للتسلّط أشكال عديدة، لكن يجمع ما بينها إخضاع رأس السلطة التنفيذية جميع السلطات الأخرى. هذا بالتحديد ما يفعله الرئيس التونسي قيس سعيّد منذ 25 يوليو/تموز الماضي.
بدأ الأمر بحل الحكومة وتجميد البرلمان ومصادرة حق التشريع من قبل رئيس الجمهورية، بخطاب وسلوك شعبويين قائمين على بث خطاب الكراهية وتقسيم التونسيين، وإعلان الحرب صراحة على الدستور وعلى السياسة وعلى الأحزاب والآليات الديمقراطية ومؤسساتها. ثم تابع مشوار الحكم الفردي المطلق بإلغاء استقلالية القضاء ومجلسه الأعلى، ليمنح نفسه صلاحية تعيين القضاة وإعفائهم وترقيتهم بمرسوم رئاسي يحل مكان القوانين التي يقرها المشرعون ويعدلونها.
منع سعيّد القضاة من الإضراب، ونصّب نفسه وصياً على القضاء
تجريد القضاء من استقلاليته قد يكون الخطوة الأكثر خطورة في طريق إعادة حقبة الديكتاتورية في تونس، وهو ما يواجَه بمقاومة لا تزال متمسكة بالسلمية طريقاً لإعادة العمل بالدستور والنظام والديمقراطية. لكن تحالف الرئيس مع أجهزة الأمن لا يزال أقوى من أي طرف آخر، كذلك حال مفعول الشعبوية التي لا تزال سلاح سعيّد.
مرسوم سعيّد...تركيع القضاء في تونس
وبعد تعليق عمل البرلمان، ثم الإطاحة بالحكومة وتعيين حكومة جديدة وتنصيب نفسه مسؤولاً عنها، اتجه سعيّد هذه المرة لمحاولة تركيع القضاء، عبر الإطاحة بالمجلس الأعلى للقضاء، وتعيين آخر مؤقتاً، ومنح نفسه صلاحيات واسعة بالتعيينات القضائية وإعفاء أي قاضٍ من منصبه، مع منع القضاة من الإضراب، ليتحول سعيّد إلى وصي على المؤسسة القضائية في البلاد.
وبهذا يكون الرئيس التونسي قد أتمّ السيطرة على كل المؤسسات الدستورية، وجعل القضاة مرتهنين له يعملون تحت طائلة الخوف، وأنشأ مجلساً أعلى للقضاء تابعاً له وينخرط في تنفيذ السياسات التي يريدها.
المرسوم الرئاسي الخاص باستحداث المجلس الأعلى المؤقت للقضاء، الذي وقّعه سعيّد في وقت متأخر من ليلة السبت، ونُشر في الجريدة الرسمية أمس الأحد، نصّ على أن فترة عمل المجلس المؤقت مفتوحة "لغاية تشكيل مجلس أعلى للقضاء".
ونصّ المرسوم على منع القضاة من الإضراب، وأعطى رئيس الجمهورية حق طلب إعفاء أي قاض "يخل بواجباته، بناء على تقرير معلل من رئيس الحكومة أو وزير العدل". ويصدر المجلس "فوراً" قراراً بإيقاف القاضي المعني عن العمل إلى حين البت في ملفه، بحسب المرسوم الرئاسي.
كما يحق لرئيس الجمهورية الاعتراض على أي تسمية أو ترقية أو نقل في الجسم القضائي، بناء على تقرير معلل من رئيس الحكومة أو وزير العدل، بحسب نفس الوثيقة. كما تضمن المرسوم الرئاسي صلاحية اعتراض رئيس الجمهورية على الترشيحات للوظائف العليا في القضاء بناء على تقرير حكومي.
واختزل سعيّد المجلس المؤقت الجديد في 21 عضواً معينين، موزعين على 3 مجالس قضائية (القضاء العدلي، والمالي والإداري)، في مقابل التركيبة السابقة للمجلس الأصلي التي كانت تضم 45 عضواً.
ويتكوّن كل مجلس من المجالس الثلاثة من 7 قضاة، 4 يعيّنون بحسب صفاتهم الوظيفية، و3 قضاة متقاعدين يعيّنهم رئيس الجمهورية، عكس المجلس المحلول الذي كان ثلثا أعضائه منتخبين بشكل مباشر من القضاة بإشراف هيئة الانتخابات.
