تتلخص مهمتها في دراسة دستورية مشاريع القوانين التي يناقشها البرلمان، المنحل أصلا، وكأنه يخشى ظل أي جهة رقابية.
التنظيم المؤقت للسلطات هو نهاية التجربة الجماعية للتونسيين، المتميزة بالنسبية والتعددية، وبداية عصر الفرد الواحد، مالك الحقيقة السياسية المطلقة
وبعد ذهول يوم أمس من حجم هذا التطور الدراماتيكي في حياة التونسيين، بدأت الأحزاب والشخصيات التونسية تستشعر عمق اللحظة وخطورتها الجسيمة على حاضر ومستقبل البلاد كلِّها، وليس على تجربتها الديمقراطية فحسب. وتقف تونس ونخبها اليوم أمام سؤال المصير، كما يرى مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تونس مهدي مبروك، مضيفًا، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن اللحظة "بالفعل فارقة وستحدد للأجيال القادمة ما ينبغي أن يكون عليه الاجتماع الوطني على مستوى ترتيب العلاقة بالماضي وبالديمقراطية والثقافة السياسية والدولة الوطنية". ويوضح مبروك أن هذه اللحظة "تتميز بحالة استقطاب شديدة وموازين قوى سياسية وشعبية قد تتغير وسرديات متناقضة، واختيارات متضاربة لكل منها كلفة، وهناك أسئلة كثيرة مهمة أخرى، من بينها: هل نعيد بناء عقد اجتماعي جديد، يقوم إما على حسن النية بالشخص ونزاهته، أم بالحذر الشديد الى حد الاستنفار تجاه هذا الشخص، باعتبار أنه قد ينسف تماما الاجتماع الوطني ويعيدنا إلى ما قبل الدولة الوطنية الحديثة بما هي عليه من دولة أحزاب ودستور ونخب ونقابات ومجتمع مدني؟".
أصبح سعيّد بذلك المتحكم في كل السلطات، بل ومنح نفسه أيضاً سلطة الإصلاحات الدستورية وتغيير النظام السياسي والانتخابي من خلال لجنة يؤسسها بنفسه
ويلفت مبروك إلى أن "من بين الأسئلة أيضا العلاقة بفكرة الزعامة، إذ كنّا نتحدث عن الثورة التونسية التي قامت دون زعامة وبلا رأس، لكن يبدو أننا عدنا إلى مفهوم الزعيم الذي يقدم عقيدة، وبدأت الآن بالفعل تتضح كعقيدة شعبوية".
ويرى مبروك أن التونسيين "لم يعرفوا مثيلا لهذه اللحظة، فحتى في 14 يناير لم يعش التونسيون هذه المشاعر ولا هذه المواقف والأفكار، فقد كانوا وقتها مندفعين توقا إلى الحرية ولم يكونوا أمام خيارات متعددة، وكان التحرر من الاستبداد هو الجارف، ولم يكن هناك شرخ مثل هذا الذي نشهده الآن".
ويؤكد مدير المغرب العربي للشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان رامي الصالحي، لـ"العربي الجديد"، أن "تونس في حالة خطر، ومن أخطر الفترات التي تمر بها الجمهورية الثانية، وفترة سعيد هذه لم نرها في أي فترة أخرى مهما كان حجمها واستبدادها وفسادها، وهي أن يتم جمع كل السلطات بيد شخص واحد"، مؤكدا أنه "حتى في الدول التي تعتمد الحكم الملكي نجد جانبا تشريعيا وتنفيذيا وقضائيا وهناك شيء من الرقابة لدى كل سلطة على الأخرى، ولكن قيس سعيد جعل نفسه دون حسيب ولا رقيب ودون أي شكل من أشكال الرقابة المؤسساتية، وهذا مفزع وخطير جدا ووجب التصدي له".
