مثّلت وفاة صفوت الشريف، الأمين العام الأسبق للحزب الوطني الديمقراطي المنحل ووزير الإعلام ورئيس مجلس الشورى الأسبق في عهد الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، مناسبة جديدة للنظام، عبر أجهزته وأذرعه الإعلامية، لإهالة التراب على ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011، التي تقترب ذكراها العاشرة.
وصدرت تعليمات من المخابرات العامة - وهي الجهة التي كان الشريف ينتمي لها لفترة طويلة من حياته- لوسائل الإعلام المحلية المختلفة بالاحتفاء بالشريف وأسرته، وعدم إبراز ماضيه المليء بوقائع الفساد السياسي والمالي المثبتة بأحكام قضائية. كما تم تشييع جثمانه من مستشفى وادي النيل، التابع للجهاز، والذي قضى فيه الشريف آخر أسبوعين من حياته في العلاج من آثار سرطان الدم، وطرأت عليه أعراض فيروس كورونا.
تضمنت التعليمات التركيز على إنجازات الشريف في مجال الإعلام
وكشف مصدر إعلامي في إحدى المؤسسات المملوكة للمخابرات حالياً، أن التعليمات صدرت عقب وفاة الشريف بنشر أخبار نعيه والعزاء فيه من مؤسسات كبرى تابعة للمخابرات ودائرة الرئيس عبد الفتاح السيسي أيضاً، وعلى رأسها الشركة المتحدة للإنتاج الإعلامي، التي تعتبر الذراع الإعلامية والدعائية الرئيسية للنظام حالياً. كما تضمنت التعليمات التركيز على إنجازات الشريف في مجال الإعلام، ومنها إنشاء مدينة الإنتاج الإعلامي، وعدم نشر أي تفاصيل عن القضايا التي حوكم وسجن بسببها على مدار العقد الماضي.
وعلى الرغم من اتهام الشريف ونجليه إيهاب وأشرف بتحقيق كسب وإثراء غير مشروع في وقائع عديدة، انتهت بإدانته، وهو ضابط المخابرات الأسبق، والحكم بسجنه ثلاث سنوات وغرامة 99 مليون جنيه (نحو 6.3 ملايين دولار)، إلا أن هذا لم يمنع انخراط نجليه إيهاب وأشرف في العديد من المشاريع الإعلامية عقب ثورة يناير، بالشراكة مع شخصيات محسوبة على الجيش والمخابرات، ثم نظام السيسي. ومثلت هذه المشاريع رأس حربة الثورة المضادة والانقلاب على المكتسبات الديمقراطية التي تحققت بين عامي 2011 و2013، خاصة صحيفتي "اليوم السابع" و"الدستور" وبعض القنوات الفضائية، حيث كانا يُمثلان دائماً في معادلة ملكية تلك الوسائل من خلال شخصيات إعلامية معروفة بقربها منهما، مثل سكرتير وزير الثقافة الأسبق محمد فودة، الذي سبق إدانته كوسيط للرشوة واستغلال النفوذ في قضيتين كبيرتين، إحداهما بوزارة الثقافة والأخرى بوزارة الزراعة. وامتدت علاقة نجلي الشريف بأجهزة النظام بسبب عمليات الشراكة المتكررة في وسائل الإعلام على مدار السنوات الخمس الماضية، والتي انتهت بسيطرة المخابرات العامة والأمن الوطني مالياً وإدارياً وتحريرياً على الأغلبية الكاسحة من الصحف والفضائيات.
