قرر الرئيس التونسي قيس سعيّد مواجهة الجميع دفعة واحدة وبمفرده اعتقاداً منه بأن الشعب سيقف معه في معركته الكبرى يوم الخامس والعشرين من يوليو/تموز المقبل، تاريخ الاستفتاء على الدستور الجديد. لقد أكسبته فترة الحكم التي قضاها حتى الآن، ثقة استثنائية في نفسه، وحررته نهائياً من بقية الأطراف التي كان يحسب لها حساب قبل انفراده بالسلطة.
الآن وقد انطلقت فعاليات تأسيس "الجمهورية التونسية الجديدة" التي يحلم بها سعيّد، مع الافتتاح الرسمي لما وصف رسمياً بـ"الحوار الوطني"، على الرغم من معارضة القوى الرئيسية؛ السياسية منها والاجتماعية، إلى جانب أبرز المثقفين ونشطاء المجتمع المدني، وعلى الرغم من ثقل هذه الأطراف والشخصيات، إلا أن الرئيس لم يتراجع أو يعدل في قراراته وأفكاره، معتمداً سياسة فرض الأمر الواقع، ومستعيناً في ذلك بمؤسسات الدولة وأدواتها.
وهذا الأمر أقر به شقيقه، نوفل سعيّد، عندما اعتبر في مقال له أخيراً أن الرئيس "يحمل حالياً عبء حكم البلاد بمفرده". فمن سينتصر في نهاية هذه المعركة الضروس: قيس سعيّد أم خصومه؟
دخل الرئيس التونسي في صراع مفتوح مع الأطراف التالية: حركة النهضة، وأحزاب المعارضة، والاتحاد العام التونسي للشغل، والقضاة، إلى جانب الجهات الدولية؛ بدءاً من أوروبا ووصولاً إلى أميركا. حصل كل ذلك خلال الأيام القليلة الماضية.
الانعكاسات السياسية والأمنية للمواجهة بين سعيّد والنهضة لن تكون سهلة
معركة كسر عضم لسعيّد مع حركة النهضة والغنوشي
كانت ضربة البداية مع صدور قرار بمنع السفر في حق رئيس البرلمان رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي و34 شخصاً معه، والإذن بانطلاق التحقيقات الأمنية والقضائية في ما يتعلق بملف "الجهاز السري" للحركة. وهي القضية المشهورة التي كشفت عن بعض تفاصيلها وحيثياتها في وقت سابق هيئة الدفاع عن شكري بلعيد (اغتيل في فبراير/شباط عام 2013) ومحمد البراهمي (اغتيل في يوليو/تموز 2013)، عندما تقدمت بشكوى ضد قيادات من حركة النهضة تتهمهم بالمسؤولية عن التستر على قضايا الاغتيالات السياسية في تونس.
بذلك، يكون قيس سعيّد قد تخلّى عن موقفه السابق الذي جعله يتجنّب إثارة هذه القضية مباشرة وبشكل عاجل، بعد أن ترك المجال إلى القضاء للتعامل مع هذا الملف المعقّد.
ويعود هذا التغيير في الموقف إلى اعتقاده بأن الوقت قد حان لخوض معركة كسر عظم مع حركة النهضة، ومع الغنوشي تحديداً، مستفيداً من الجهود التي بذلها أصدقاء وأنصار الراحلين.
ومن المتوقّع أن تتجلى خلال الأيام والأسابيع المقبلة بعض الجوانب الخفية والغامضة من هذه القضية الخطيرة التي شغلت الرأي العام من دون أن تتوفر الأدلة القاطعة التي من شأنها أن تثبت تحميل "النهضة" والغنوشي مسؤولية التخطيط وتنفيذ هذه الاغتيالات، وفق رواية خصومهم. وعلى الرغم من استخفاف الغنوشي ببوادر هذه المواجهة، إلا أن انعكاساتها السياسية والأمنية لن تكون سهلة.
التصعيد الذي تشهده العلاقة بين سعيّد والاتحاد العام للشغل يعتبر الأخطر والأكثر أهمية
استهداف قيس سعيّد للقضاة
في سياق موازٍ، قام الرئيس بإقالة 57 قاضياً دفعة واحدة، من دون أن يمكّنهم حتى من حق الاعتراض والدفاع عن أنفسهم قبل الحكم عليهم. إجراء وصفته جهات قضائية عديدة بـ"مجزرة القضاة".
