تفاهمات بوتين وكيم: اتفاقات وأجواء من زمن الحرب الباردة

21 يونيو 2024
كيم وبوتين في بيونغ يانغ، أول من أمس (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الرئيس الروسي بوتين والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون وقعا اتفاق "الشراكة الاستراتيجية الشاملة" لمواجهة "الهيمنة الإمبريالية الأميركية"، مع تأكيد بوتين على بناء بنية أمنية موثوقة في آسيا والحفاظ على العلاقات العسكرية بين موسكو وهانوي.
- الاتفاق يعيد العلاقات إلى مستوى اتفاق 1961 بين كوريا الشمالية والاتحاد السوفييتي، مع تعهد بالدفاع المشترك وتطوير التعاون العسكري الفني، مما يثير تساؤلات حول إمكانية تضمين الردع النووي.
- تفاهمات بوتين وكيم تثير قلق الولايات المتحدة وحلفائها، خصوصًا مع تزويد كوريا الشمالية لروسيا بالذخائر لاستخدامها في أوكرانيا، مما يعكس تحولاً في السياسة الروسية ويعمق التوترات الجيوسياسية في المنطقة.

بعد مراسم استقبال أسطورية أعادت إلى الذكريات الزمن السوفييتي بلمسات كورية شمالية، وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحليفه الجديد في مواجهة "الهيمنة الإمبريالية الأميركية" الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، أول من أمس الأربعاء، اتفاق "الشراكة الاستراتيجية الشاملة"، قبل انتقال بوتين إلى فيتنام، التي قال منها إن "موسكو وهانوي تريدان بناء بنية أمنية يمكن الاعتماد عليها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ"، ومتحدثاً عن "شراكة استراتيجية شاملة". وبدا بوتين في زيارته الخامسة من نوعها إلى فيتنام ساعياً للحفاظ على العلاقات العسكرية طويلة الأمد بين موسكو وهانوي، رغم أن الأخيرة طورت علاقات عميقة مع واشنطن، حتى أنها تعرّضت لانتقادات أميركية بعد الكشف عن نيتها استقبال بوتين. وإذا كان الرئيس الروسي راهن على حاجة فيتنام لشراء معدات عسكرية روسية، فضلاً عن وجود مصالح سياسية واقتصادية عدة يصعب تجاوزها بين البلدين، فإن حصيلة زيارته لم تكن بذات مستوى ما تم التوصل إليه مع كوريا الشمالية لاعتبارات عدة.

تفاهمات بوتين وكيم

وعلى عكس الاتفاق السابق الموقع في عام 2001، بين كوريا الشمالية وروسيا، تضمن الاتفاق الجديد فقرة حول تعهد بالدفاع المشترك بين البلدين، وبذلك عادت تفاهمات بوتين وكيم إلى اتفاق الشراكة الاستراتيجية الموقع بين كوريا الشمالية والاتحاد السوفييتي في عام 1961، في حقبة تصاعد الحرب الباردة (1947 ـ 1991) بين الاتحاد السوفييتي والغرب. وقال بوتين في مستهل مباحثاته في أول زيارة له إلى بيونغ يانغ منذ 24 عاماً، أول من أمس الأربعاء، إن "روسيا تكافح سياسة الهيمنة الإمبريالية التي تحاول واشنطن وتوابعها فرضها". واعتبر بوتين بعد الاجتماع مع كيم أن "اتفاق الشراكة الشاملة يتضمن، من بين أمور أخرى، تقديم المساعدة المتبادلة في حالة العدوان على أحد أطراف هذه الاتفاق". ولم يوضح بوتين، في مؤتمر صحافي بعد توقيع الزعيمين على الاتفاق، ما إذا كانت هذه المساعدة ستتطلب تدخلاً عسكرياً فورياً وكاملاً في حالة وقوع هجوم، كما نصت معاهدة عام 1961 التي لم تعد موجودة الآن، لكنه قال إن روسيا "لا تستبعد تطوير التعاون العسكري الفني" مع كوريا الشمالية، وفقاً للاتفاق الجديد. غير أنّ وكالة الأنباء المركزية الكورية الشمالية الرسمية ذكرت أمس أن المادة الرابعة من الاتفاق نصت على أنه في حالة تعرض إحدى الدولتين للغزو ودفعها إلى حالة الحرب يجب على الدولة الأخرى نشر "جميع الوسائل المتاحة لها من دون تأخير" لتقديم "المساعدة العسكرية وغيرها من المساعدات". ومع عدم نشر النص الكامل للاتفاق الجديد، برزت تساؤلات فيما إذا كان الردع النووي عند كلا البلدين متصلا بالدفاع عن البلد الآخر. وانتقد بوتين التدريبات المشتركة الأخيرة التي ضمت الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان، ووصفها بأنها "عدائية" تجاه كوريا الشمالية، وحمل على سياسة واشنطن "التصادمية" مع بيونغ يانغ.