لكن التركيز على الشريف لا يهدف فقط إلى تكريمه كمنتمٍ إلى المخابرات، أو الوفاء لعلاقة العمل مع نجليه، بل يهدف أيضاً، وبشكل أساسي، إلى منع إثارة الحديث عن مساوئه السياسية والإعلامية التي كانت من العوامل المحركة لغضب المواطنين في ثورة يناير، والتي تتكرر حالياً بأشكال، يراها مراقبون أكثر خطورة على المجال العام والحقوق والحريات، فضلاً عن حرص النظام وأجهزته على منع الاحتفاء بالثورة قبيل ذكراها العاشرة. فقد كان الشريف رمزاً للوفاء لمبارك، والعمل من أجل تأمين مصالحه ومصالح أسرته، وتمهيد الطريق لابنه جمال لتولي رئاسة الجمهورية. وكان مبارك يثق فيه إلى حد جعله على رأس الآلة الإعلامية، التي حاول من خلالها، لثلاثة عقود، التعتيم على خطايا النظام وفساده. فحتى بعد تركه وزارة الإعلام، أسندها إلى أحد المأمونين والمقربين منه، وهو أنس الفقي، بينما استخدمه مبارك في السنوات الأخيرة من حكمه كأمين عام للحزب الحاكم (المنحل)، أدى فيها دور الواجهة لصعود جمال مبارك وأمين السياسات أحمد عز. كما وضعه على رأس مجلس الشورى، الذي كان المنبع الأول للتشريعات سيئة السمعة في ذلك الوقت. كما كان رئيساً للجنة شؤون الأحزاب السياسية التي عملت على قمع الأحزاب الحقيقية ومنع ظهورها، وكانت تسمح بولادة الأحزاب الضعيفة الكارتونية السابحة في فلك النظام. وليس أدل من فداحة أثر الدور الذي لعبه الشريف، وسوء سمعة أعماله في سنوات مبارك، من أن ثورة يناير أدت بعد الإطاحة بالنظام إلى إعادة هيكلة لجنة الأحزاب، ونقل تبعيتها للقضاء، وإشهار معظم الأحزاب التي منعها الشريف، وتقليص اختصاصات مجلس الشورى وإلغائه تماماً في الفترة بين 2013 و2019.
أدت ثورة يناير إلى إشهار معظم الأحزاب التي منعها الشريف
ووفقاً لمصادر قضائية مطلعة، فإن الشريف استفاد كثيراً من علاقاته داخل الدولة، وبصفة خاصة في المخابرات والجيش، لينجو لأكثر من ست سنوات من الملاحقة القضائية على العديد من وقائع الفساد التي اكتشفت بعد الثورة، حيث لم تتمكن جهات التحقيق من إثبات مخالفات كثيرة عليه، بسبب تغييره ملكيتها إلى أبنائه وأزواجهم خلال وقت قياسي، في ظل شبهات تواطؤ جهات عديدة معه لنقل ملكيات العقارات والأسهم في عام 2011 وحتى اعتقاله في إبريل/نيسان. وكانت هذه الشبهات سبباً في تحريك قضية الكسب غير المشروع ضد الشريف ونجليه في أغسطس/آب 2012، علماً أن أحدهما (أشرف) كان هارباً وخاطبت مصر الإنتربول للقبض عليه. وبحسب المصادر القضائية ذاتها، فقد استغل الشريف ونجله علاقاتهما لتأخير صدور تقرير الخبراء في القضية لأكثر من ثلاث سنوات، تغير فيها الوضع السياسي للبلاد. كما حصل خلالها الشريف على براءة نهائية من محكمة النقض من قضية الاعتداء على المتظاهرين المعروفة باسم "موقعة الجمل" وذلك بحكم من النقض في مايو/أيار 2013.
وخلال السنوات التالية، تحركت القضية بالحد الأدنى من الأضرار، بالتوازي مع تقدم الشريف ونجليه بعدة طلبات للتصالح في وقائع الفساد، استغلالاً لتعديلات قانون الكسب التي أصدرها السيسي، وسمحت بإسقاط العقوبة مقابل التصالح المالي. فحصل نجلاه على البراءة، أما هو فحصل على حكم بالسجن ثلاث سنوات من محكمة النقض في سبتمبر/أيلول 2020. وبعد احتساب الفترات السابقة التي قضاها الشريف محبوساً على ذمة مختلف القضايا بعد ثورة يناير، تبين أنه لن يقضي في السجن على ذمة هذه العقوبة أكثر من شهرين، قضاهما بالفعل في سجن طرة، وعاد إلى منزله في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ثم ساءت حالته الصحية ليتوفى أمس الأول.