وتعتبر هذه الخطوة استكمالاً لمحاولات سابقة عمد خلالها سعيّد إلى تطويع هذه المؤسسة التي تمتعت في دستور 2014 بمقومات السلطة المستقلة، لكن هذه الاستقلالية أصبحت اليوم مهددة حسب اعتقاد القضاة أنفسهم، إلى جانب الكثير من المراقبين في الداخل والخارج، وهو ما جعل الأمم المتحدة تعبّر عن قلقها وتتحفظ على هذه الإجراءات التي أدانتها مختلف منظمات حقوق الإنسان.
ولا يُعرف مدى قدرة القضاة على ترميم صفوفهم من أجل التصدي لهذه القرارات، والدفاع عن الحد الأدنى من حقوق القضاة بما في ذلك حقهم في الشغل والحصول على أجورهم بعد أن تحوّل العديد منهم إلى عاطلين عن العمل بدون دخل.
وإذ تعلّقت ببعض هؤلاء القضاة شبهات فساد بالفعل، إلا أن آخرين عُرفوا بنظافتهم ومواقفهم الرافضة لتدخّل السلطة التنفيذية في أعمالهم وأحكامهم، حتى أن بعضهم لم يتردد عن وصف ما قام به الرئيس بـ"الانقلاب". وهو ما زاد في تعميق المخاوف لدى الحقوقيين والسياسيين والمتابعين للشأن التونسي.
إضراب اتحاد الشغل التونسي في 16 يونيو
مع أهمية هذه المعارك، فإن التصعيد الذي تشهده العلاقة بين سعيّد والاتحاد العام التونسي للشغل على الصعيدين السياسي والاجتماعي، يعتبر الأخطر والأكثر أهمية. فرئاسة الجمهورية فشلت في كسب ثقة القيادة النقابية، ولم تنجح في استدراجها نحو مساندة أجندة قيس سعيّد.
رفض الاتحاد خطاب التهديد الذي يلوّح به أنصار الرئيس، أو الانسياق وراء الغموض السياسي السائد، معترضاً على سياسة الأمر الواقع، وأعلن أمينه العام نور الدين الطبوبي، عن استعداد النقابيين للدفاع عن منظمتهم وعن حقوقهم.
وسيكون الإضراب العام الذي دعا له الاتحاد بتاريخ 16 يونيو الحالي بكامل مؤسسات القطاع العام، منعرجاً أساسياً وتجسيداً لموازين القوى. وهو الإضراب الذي ستكون من نتائجه ـ إن تم ـ توجيه ضربة قاضية لإمكانية التوصل إلى حل مع صندوق النقد الدولي.
ولم يكتف الاتحاد بتوجيه النقد للمسار السائد، وإنما استعان أيضاً بعدد من الخبراء، وبلور برنامجاً بديلاً يتضمّن جملة من الاقتراحات؛ سواء في المجال الاقتصادي أو لتعديل الدستور.
سيكون الإضراب العام الذي دعا له الاتحاد بتاريخ 16 يونيو منعرجاً أساسياً وتجسيداً لموازين القوى
على الرغم من الانتقادات التي يوجهها النقابيون إلى أحزاب وقوى المعارضة، خصوصاً "جبهة الخلاص الوطني"، إلا أن مواقف الاتحاد الأخيرة كشفت عن وجود تشابه مع مواقف المعارضين، خصوصاً في ما يتعلق برفض الاستفتاء ومقاطعة الحوار الذي دعا له رئيس الدولة.
في هذه الأجواء الساخنة، ما تخشاه المعارضة هو أن تنقلب هذه المواجهة السياسية المتصاعدة يوماً بعد يوم إلى أعمال من شأنها المس بالحريات، خصوصاً أن العديد من الأحزاب السياسية تنوي تنظيم حملات ميدانية لإقناع التونسيين بعدم المشاركة في الاستفتاء. وهو ما جعل الأمين العام لحزب التكتل المعارض، خليل الزاوية، يعلن بأن مشروع قيس سعيّد "لا يمكن أن يكتمل إلا بالقمع، والقمع آتٍ وسيمس الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني والإعلام''.
لكن لا شيء حتى الآن يؤكد وقوع هذا الاحتمال. مع ذلك تبدو البلاد تسير على صفيح ساخن، وهو ما جعل أحد كتّاب صحيفة "لوموند" الفرنسية، أستاذ العلوم السياسية الخبير في شؤون الشرق الأوسط جان بيير فيليو، يختزل المشهد التونسي أخيراً في عنوان لمقال له: "بدء العد التنازلي لمرحلة المخاطر العالية في تونس... وحيد في قرطاج وتفكك خطير".