من غير المرجح دعم موسكو زيادة القدرات النووية لبيونغ يانغ 
 

أما كيم جونغ أون فوصف "التحالف" الجديد، بأنه "لحظة فاصلة في تطور العلاقات الثنائية"، مشيداً بـ"البصيرة المتميزة" لبوتين الذي وصفه بأنه "أعز صديق للشعب الكوري". كما شدد كيم في تصريحاته على ما سماه دور روسيا في دعم الاستقرار الاستراتيجي والتوازن في العالم، وأكد مجدداً دعمه للعمليات الروسية (الغزو الروسي) في أوكرانيا، ورحب بعصر جديد من الازدهار في العلاقات بين موسكو وبيونغ يانغ. وكشفت زيارة بوتين إلى كوريا الشمالية وجملة التصريحات والاتفاقات الموقعة بين البلدين، عن التغيرات الكبيرة في السياسة الروسية في السنوات الأخيرة تجاه كوريا الشمالية، تحديداً منذ بدء الحرب على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022. واختلفت الزيارة الحالية لبوتين جذرياً عن زيارته الأولى في عام 2000 إلى بيونغ يانغ. فالأولى جاءت في ظرف عملت فيه روسيا على التقرّب من الغرب، في محاولة لإيجاد دور في النظام العالمي الناشئ حينها، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، عبر المساعدة في إيجاد حلول للمشكلات والنزاعات، وضمنها تأمين الاستقرار في الجزيرة الكورية. وفي تلك الزيارة عرض بوتين على الكوريين الشماليين عدم تطوير تقنيات الأسلحة الصاروخية في مقابل مساعدة بلاده لهم في أبحاث الفضاء. ولم تمثل نتائج الزيارة الحالية انقلاباً على المواقف الروسية تجاه نظام الحكم في كوريا الشمالية فحسب، بل تغيراً جذرياً في طبيعة علاقة البلدين منذ الحقبة السوفييتية، إذ إنه من المعروف أن كوريا الشمالية لم تكن وجهة لأي من القادة السوفييت، وأن العلاقات بين بيونغ يانغ وموسكو شابها الفتور حتى قبل جمودها عملياً في نهاية الحقبة السوفييتية وهبوب رياح التغيير والبيرسترويكا في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي. كما عاكست تصريحات بوتين السياسة الرسمية الروسية المتبعة بشأن كوريا الشمالية منذ عام 2006، حين وافقت روسيا على فرض عقوبات عليها بسبب برنامجيها الصاروخي والنووي.

أوكرانيا سبب التحول الروسي

وبدا أن الانقلاب الجذري في العلاقات بدأ بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وما دفع إلى تفاهمات بوتين وكيم هو الحاجة المتزايدة إلى استخدام الذخائر ضد أوكرانيا دفعت الرئيس الروسي إلى تعميق علاقاته مع كوريا الشمالية. وعُدّ اتفاق الشراكة الاستراتيجية الشاملة، واحدة من أبرز المكافآت التي انتزعها كيم من موسكو في مقابل تزويدها بالصواريخ الباليستية وأكثر من 11 ألف حاوية شحن من الذخائر، التي قالت واشنطن إن بيونغ يانغ قدمتها في السنتين الأخيرتين لمساعدة روسيا في حربها على أوكرانيا. ومثّل الاتفاق ما وصل إليه الكرملين في دعم كوريا الشمالية بعد سنوات من التعاون مع الولايات المتحدة في الأمم المتحدة في كبح برنامج بيونغ يانغ النووي والصاروخي. ومن بيونغ يانغ ندد بوتين بالولايات المتحدة لتوسيع البنية التحتية العسكرية في المنطقة وتنظيم مناورات مع كوريا الجنوبية واليابان. ورفض ما وصفه بمحاولات إلقاء اللوم في تدهور الوضع الأمني على كوريا الشمالية، وقال بوتين: "لدى بيونغ يانغ الحق في اتخاذ إجراءات معقولة لتعزيز قدرتها الدفاعية، وضمان الأمن القومي وحماية السيادة". كما كشف مقال لبوتين في صحيفة "رودونغ سينمون"، الكورية الشمالية، عشية زيارته إلى بيونغ يانغ، عن بعض الأسباب في انقلاب الموقف الروسي، إذ قال: "نقدر بشدة دعمكم المستمر والثابت للسياسة الروسية، بما في ذلك ما يتعلق بأوكرانيا، في ضوء معركتنا ضد السياسة الإمبريالية التي اتبعتها الولايات المتحدة على مدى عقود فيما يتعلق بالاتحاد الروسي".

