يتصاعد التوتر في شمال مالي بعد عودة المواجهات المسلحة بين قوات الجيش المدعومة من "فاغنر" الروسية، وقوات حركات الأزواد، وسط مخاوف من انهيار اتفاق الجزائر للسلام، تزامناً مع عودة نشاط التنظيمات الإرهابية، في وقت تجري فيه وساطات جزائرية حثيثة لضمان استمرار العمل باتفاق الجزائر الموقّع عام 2015.
بعد هدنة سنوات، يشهد شمال مالي عودة للمواجهات المسلحة بين طرفي الصراع، إذ أعلن الجيش قبل أيام تعرض قواته لهجوم استهدف قاعدة عسكرية في بلدة ليرة، من قبل قوات الأزواد، وطلب من المدنيين الابتعاد عن ساحة المعركة، فيما أعلن "الإطار الاستراتيجي الدائم"، الذي يضم تحالف حركات الأزواد، سيطرته على القاعدة العسكرية في منطقة ليرة، بعد مقتل وأسر عدد من الجنود الماليين، وإسقاط طائرة عسكرية، كذلك سيطرت قوات التحالف على بلدة ليرة لساعات، لكنها قررت لاحقاً الانسحاب من البلدة، التي تقع قرب الحدود مع موريتانيا، حيث عادت قوات الأمن والدفاع المالية للتمركز في مواقعها داخل المدينة.
مخاوف من انهيار اتفاق السلام
بدأت هذه التوترات عندما قرر الجيش المالي، الذي تدعمه "فاغنر"، السيطرة على القاعدة العسكرية التي انسحبت منها بعثة الأمم المتحدة (مينوسما)، في منطقة بير شماليّ مالي، في 13 أغسطس/آب الماضي، قبل يومين من الموعد المقرر في جدول انسحابها، وتدور منذ تلك الفترة اشتباكات بين الجيش وقوات "تنسيقية الحركات الأزوادية" التي ترغب في السيطرة على القاعدة، والتي فشلت في ذلك، وانسحبت إلى داخل المدينة.
يظهر المشهد على أنه صراع مواقع وخطوط، ورغبة في سيطرة الجيش المالي على القواعد التي كانت تتمركز فيها "مينسوما"، لكن مجموع المعطيات الراهنة، خصوصاً بعد إسقاط الأزواد لطائرة تتبع للجيش المالي، يؤكد أن الوضع يتجه نحو مزيد من التوتر وتفاقم الصراع بين الحكومة المركزية وحركات الأزواد، خصوصاً في ظل تمسك كل طرف منهما بموقفه وتفسيراته لاتفاق الجزائر، ما لم تحدث خطوات سياسية سريعة من الجانب الجزائري تحديداً، باعتبار أن الجزائر هي الراعي لاتفاق السلام، وتقود فريق الوساطة الدولية.
وقال "الإطار الاستراتيجي الدائم"، في بيان صدر الأحد الماضي، إن "الحكومة الانتقالية في باماكو انتهكت اتفاق السلام والمصالحة"، واعتبر أن "هجوم الجيش المالي على قواعدها يعتبر انتهاكاً صارخاً للترتيبات الأمنية لعام 2014". واستنكر الإطار "استغلال مجموعة فاغنر للمنشآت الاستراتيجية التي بُنيَت على حساب الأمم المتحدة، وبشكل رئيسي مساهمات الدول التي صنفت هذه الشركة المرتزقة الخاصة على القائمة السوداء للمنظمات الإرهابية، واعتبرت ذلك في بيانها انتهاكاً للمواثيق الدولية".
يعتقد مراقبون لتطورات المشهد الأمني في شمال مالي، أن تعزيز الجيش المالي قواته مستعيناً بـ"فاغنر"، هو الدافع الأساسي لانطلاقه لتحريك تمركزات في مناطق في الشمال. ويؤكد المحلل في الشؤون الأمنية ميلود ولد الصديق، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "المجلس العسكري في مالي أبدى منذ فترة سعيه للتنصل من اتفاق الجزائر، لأنه يعتبر أن الدولة المركزية يجب أن تفرض سلطتها على كامل التراب المالي، وبعد الاتفاق مع قوات فاغنر، بات الجيش المالي يعتبر أن الخبرة والتجهيزات التي يحصل عليها من مجموعة فاغنر ومن روسيا، تسمح له بذلك".
وأضاف: "أعتقد أن المسألة معقدة نسبياً، والجغرافيا الصعبة للمنطقة لن تسمح لأي طرف بحسم المعركة لصالحه، والأولى لكل الأطراف العودة إلى اتفاق الجزائر"، الذي ينص على توسيع الحكم الذاتي في الشمال، ودمج مقاتلي الأزواد في الجيش، غير أن التطبيق يسير بوتيرة بطيئة، بحسب حركات الأزواد.
