بدأ الفاعلون والشارع التونسي يستفيقون من صدمة الأحد، بعد القرارات الاستثنائية التي اتخذها رئيس الجمهورية قيس سعيّد بإقالة الحكومة وتجميد عمل البرلمان لثلاثين يوماً وترؤسه النيابة العامة، مستنداً على تفسيره الخاص للفصل 80 من الدستور، وما تبع ذلك من إقالات لمسؤولين في مستويات مختلفة من السلطة، لتتجه الأنظار إلى الخطوات المقبلة وخريطة الطريق التي ستُخرج البلاد من المأزق الذي دخلت فيه. وفي حين لم يعلن سعيّد عن خريطة متكاملة لمستقبل تونس، ولا سيما الخطوات المرتقبة بعد انتهاء تجميد عمل مجلس النواب، بدا أن الاتحاد التونسي العام للشغل، هو الطرف الوحيد الذي يعمل على مشروع خطة تتضمن تصورات للمرحلة المقبلة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية، على الرغم من الانتقادات لموقفه بعدم إدانة القرارات الانقلابية لسعيّد، في وقت غابت فيه الخطط من كل الأطراف السياسية والأحزاب التونسية.
لكن وجهات النظر لا تزال متباينة وغير واضحة تجاه الخريطة المرتقبة، ففي حين يبدو أن سعيّد يريد فرض شروطه ومنها تبني المستجدات منذ انقلابه على الدستور يوم الأحد، فإن حركة "النهضة" في المقابل ومع اقتناعها بالأمر الواقع ورفضها أي تصعيد، إلا أنها تصر على عودة البرلمان للعمل، وترى أن المشكلة سياسية وحلها في إطار حوار سياسي. ولا تتوقف الاختلافات عند ذلك، بل إن مسألة إجراء انتخابات مبكرة لا إجماع حولها، فالبعض يرى أنها لا يمكن أن تتم حالياً، فيما يشدد آخرون على ضرورة إجرائها سريعاً.
يستعد الاتحاد التونسي للشغل لتقديم خريطة طريق لرئيس الجمهورية في الأيام القليلة المقبلة تتضمن تصورات للمرحلة المقبلة
ويستعد الاتحاد التونسي للشغل لتقديم خريطة طريق لرئيس الجمهورية في الأيام القليلة المقبلة تتضمن تصورات للمرحلة المقبلة. وأوضح الأمين العام المساعد، المتحدث الرسمي باسم الاتحاد، سامي الطاهري، في حديث مع "العربي الجديد"، أن مبادرة الاتحاد ستركز على المسائل العاجلة والمتعلقة بسد الفراغ الحكومي، واتخاذ إجراءات اجتماعية واقتصادية وصحية، موضحاً أنه سيتم التحضير لما بعد الوضع الاستثنائي، أي كيف سيُحسم وضع البرلمان والدستور والقانون الانتخابي، مشيراً إلى أنه سيتم النظر في تنظيم انتخابات تشريعية مبكرة أم لا.
وأوضح الطاهري أن خريطة الطريق التي يعدها الاتحاد ستقدّم سريعاً إلى رئيس الجمهورية لأن المسألة عاجلة وستشمل توصيفاً للوضع والأسباب التي قادت إلى هذه الإجراءات والتي كانت في مجملها في إطار الدستور، مضيفاً أن البرلمان مجمّد طيلة 30 يوماً والاتحاد سيقدّم تصوراً لما بعد هذه الفترة وكيف سيكون العمل لاحقاً لأنه لا يمكن عودة البرلمان بصيغته الحالية. وحول الانتخابات التشريعية المبكرة، أوضح المتحدث باسم الاتحاد أن المناخ الحالي لن يسمح بانتخابات عادية وسليمة، ويجب توفر عامل الاستقرار ووضع آليات جديدة بخصوص القانون الانتخابي والأحزاب وتمويلها، والتي لا تخلو من إشكاليات، ولكن هذا الأمر قد يتطلب بعض الوقت، ولذلك لا يمكن الحديث عن انتخابات مبكرة حالياً، ولكنها من الآفاق المستقبلية وستكون أولوية ولكنها ليست آنية.
