لم تكن مسيرة رجال مجموعة "فاغنر" للمرتزقة الروس، باتجاه موسكو، أول من أمس السبت، والتي فشلت، خبراً سيئاً بالنسبة للولايات المتحدة، لكنها لم تكن خبراً ساراً كذلك بكل ما للكلمة من معنى. فلأكثر من عقد، وربما أطول، ظلّت مجموعة "فاغنر" تشكّل صداعاً بالنسبة لواشنطن، التي فشلت في لجم نفوذ هذه المجموعة وقائدها يفغيني بريغوجين، الذي كان يتنامى في أكثر من دولة، خصوصاً في أفريقيا، وبات ليس فقط جزءاً من ديناميات نظام حكم فلاديمير بوتين في موسكو، بل أصبحت "فاغنر" بمثابة إمبراطورية من المال والأعمال والعسكر، وتمكنت من إقناع أكثر من دولة، بالشراكة الأمنية بديلاً عن الغرب، فيما كانت ولا تزال تنهل من ثروات عدد من البلدان، بحسب الاتهامات الغربية.
هذا الوضع، أي أن تقود "فاغنر" محاولة انقلاب في روسيا، ليس بالتأكيد ما كانت تشتهيه واشنطن، وذلك لاعتبارات عدة، منها أن أي انقلاب ناجح تنشده الولايات المتحدة في الدول المتخاصمة معها، أو ضد قيادات كمثل بوتين، هو في الوضع المثالي بالنسبة لها، حين يتم تنصيب بديل موالٍ للغرب، الذي عمل جاهداً طوال عقود على محاولة التغلغل في الجمهوريات السوفييتية السابقة.
"طعنة" بريغوجين تفضح ضعف بوتين
ولكن بالرغم من ذلك، فإن ما شهدته روسيا طوال يوم السبت الماضي، بعدما قاد بريغوجين "تمرداً" (فاشلاً حتى اللحظة) لإطاحة مسؤولي وزارة الدفاع، والتي هو على خلاف مكتوم ثم معلن معها منذ سنوات، سيظل محل مراقبة أميركياً، على اعتبار أن "طعنة الظهر" التي تلقاها بوتين، فضحت ضعفه، وأن بريغوجين الذي كان يعوّل ربما على التحاق وحدات من الجيش الروسي به، قد فتح الباب أمام "انقلاب" حقيقي تقليدي مستقبلي، يخرج بوتين من الكرملين، والنخبة الروسية الحاكمة من السلطة، في وقت كان الغرب لا يزال يعدّ العدة لسنوات إضافية طويلة من الحرب في أوكرانيا، مع ما يستوجب ذلك من ضخّ أموال لدعم كييف وإعادة بناء ما دمّرته الآلة الحربية الروسية.
يحمل احتمال انحدار دولة نووية بحجم روسيا إلى الفوضى، معه مخاطر عدة
وتوخّت الولايات المتحدة، ومعها حلفاؤها، الحذر، في التعليق أو التعاطي مع مسألة "تمرد" بريغوجين، السبت، وربما كان ذلك بانتظار معرفة مداه، والجهات في الداخل الروسي التي من الممكن أن يكون على تواصل معها، على اعتبار أن اندفاعة زعيم "فاغنر" للوصول إلى موسكو، لم تكن وليدة لحظة غضب، بل تحمل أكثر من تفسير، ومنها أنه قد يكون نسّق تحركه مع مسؤولين في الجيش أو مع جهات خارجية.
وبغضّ النظر عن انعكاس التطور الروسي على سير المعركة في أوكرانيا، وحجم فائدته بالنسبة للهجوم المضاد الأوكراني، وهي مسألة ستكون محل مراقبة خلال الأيام المقبلة، لمعرفة وضع الجبهات وتموضعات القوات الروسية ومقاتلي "فاغنر"، فإن الولايات المتحدة ومعها حلفاؤها، من دون شك، عاشوا يوماً "صادماً" آخر، رأوا فيه "هيبة" الجيش الروسي والكرملين وقد أصيبت بضربة قوية، وذلك بعد صدمة سابقة، وقعت مع بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، في 24 فبراير/شباط 2022، حين كان الاعتقاد بأن القوة العسكرية الروسية ستكون قادرة على إسقاط نظام حكم كييف، وسريعاً.
معلومات مسبقة عن التمرد
وكشف الإعلام الأميركي، أمس الأحد، أن الولايات المتحدة كانت لديها معلومات قبل أيام معدودة من "التمرد"، أن بريغوجين يحضّر لأمر ما، وهو ما أثار خشية لدى صنّاع القرار في واشنطن، من انحدار دولة تملك مخزوناً هائلاً من الأسلحة النووية نحو الفوضى.
وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، فإن مسؤولي الاستخبارات الأميركية أطلعوا نظراءهم في الإدارة ووزارة الدفاع الأميركية، يوم الأربعاء الماضي، بأن بريغوجين يحضّر للتحرك عسكرياً ضد مسؤولين كبار في وزارة الدفاع الروسية، وذلك بحسب مسؤولين مطلعين على الموضوع تحدثوا للصحيفة. وقال هؤلاء إن وكالات الاستخبارات الأميركية كانت تملك إشارات قبل أيام من "التمرد" بأن زعيم "فاغنر" كان يخطّط لأمر ما، وهي كانت تعمل على جمع المعلومات التي بحوزتها لإنجاز تقييم نهائي.
وبحسب الصحيفة، فإن هذه المعلومات تُظهر أن الولايات المتحدة كانت على علم بأن أحداثاً وشيكة سوف تحصل في روسيا، مشابهة لكيفية تحذير الاستخبارات الأميركية في أواخر 2021، من أن بوتين كان يخطّط لغزو أوكرانيا. ولكن بعكس تلك المرة، حين قام المسؤولون الأميركيون بنشر المعلومات التي في حوزتهم في محاولة لمنع الغزو، فإنهم التزموا الصمت، الأسبوع الماضي، حول تحضيرات بريغوجين.
وقالت "نيويورك تايمز"، نقلاً عن مصادرها، بأن الصمت الأميركي جاء لأن المسؤولين الأميركيين شعروا بأنهم إذا ما تكلموا، فإن بوتين قد يتهمهم بتحضير انقلاب، كما أنهم لم يكونوا مهتمين أبداً بمساعدة بوتين لتجنب انشقاق في جدار الدعم الذي يستند إليه.
فضلاً عن ذلك، فإن المعلومات التي كانت بحوزة واشنطن كانت مثيرة للقلق، بقدر ما كانت صلبة، إذ أن بريغوجين معروف بوحشيته، وفي حال تمكّن من إطاحة أعدائه، فإنه سيكون زعيماً يصعب التنبؤ بكيفية حكمه، بحسب الصحيفة، التي أضافت أن احتمال انحدار دولة نووية بحجم روسيا منافسة للولايات المتحدة، إلى الفوضى، يحمل معه مخاطر عدة.
وبحسب الصحيفة، فإن مسؤولي الاستخبارات ظلّوا لأشهر عدة، يتابعون تفاصيل الخلاف بين بريغوجين ووزارة الدفاع، وأمضوا وقتاً في تحليله، ليصلوا إلى خلاصة بأن ذلك يشكّل إشارة واضحة حول التوترات الداخلية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، ونتاج لمعاناة روسيا في تزويد جيشها بالعتاد بطريقة ملائمة. وقال مسؤول للصحيفة إنها أيضاً دليل على أن الحرب تسير بشكل سيئ لـ"فاغنر" وللجيش النظامي معاً.
شكّل خلاف بريغوجين ووزارة الدفاع، إشارة واضحة بالنسبة لواشنطن حول حجم التوترات الداخلية في روسيا الناجمة عن الحرب
رغم ذلك، طغى العامل النووي على اعتبارات واشنطن حين نفّذ بريغوجين تمرّده. وهذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها روسيا لخضّات، إذ حتى مع سقوط الاتحاد السوفييتي لم يكن الهاجس "النووي" ماثلاً لدى الغرب بالقدر الذي بدا أول من أمس، أو أقلّه بالقدر الذي أظهره الإعلام. فمن منطلق عام، يقول متابعون إن أعداء روسيا لا يريدون رؤيتها قوية، بل ضعيفة، ولكن ليس أن تغرق في الفوضى، وهو رأي يدخل فيه العامل النووي بقوة كأحد الضوابط لعدم الرغبة في رؤية قيادة روسية على نسق زعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون.
المخاطر النووية في الحسابات الأميركية
وفي تقرير مطول لها، تطرقت وكالة "رويترز" إلى المخاطر النووية التي قد تنجم عن أي فوضى في الداخل الروسي. إذ حتى مع انسحاب مقاتلي "فاغنر" من روستوف، حيث كانوا سيطروا لساعات على مقر القيادة العسكرية الجنوبية الروسية، وهي المعنية بالحرب الأوكرانية، فإن ما حصل أثار القلق من حصول صراع كبير داخل روسيا، لأن فصل بريغوجين أعطى علامة على أن قبضة بوتين بدأت تضعف.