كما أبعد سعيّد من تركيبة المجالس المؤقتة، المحامين وعدول التنفيذ والإشهاد وأساتذة القانون والجامعيين أو أي مهن أخرى غير قضائية، ليصبح مجلساً صرفاً للقضاة، وهو ما تعترض عليه كل هذه المهن، لأنها تعتبر أنها جزء لا يتجزأ من منظومة العدالة. ويترأس المجلس المؤقت بحسب المرسوم، الرئيس الأول لمحكمة التعقيب، وينوبه رئيس المحكمة الإدارية ورئيس محكمة المحاسبات.
وكان سعيّد قد ادعى خلال استقباله رئيسة الحكومة نجلاء بودن رمضان، ووزيرة العدل ليلى جفّال، مساء السبت، أنه "يحترم استقلالية القضاء"، مشدداً على "ضرورة تطهير البلاد من كلّ ما علق بها من أسباب الفساد، وأن ذلك يقتضي إرساء قضاء عادل يتساوى فيه الجميع أمام القانون".
رفض تونس واسع لمرسوم القضاء
ولاقى المرسوم الجديد رفضاً واسعاً في تونس. وأكد رئيس المجلس الأعلى للقضاء الذي أعلن سعيّد حله، يوسف بوزاخر، أن المرسوم الجديد غير دستوري وينهي ضمانات استقلالية القضاء، لأنه لم يعد هناك فصل بين السلطتين التنفيذية والقضائية.
من جهته، أعرب رئيس جمعية القضاة التونسيين أنس الحمادي عن خشيته من قرارات انتقامية، وتعهد بتحركات لمواجهة قرارات سعيّد. وأضاف الحمادي: "لدينا خشية كبيرة من مجزرة في القضاء بموجة إعفاءات للقضاة بطريقة أحادية. سنمضي قدماً في حماية السلطة القضائية الشرعية المستقلة، وسنعلن لاحقاً نضالاتنا".
وكانت جمعية القضاة التونسيين قد طالبت، السبت، سعيّد، بالتراجع عن قراره حل المجلس الأعلى للقضاء، والسماح بعودته للعمل، وذلك خلال اجتماع لها في العاصمة لبحث وضع السلطة القضائية في البلاد، معلنة تشكيل خلية أزمة لمتابعة تطورات الوضع القضائي.
وجدّد القضاة التونسيون خلال الاجتماع "رفضهم المطلق المساس بمقتضى المراسيم بالبناء الدستوري للسلطة القضائية خارج إطار مبادئ الشرعية، والتأسيس لوضع يتعارض مع الدستور ومع مصلحة العدالة وحقوق المواطنين والضمانات الهيكلية والوظيفية المكفولة للقضاة".
وأكد المجتمعون أن "المجلس الأعلى للقضاء بتركيبته الحالية هو المؤسسة الدستورية الشرعية الوحيدة الممثلة للسلطة القضائية، ويرفضون تنصيب أي هيكل بديل عنه"، و"يرفضون كل الضغوط والتهديدات ضد القضاة وحملات التشهير والاتهام بالفساد من دون أي دليل".
واعتبر البيان أنّ "إعلان حلّ المجلس الأعلى للقضاء بصفته مؤسسة دستورية مستقلة تسهر على حسن سير القضاء وتضمن مبدأ الفصل بين السلطات، يشكّل تدخلاً مباشراً في السلطة القضائية وإلغاء لضمانات وآليات استقلال القضاء وفقا للدستور والمعايير الدولية".
الحمادي: خشية من مجزرة في القضاء بموجة إعفاءات أحادية
وتعليقاً على المرسوم الذي أصدره سعيّد، قالت أستاذة القانون الدستوري، منى كريم الدريدي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "هذا المرسوم الذي جاء على المقاس، هو بمثابة إتمام عملية الإجهاز على ما بقي من المؤسسات الدستورية المنتخبة"، مشددة على أنه "إعلان الاستيلاء على جميع السلطات في البلاد".
ولفتت كريم إلى أن "هذا المرسوم مواصلة في خرق الدستور وامتداد للتجاوزات التي كرسها الأمر 117 من قبل، بل إنه خرق حتى التزام الرئيس بعدم المسّ بالحقوق والحريات، إذ تم المس بحق جوهري، وهو الحق في الإضراب بالتنصيص على منع القضاة من الإضراب وتعليق العمل في المحاكم".