وزادت تفاهمات بوتين وكيم في سياق التعهد بالمساعدة المتبادلة من قلق الولايات المتحدة وحلفائها، خصوصاً كوريا الجنوبية، لأن ذلك سيمنح روسيا مزيداً من الدعم في حربها على أوكرانيا، فضلاً عن تقويض الجهود الرامية إلى كبح البرامج النووية والصاروخية لكوريا الشمالية. وفي مقابل حصول بوتين على قذائف مدفعية وصواريخ من كوريا الشمالية للمساعدة في حربه الطويلة في أوكرانيا، تطلع كيم إلى المساعدة الروسية في تخفيف النقص في النفط في بلاده، وتحسين أنظمة الأسلحة، تحديداً الصواريخ العاملة بالوقود الصلب، وضرب محاولات واشنطن لخنق اقتصادها من خلال العقوبات الدولية. وبعيداً عن الدعم الكوري الشمالي لروسيا في حربها على أوكرانيا، بدا أن الإحباطات المشتركة مع الغرب دفعت البلدين إلى التقارب بشكل متسارع بعد الحرب الروسية على أوكرانيا. ومثّل انفتاح بوتين على بيونغ يانغ نقطة تحول رئيسية في نظام العقوبات الدولية ضد كوريا الشمالية، ففي مارس/آذار الماضي، استخدمت روسيا حق النقض (الفيتو) ضد التجديد السنوي للجنة الخبراء التي تراقب تنفيذ عقوبات الأمم المتحدة المفروضة منذ عام 2006 على كوريا الشمالية، بسبب برامجها للأسلحة النووية والصواريخ البالستية، وكانت الصين قد امتنعت عن التصويت.

ستولتنبرغ: القوى الاستبدادية تدعم بعضها بطريقة غير مسبوقة
 

ودعت روسيا حينها القوى الكبرى إلى اتباع نهج جديد تجاه كوريا الشمالية، متهمة الولايات المتحدة وحلفاءها بتصعيد التوترات العسكرية في آسيا. مع ذلك، من غير المرجح بلوغ الدعم الروسي لكوريا الشمالية حدّ زيادة القدرات النووية للأخيرة، خصوصاً في ظل عدم القدرة على تنبؤ ما يمكن أن يقدم عليه كيم جونغ أون. كما أن اعتماد روسيا على القذائف والأسلحة الكورية الشمالية يمكن أن يتراجع مع توقعات بأن يفوق إنتاج روسيا من الذخيرة كل دول حلف شمال الأطلسي "ناتو" الـ32 في العام الحالي. تاريخياً، وازنت روسيا في نهجها تجاه الشمال مع علاقاتها مع كوريا الجنوبية، نظراً للمصالح الاقتصادية. وبانحيازها إلى كوريا الشمالية، من خلال رفع مستوى علاقتها إلى شراكة استراتيجية شاملة، عبر تفاهمات بوتين وكيم تخاطر روسيا بتقويض سياستها القائمة على التوازن الدبلوماسي، وقد تدفع كوريا الجنوبية إلى تزويد أوكرانيا بأسلحة متقدمة، وهو ما بدأت ملامحه تظهر أمس سريعاً، إذ دان المكتب الرئاسي في كوريا الجنوبية تفاهمات بوتين وكيم والاتفاق الذي توصلت إليه روسيا وكوريا الشمالية، معتبراً أن ذلك يشكل تهديداً لأمن كوريا الجنوبية، وحذّر من أنه سيؤثر سلباً على علاقات سيول مع موسكو. كما قال مسؤول في المكتب الرئاسي، الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته خلال تصريحات صحافية توضيحية، وفقاً لقواعد المكتب، إن سيول رداً على ذلك ستعيد النظر في مسألة توفير الأسلحة لكييف لمساعدة البلاد على محاربة الغزو الروسي، حسب ما أوردت وكالة أسوشييتد برس. وكانت كوريا الجنوبية، وهي مصدر متنام للأسلحة، مع امتلاكها جيش جيد التجهيز ومدعوم من الولايات المتحدة، قد قدمت مساعدات إنسانية وأشكال دعم أخرى لأوكرانيا، وشاركت في العقوبات الاقتصادية التي تقودها الولايات المتحدة ضد روسيا. لكن كوريا الجنوبية لم تقدم الأسلحة بشكل مباشر إلى أوكرانيا، مستشهدة بسياسة طويلة الأمد متمحورة حول عدم إمداد الدول المنخرطة في صراعات نشطة بالأسلحة.