وعن توجهات سعيّد المستقبلية، أكد عميد المحامين إبراهيم بودربالة، في حديث مع "العربي الجديد"، أن اللقاء الذي جمعهم برئيس الجمهورية كان إيجابياً، مبيناً أن سعيّد كان منفتحاً على كل الاقتراحات والتصورات شرط أن تأخذ بعين الاعتبار المستجدات والقرارات المتخذة بعد 25 يوليو/تموز الحالي، وأن تكون هذه التصورات واضحة وقابلة للتجسيد وغير فضفاضة وتُخرج البلاد من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مشيراً إلى أن سعيّد أعرب عن انفتاحه على الحوار مع كل الآراء والجهات ما عدا الفاسدين، فجلّ التنظيمات والهيئات المهنية والمجتمع المدني يحق لها إبداء الرأي في ما ينفع البلاد.
وقال بودربالة إن سعيّد وضع رؤية نتيجة الوضع الذي آلت إليه البلاد وهذه الرؤية سيتم أخذها بعين الاعتبار في كل القرارات مستقبلاً، مؤكداً أن المسألة واضحة لدى سعيّد وهي عدم وجود شبهات فساد، والشرط الثاني تبنّي المستجدات الحاصلة، وثالثاً أن تصب المقترحات على نفع البلاد خصوصاً المسار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وشدد على أن "تونس اليوم في مفترق طرق، فإما أن تنتصر الحكمة وتقود إلى حلول تقود البلاد إلى بر الأمان، أو أن يتمترس كل طرف وراء موقعه وموقفه ويحصل التصادم الذي قد ينحرف بالأوضاع، وهذا ما لا نرضاه لبلادنا".
عميد المحامين: سعيّد عبّر عن رغبته في فتح ملفات الفساد وتتبّع الفاسدين سواء كانوا نواباً أو شخصيات أو أصحاب نفوذ
ولفت عميد المحامين إلى أن من أسباب لجوء سعيّد إلى الفصل 80 من الدستور تطورات الوضع الصحي في البلاد وكيف أن اللقاحات لم توفر في الوقت المناسب وفقدان الأوكسجين في المستشفيات، إلى جانب حالة الترهل السياسي وكيف تحوّل مجلس نواب إلى فوضى، معلناً أن سعيّد عبّر عن رغبته في فتح ملفات الفساد وتتبّع الفاسدين سواء كانوا نواباً أو شخصيات أو أصحاب نفوذ، ويجب أن تتم مقاضاتهم ولا يجوز أن يفلت كل من اتهم بالفساد من العقاب، مشيراً إلى أن سعيّد أبلغهم أنه "لا يعقل أن تصدر أحكام ضد نواب وأشخاص تُعتبر أموالهم مشبوهة ومتهمون بالتهريب وتبييض الأموال ونجدهم يحتلون مقاعد في مجلس النواب". وأضاف أن سعيّد دعا إلى محاكمة هؤلاء محاكمة عادلة فكل المواطنين سواسية أمام القانون.
مقابل ذلك، تطالب أطراف أخرى بضمانات للعودة إلى الوضع الدستوري الاعتيادي وفصل السلطات، في ظل مخاوف من جمع سعيّد كل السلطات بيديه. وفي هذا السياق، طالب المجلس الوطني لحزب "التيار الديمقراطي"، بضمانات دستورية تهدف إلى حماية الحقوق والحريات والحفاظ على المكتسبات الدستورية والديمقراطية بشكل يسمح بتبديد المخاوف وطمأنة المجتمع التونسي بكل مكوناته والالتزام بالدستور، خصوصاً في ما تعلق منه باحترام الآجال ومبدأ الفصل بين السلطات واستقلاليتها. ودعا الحزب في بيان رئيس الجمهورية إلى تقديم خريطة طريق تضمن العودة إلى الوضع الدستوري الاعتيادي، وتتضمن التدابير التي سيتم اتخاذها في إطار العمل على تنقية المشهد السياسي واختيار رئيس حكومة ذي كفاءة ونزاهة يشكّل حكومة قادرة على مواجهة تحديات المرحلة.