وشدّدت أستاذة القانون الدستوري، على أنه وفقاً لمرسوم استحداث المجلس الأعلى المؤقت للقضاء، فإن "مدة هذا المجلس غير محددة، كما أن المرسوم غير قابل للطعن على غرار المرسوم 117 (التدابير الاستثنائية)، ولا يزول إلا بقرار من الرئيس قيس سعيّد أو بنهاية ولايته".
وبينت أن "استثناء المحامين والعدول من المجلس المؤقت يعود لعدم خضوعهم لسلطة سعيّد (قطاع حر)، عكس القضاة الذين سيصبحون مرتهنين له".وبينت أن "هذا الإجراء يعتبر مهزلة قانونية جديدة، بعدما تم حلّ مجلس منصوص على إحداثه في الدستور ومنتخب بإشراف هيئة الانتخابات".
من جهتها، قالت المتحدثة باسم "محامون لحماية الحقوق والحريات"، المحامية إسلام حمزة، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "رئيس الجمهورية يواصل سياسة الأمر الواقع غير آبه للمقاومة والمعارضة وللمواقف"، معربة عن أسفها لأن "آخر الحصون سقط وتنتظرنا أيام سوداء، سيضع الرئيس قضاة كما يريد وبحسب ما يريد لإنجاز ما يريد".
وفي ردود الفعل الحزبية، اعتبر رئيس كتلة حركة "النهضة"، والمتحدث باسم الحركة، عماد الخميري، أن "مرسوم القضاء المؤقت تكريس فعلي وتدشين عملي لقضاء سعيّد، حيث التراجع عن كل المكتسبات التي ناضل من أجلها التونسيون والتونسيات في قضاء مستقل". وأضاف على "فيسبوك"، أنه "لا علاقة لهذا المرسوم بالإصلاح، وإنما تحركه رغبة سعيّد في تكريس حكم فردي ستكون له عواقب وخيمة على مستقبل البلاد".
بدوره، كتب رئيس حزب "الأمل" ومنسق مبادرة اللقاء الوطني للإنقاذ، أحمد نجيب الشابي، على "فيسبوك"، أن "عقبة أخرى تنزاح على طريق العودة إلى الحكم المطلق، في كساء شعبوي رديء هذه المرة. ثم بعد؟ سوف يدفع المجتمع، وفي مقدمته النخب بلا شك، ثمناً باهظاً من الألم والشدة والتضحية بالنفس والنفيس".
استمرار الحراك السلمي في تونس
في غضون ذلك، شهدت العاصمة التونسية أمس، تظاهرة بدعوة من مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" وبمشاركة أحزاب مناهضة للانقلاب، رفضاً لقرارات سعيّد، لا سيما مرسوم إحداث مجلس قضائي مؤقت.
ورفع المحتجون في الوقفة التي جرت في شارع محمد الخامس في العاصمة تونس، شعارات من بينها "دستور حرية كرامة وطنية" و"يسقط يسقط الانقلاب" و"القضاء مستقل" و"الشعب يريد عزل الرئيس".
وأكد عضو الهيئة التنفيذية للمبادرة، جوهر بن مبارك، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "الرسالة الخاصة (أمس) هي إسناد القضاء والقضاة لمزيد من الصمود والتصدي لقرارات الرئيس". وشدّد على أن مرسوم سعيّد المتعلق بالقضاء باطل، وغير شرعي.
وكشف بن مبارك، عن إطلاق مبادرة سياسية جديدة في تونس، تحمل اسم "المؤتمر الوطني للبديل الديمقراطي"، وذلك بهدف تشكيل جبهة سياسية موحدة تتصدى لانقلاب سعيّد. ودعا بن مبارك، البرلمان التونسي، إلى عقد جلسة عامة رسمية، يتم فيها اتخاذ الإجراءات الكفيلة بحماية تونس من الخطر الذي يمثله سعيّد على البلاد.
وفي كلمة له عن بُعد للمحتجين، أكد الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي أن "هذا الحضور الجماهيري الهام يمثل أكبر صفعة للمنقلب الذي كان دائماً يتحدث عن المساندة الشعبية، ويتحدث عن الديمقراطية لتركيز حكمه الاستبدادي"، معتبراً أن "الحل واضح اليوم، وهو عزل الرئيس الذي أصبح غير شرعي"، مشدداً على "ضرورة محاكمة المنقلب".