وقال مسؤولون استخباريون أميركيون سابقون، للوكالة، إن صور الدبابات في الشوارع الروسية، أعادت إلى الأذهان محاولة الانقلاب الفاشلة من قبل المتشددين الشيوعيين في أغسطس/آب 1991 (ضد حكم ميخائيل غورباتشوف) والذي كان أثار الخشية حول وضع الترسانة النووية السوفييتية وإمكانية أن يقوم أحد قادة الانقلاب المارقين من سرقة رأس نووي". ولفت المسؤول السابق في وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه"، مارك بوليميروبولوس، لـ"رويترز"، إلى أن "المجتمع الاستخباري الأميركي سينصبّ تركيزه بقوة على الترسانة النووية الروسية".
وقال المسؤول الآخر السابق في "سي آي إيه"، دانيال هوفمان: "عليك أن تعرف من المسيطر على الأسلحة النووية، لأن هناك قلقا من أن تصل إلى يد الإرهابيين أو الرجال الأشرار، مثل (الزعيم الشيشاني رمضان) قاديروف، وذلك بسبب الرافعة التي سيؤمّنها لهم السلاح النووي". لكن المسؤولين الأميركيين أكدوا أنهم لم يروا خطراً فوراً محدقاً بأمن الأسلحة الروسية الاستراتيجية والتكتيكية. وقال متحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي: "لم نلحظ أي تغييرات على وضعية القوة النووية الروسية"، مشدداً على "المسؤولية" الروسية في حماية هذه الترسانة وإدارتها والتأكد من عدم ممارسة أي أفعال تعرّض الاستقرار الاستراتيجي.
وتعد ترسانة روسيا النووية الأكبر في العالم، وكانت مقدرة العام الماضي بـ5 آلاف و977 رأساً نووياً من قبل فيدرالية العلماء الأميركيين، مقارنة بـ5 آلاف و428 رأساً نووياً تملكها الولايات المتحدة.
أثار تمرد بريغوجين الخشية حول وضع الترسانة النووية الروسية
ولطالما كان جمع المعلومات من قبل وكالات التجسس الأميركية عن هذه الترسانة أولوية لها، بحسب المسؤولين الاستخباريين السابقين الذين تحدثوا للوكالة، لكنه مسعى أصبح أكثر صعوبة العام الماضي، حين قرّر بوتين تعليق العمل بمعاهدة "ستارت الجديدة" للحد من الأسلحة الاستراتيجية، والموقّعة مع الولايات المتحدة، ما جعل الأخيرة منذ ذلك الحين تعتمد على أقمار التجسس الاصطناعية لتقييم أمن مواقع الأسلحة النووية الروسية وتحرك الرؤوس الحربية، كما على اختراق الاتصالات لمراقبة "ولاء" القادة الروس، وذلك بحسب المسؤول السابق في الاستخبارات الأميركية، مارك بوليميروبولوس.
في غضون ذلك، قرّرت الولايات المتحدة تأخير فرض عقوبات جديدة على مجموعة "فاغنر" بعد تمرد بريغوجين، وذلك خشية أن يصبّ ذلك في مصلحة بوتين. ونقلت صحيفة "وول ستريت جورنال"، أمس، عن كاميرون هادسون، كبير الموظفين السابق للمبعوث الأميركي إلى السودان، قوله إن واشنطن "كانت لديها استراتيجية لاستهداف وعزل وإضعاف نمو فاغنر في أفريقيا، لكن المضي بهذه المقاربة قد يضع إدارة الرئيس جو بايدن في موقع صعب، ليبدو وكأنه يدعم بوتين". لكن وفيما كانت الخزانة الأميركية تتحضر للإعلان عن حزمة عقوبات جديدة ضد "فاغنر"، أكد مسؤول كبير في إدارة بايدن، لـ"وول ستريت جورنال"، أن أي عقوبات مخطط لها لم ترفع أو تؤجل بسبب الأحداث في روسيا.
أميركياً أيضاً، ألقى تمرد بريغوجين بثقله على مشهد الحرب في أوكرانيا، وذلك قبل إعلان بريغوجين انسحابه بصفقة رعتها بيلاروسيا. إذ بحسب موقع "بوليتيكو"، فإن المسؤولين الأميركيين كانوا توصلوا ليل الجمعة - السبت، إلى قناعة مبدئية، أن التمرد سيشغل بال الكرملين، ما قد يشكّل فرصة منتظرة جداً لأوكرانيا لقلب الطاولة والدفع أكثر بخطتها للهجوم المضاد. ولكن بينما لا تزال إدارة بايدن في مرحلة تقييم أثر التمرد على سير المعركة، فإن المسؤولين الأميركيين دعوا إلى الحذر في بناء الاستنتاجات.