من جهته، قال القيادي في حركة "النهضة" محمد القوماني، إن "الوضع الآن صار أمراً واقعاً ودخلنا مرحلة جديدة، والأحكام الاستثنائية ستؤثر على بقية المسار"، مضيفاً في حديث مع "العربي الجديد" أنه بقطع النظر عن الجدال الدستوري الذي لن يحسم في غياب المحكمة الدستورية، فإن المشكلة تظل سياسية ولن تحل إلا في إطار حوار سياسي من دون اللجوء إلى المغالبة بل التفهم والحوار. وأشار إلى أن بعض الرسائل الإيجابية تلوح في الأفق، سواء من خلال قرار "النهضة" عدم التصعيد والتباحث مع الأطراف الرافضة للإجراءات اللادستورية عن أفضل السيناريوهات والدعوة لعودة البرلمان لدوره وعمله من جهة، ومن جهة ثانية كانت هناك رسائل إيجابية من قبل رئيس الجمهورية بعد لقائه بالمنظمات الوطنية، فالأوامر المنشورة في الرائد الرسمي (الجريدة الرسمية) لم تشمل تجميد البرلمان، ولا ترؤس النيابة العمومية.
قيادي في "النهضة": المشكلة تظل سياسية ولن تحل إلا في إطار حوار سياسي
ورأى القوماني أن سعيّد تأخر في تعيين رئيس الحكومة ربما ليفتح المجال للحوار، وأن تكسب الحكومة الشرعية الدستورية للمرور عبر البرلمان، مؤكداً أن تطمينات رئيس الجمهورية بعدم انتهاك حقوق الإنسان كانت مهمة مع مبادرة اتحاد الشغل لوضع خارطة طريق لحسن إدارة المرحلة الاستثنائية، ما قد يعطي أفقاً للخروج من الأزمة والتفرغ للإصلاحات ومجابهة الجائحة الصحية والوضع المالي الصعب، مؤكداً أن هذا سيمهد الطريق لعودة الاستقرار ولانتخابات ترسم المشهد السياسي ما بعد التطورات الحاصلة. وقال القوماني إن "النهضة" على الرغم من تأكيدها أن الإجراءات الاستثنائية خالفت الدستور "ولكنها تعوّل على تفاعل النخب ورئيس الجمهورية والأشقاء والأصدقاء نحو مسالك ستجنّبنا الوقوع في مخاطر أكبر، وقع فيها البعض الذين اختاروا الاستئصال والإقصاء"، لافتاً إلى أن الشرط الأساسي لـ"النهضة" هو عودة البرلمان والتخلي عن صورة أنه محاصر من القوات العسكرية للعودة إلى الوضع الطبيعي، وأيضاً أن تشمل خريطة الطريق رؤية واضحة، والخروج من المأزق بحكومة إنقاذ وطني وأن تتصل بخطة مواجهة التحديات الحقيقية لتونس.
وعن السيناريو المتوقع لمآل الأمور، رأى المحلل السياسي قاسم الغربي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن السيناريو المقبل يقوم على ضرورة الاتفاق على شخص رئيس الحكومة، والبرنامج الانتقالي، مؤكداً أن هذا يجب أن يكون بالاتفاق بين رئاسة الجمهورية والفرقاء السياسيين، ثم الاتفاق على مدة المرحلة الانتقالية، أي هل سيلتزم الرئيس بمدة الشهر أو لا. وأضاف المحلل السياسي أن النقطة الهامة في المرحلة المقبلة هي الاتفاق على عودة المؤسسات للعمل بما في ذلك البرلمان، فدستورياً لا بد من عودة البرلمان، ولكن يبقى السؤال بأي صيغة وشكل، موضحاً أن المرحلة المقبلة ستشمل انتخابات تشريعية مبكرة إذ لا يمكن أن يستمر البرلمان بالشكل الذي كان عليه سابقاً من فوضى وتهريج، وربما سيعود بالحد الأدنى من النواب. ورأى أن رئيس الجمهورية قد لا يذهب في خيار المصادقة على رئيس الحكومة من البرلمان، فتكون حكومة الإجراءات الاستثنائية مع ضرورة الذهاب نحو انتخابات تشريعية ورئاسية بقانون انتخابي جديد.