وأوضح الصالحي أن "ما هو في خطر اليوم ليس مؤسسات الدولة أو النظام الانتخابي، بل مبادئ وقيم الجمهورية التونسية، فالدولة تفكك وكل السلطات توضع في يد واحدة، وهي يد رئيس الجمهورية، بشكل تعسفي ينذر بحكم فردي واستبدادي مطلق، وللأسف مهما كانت النوايا طيبة، وأعتقد أنها ليست كذلك، فجمع السلطات ضرب لقيم ومبادئ الجمهورية ولمؤسسات الدولة التونسية، وعليه أعتقد أن هناك خطرا كبيرا يهدد المجتمع التونسي، لأنه وتحت مسمى الشرعية الشعبية يتم الدوس على قيم الجمهورية ومؤسسات الدولة، ونحن نعرف أن الشرعية الشعبية مسألة نسبية، لأنه لا يوجد أي مؤشر يدلل على أن هذه الشرعية مطلقة".
ووجّه الصالحي دعوة للنخبة السياسية والأحزاب والمنظمات والشخصيات للدفاع عن قيم الجمهورية، قائلا "أرى أن هذا هو الوقت المناسب، وعلى كل تونسي يؤمن بقيم الجمهورية والراية الوطنية والنشيد الوطني والدستور التجند بعيدا عن كل الحسابات فلا وقت لها، والسقف انهار على الجميع، واليوم كل الأحزاب أو المنظمات التي تعتقد أنها من خلال المهادنة والتودد والتقرب لرئيس الجمهورية ستجني شيئا ما، مخطئة، ولن تجني شيئا إطلاقا، لأنه يحتقر كل النخبة، وأعتقد أن سعيد يرى أيضا أن كل هياكل الوساطة، بما في ذلك الأحزاب والمنظمات، لا تصلح لشيء في إدارة الدولة وربما هي تساهم في توجيه الإرادة الشعبية... وبالتالي فالدور قادم عليها".
ويمضي قائلا: "بدأ سعيد بحل المجلس والحكومة والسيطرة على السلطة القضائية وكل السلطات، وسيقوم بحل الهيئات العمومية المستقلة، ما يعني أنه سيتحكم في كل مفاصل الدولة"، مشيرا إلى أنهم "سيفهمون ذلك قريبا لأنهم ضحاياه المقبلون، وبالتالي من المهم جدا التجند للدفاع عن قيم الجمهورية وعن مؤسسات الدولة وعن الطابع المدني للدولة".
وأمام هذه التطورات، توالت منذ يوم أمس، الأربعاء، دعوات الخروج إلى الشارع وإسقاط هذه القرارات سلميا. ودعت مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" إلى الخروج مجددا للتظاهر، وصدر بيان عنها تضمن دعوة "لكل التونسيين الذين لبوا نداء وقفة 18 سبتمبر وكل من تعاطفوا معها وأسندوها في هذا الفضاء إلى تلبية نداء ثان ليكون صوتنا أقوى وعددنا أكثر لنمارس أدوارنا المواطنية يوم الأحد 26 سبتمبر أمام المسرح البلدي".
من جهة أخرى، دعا المحامي والسياسي البارز أحمد نجيب الشابي إلى توحيد الجهود، وقال "أطلب من النخب عدم اتخاذ موقف استجداء بل يجب أن يكون هناك موقف رفض ومواجهة سياسية ومدنية، ولا أتحدث عن مواجهة متطرفة، لأنّ سعيّد دفع بتونس إلى المواجهة السياسية"، ودعا في تصريح لإذاعة جوهرة المحلية "كل القوى الديمقراطية والمدنية لأن تكوّن جبهة للدفاع عن الديمقراطية لإلغاء كل هذه القرارات والعودة من خلال استشارة وطنية للاتفاق على الإصلاحات الضرورية وتعديل القانون الانتخابي والتوجه نحو استفتاء وفق شروط وخيارات تبلورها النخبة ثم إلى انتخابات مبكرة تُعيد الشرعية".