بالنسبة إلى حركات الطوارق، فإن اتفاق الجزائر بصدد الانهيار، وتبدو العودة إلى القتال أقرب، وهي تحمّل في بياناتها الأخيرة المجلس العسكري الحاكم في باماكو "المسؤولية عن العواقب التي وصفتها بالوخيمة، والتي ستسببها استراتيجيته الحالية المتمثلة بخرق وقف إطلاق النار". ويشكل ذلك مصدر قلق لافت للجزائر، إذ عبّرت الأخيرة عن مخاوف جدية من انهيار اتفاق السلام في الجزائر، واندلاع حرب جديدة في مالي، تزيد الأوضاع توتراً في المنطقة، خصوصاً مع بروز جديد للتنظيمات الإرهابية، مثل "أنصار الإسلام"، و"داعش"، وتمركزها في مناطق تمبكتو، وغاو، وقرب نهر النيجر.
انقلاب في المشهد الأمني
عوامل عدة وأسباب تقف وراء انقلاب المشهد الأمني في شمال مالي، وعودة التوتر، وهو توتر يأخذ بعدين: الأول سياسي منذ إقرار الدستور الجديد في مالي، إذ اعتبرت حركات الطوارق في شمال مالي "أنها لا تجد نفسها فيه ولا يأخذ بمطالب السكان الطوارق". ويفهم منه انزعاج من إخلال المجلس العسكري الحاكم بالتزامات سياسية للدولة المالية، إضافة إلى تنصل الحكومة المركزية في مالي من تطبيق بعض بنود اتفاق الجزائر، في علاقة بدمج المسلحين في الجيش المالي، وإفراد مشاريع تنمية خاصة لمناطق الشمال الفقيرة.
ويتعلق البعد الثاني بتأثيرات الانسحاب العسكري الفرنسي من شمال مالي، والفراغ الذي خلفه، وهو وضع لم تكن مالي مستعدة له، خصوصاً أنه سمح في المقابل للتنظيمات الإرهابية بالعودة للتمركز مجدداً في شمال مالي ووسطها، حيث يحاصر تنظيم "أنصار الإسلام" مدينة تمبكتو منذ أيام، وهاجم معسكراً للجيش المالي وقارباً في نهر النيجر.
إزاء هذه التطورات، حثّ وزير الخارجية الجزائري، أحمد عطاف، الأسبوع الماضي، جميع الأطراف في مالي على الاستمرار في تنفيذ اتفاق السلم الموقع في الجزائر في مايو 2015. وأفاد بيان للخارجية بأنه "من خلال تنفيذ اتفاق السلم والمصالحة في مالي المنبثق من مسار الجزائر بحسن نية، على أساس إرادة سياسية لا تستثني أي تردد او تحفظ، يمكن لمالي بناء جبهة داخلية قادرة على مقاومة الاعتداءات التي يتعرض لها البلد والمنطقة بأسرها من قبل الإرهاب".
وجددت الجزائر "استعدادها مجدداً للعمل مع مالي للمضيّ قدماً في تنفيذ هذا الاتفاق لأنه يشكل الحاجز الذي يحفظ أمن وسيادة ووحدة الأراضي واستقرار هذا البلد الشقيق".
ويرجح محللون للشأن الأمني في منطقة الساحل أن تكون الوساطة الجزائرية في مالي، في سياق مساعٍ مستمرة للحيلولة دون انهيار اتفاق السلام، والعمل على السيطرة السياسية على التوترات الأخيرة.
ويقول الكاتب والمحلل السياسي عمار سيغة، لـ"العربي الجديد"، إن "هناك مبعوثين من الجزائر وصلوا إلى مالي قبل فترة قصيرة، وجرت اتصالات مهمة بين الحكومة الجزائرية، والسلطة الانتقالية في مالي"، مضيفاً: "أعتقد أن الثقة التي تحظى بها الجزائر لدى مجمل الأطراف المالية، ستسمح بوضع حد للتوترات القائمة، وتوجيه المجهود الأمني نحو محاربة الإرهاب، حتى وإن استدعى ذلك مناقشة أي تفاصيل في الاتفاق لتطويره بمشاركة الجميع".
وأشار إلى أن "الجزائر، التي تعتبر نفسها المعنية الأولى بتنفيذ اتفاق السلام في مالي، استشعرت وجود مخاطر لانهيار الاتفاق مبكراً، ففي فبراير الماضي، استقبل الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، قادة الحركات الأزوادية الموقّعة لاتفاق السلام، حيث أكد تبون لقادة الحركات الأزوادية التزامه الشخصي والتزام الجزائر الشقيقة بتحقيق السلام والاستقرار في مالي، وفي إقليم أزواد، من خلال التطبيق الكامل لاتفاقية الجزائر الموقعة منذ 2015".