تفاهمات بوتين وكيم تثير حفيظة الصين

كما أن الاتفاق الجديد يثير حفيظة الصين التي على الرغم من الصدامات المتزايدة مع الولايات المتحدة بشأن قضايا السياسة الخارجية والتجارة، تراهن على زيادة دورها العالمي ولا ترغب أن تصبح " منبوذة" مثل روسيا وكوريا الشمالية. ولم تغير الصين مواقفها المنتقدة للتجارب النووية والصاروخية الكورية الشمالية. وفي حال حصلت كوريا الشمالية على تكنولوجيا أسلحة أفضل، فإن ذلك يخيف حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وهذا يثير قلق الصين أيضاً، المتوجسة من "حلف شمال الأطلسي في شرق آسيا"، لكنها لا تريد المزيد من الحشود الأميركية، مثل السفن الحربية في هذه المنطقة. القلق من تفاهمات بوتين وكيم لم يقتصر على الصين أو كوريا الجنوبية، إذ أبدت اليابان بدورها، أمس الخميس، قلقها "البالغ" إزاء اتفاق الدفاع المشترك بين كوريا الشمالية وروسيا. وقال المتحدث باسم الحكومة اليابانية يوشيماسا هاياشي في مؤتمر صحافي، إن طوكيو "تشعر بقلق بالغ لأن الرئيس بوتين لم يستبعد التعاون العسكري الفني مع كوريا الشمالية". وأضاف أن هذا النوع من التعاون "قد يشكّل انتهاكاً مباشراً لقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة، لجهة تأثيره على البيئة الأمنية لبلادنا والمنطقة". وشدّد هاياشي على أنه "خلافاً لإرادة المجتمع الدولي، حصلت روسيا على أسلحة وذخائر من كوريا الشمالية، بما في ذلك صواريخ باليستية، واستخدمتها في أوكرانيا، في انتهاك صارخ لقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة". أما الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، فاعتبر أن الاتفاق الدفاعي الجديد بين روسيا وكوريا الشمالية يظهر تنامي التحالف بين القوى الاستبدادية، ويسلط الضوء على أهمية أن تشكل الديمقراطيات جبهة موحدة. ولفت في حلقة نقاشية خلال زيارة رسمية لأوتاوا الكندية، مساء الأربعاء، إلى أن كوريا الشمالية قدمت "كمية هائلة من الذخيرة" لروسيا، بينما تدعم الصين وإيران روسيا عسكرياً في حربها ضد أوكرانيا. وتعليقاً على تفاهمات بوتين وكيم رأى ستولتنبرغ أنه "علينا أن ندرك أن تحالف القوى الاستبدادية يتنامى. إنهم يدعمون بعضهم البعض بطريقة لم نشهدها من قبل". وقال "عندما يتعزز التحالف بين هذه الدول.. أنظمة استبدادية مثل كوريا الشمالية والصين وإيران وروسيا... فمن المهم أن نكون متحالفين في إطار الدول التي تؤمن بالحرية والديمقراطية". وأضاف أن التقارب المتزايد لروسيا مع دول آسيوية أخرى يعني أنه من المهم للغاية أن يعمل حلف شمال الأطلسي مع الحلفاء في منطقة آسيا المحيط الهادئ، مضيفاً أن هذا هو سبب دعوة زعماء أستراليا واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية لحضور قمة للحلف في الولايات المتحدة الشهر المقبل.

المساهمون