يسجّل لمحافظة تعز اليمنية أنها كانت السبّاقة في ترتيب صفوف التظاهرات الاحتجاجية واحتضان أول تحركات الثوار ضدّ نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح في العام 2011. ومنذ ذلك التاريخ، ظلّت المدينة الواقعة في الجنوب الغربي لليمن، تدفع الثمن باهظاً وتتعرّض لعقاب قاسٍ من قوات ورّثت الانتقام لمليشيات تحاصر المدينة منذ 6 سنوات، وتمارس هوايتها في إطلاق القذائف فوق رؤوس المدنيين.
وكانت تعز، التي شكّلت منذ عقود، حاضنة للنخب الفكرية والسياسية والثقافية اليمنية، من الشمال والجنوب، نموذجاً مصغراً للمجتمع المدني المتخفف من الظواهر القبلية الطاغية على محافظات يمنية مختلفة. لكن إفراط النظام السابق في استخدام العنف ضدّ سكانها الذين هبّوا في 11 فبراير/شباط 2011 إلى أولى ميادين الثورة، وقدموا تجربة ملهمة لباقي المدن، تحوّل إلى بذرة لعنف طويل الأمد، لا يزال حاضراً إلى اليوم، بعد مرور عقد كامل على ثورات الربيع العربي.
حاول النظام السابق إخماد وهج الثورة سريعاً في تعز
حاول النظام السابق إخماد وهج الثورة سريعاً في تعز. وبعد أسبوع فقط من نصب خيام الثوار في ساحة الحرية، كان مازن البذيجي، يسقط كأول ضحايا الثورة الشبابية في المدينة، عندما دفع نظام صالح، في 18 فبراير 2011، بعصابات مسلحة ألقت قنبلة يدوية على متظاهرين في الميدان، أسفرت أيضاً عن جرح 87 شخصاً، وفقاً لإحصائيات وثقتها حينذاك تقارير حقوقية دولية.
ولا تزال ذاكرة أبناء تعز محفورة بالعشرات من المجازر والانتهاكات التي نفذها النظام السابق. ويكشف الهجوم المروّع الذي تعرضت له ساحة الحرية، في 29 مايو/أيار 2011، حجم الحقد على الانتفاضة، إذ داهمت وقتها قوات صالح برفقة عصابات مسلحة، معقل الثوار في الساحة، وقامت بحرق الخيام وهدمها بالجرافات. كما لم تتورع عن مداهمة مستشفى ميداني وآخر خاص كان يضم عشرات المصابين. وأدى ذلك الهجوم إلى مقتل 22 مدنياً وإصابة أكثر من 260 آخرين. ويحرص ثوار تعز إلى الآن، على تذكّر هؤلاء الضحايا بإضاءة الشموع عشية ذكرى المجزرة كل عام.
وفي 15 يوليو/تموز 2011، قتل ثلاثة مدنيين وأصيب 18 آخرون، أغلبهم من الأطفال في قصف استهدف حي المسبح في تعز. وبعدها بأشهر، وتحديداً في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، قتل 14 مدنياً بينهم 3 متظاهرات، جراء قصف استهدف مسيرة ومصلى النساء في ساحة الحرية، ومتجراً في شارع جمال عبد الناصر وسط المدينة.
من جانبها، وثَقت منظمات دولية سقوط أكثر من 150 قتيلاً منذ فبراير وحتى ديسمبر/كانون الأول 2011، بنيران قوات صالح حينذاك، فيما تقول منظمات حقوقية وجهات حكومية يمنية إنّ الرقم أعلى من ذلك بكثير.
لا تزال ذاكرة أبناء تعز محفورة بالعشرات من المجازر والانتهاكات التي نفذها النظام السابق
ويؤكد ناشطون أنّ تعز نالت النصيب الأوسع من انتهاكات حقوق الإنسان، سواء تلك التي ارتكبتها قوات النظام السابق في العام 2011، أو بعد شراكتها مع الحوثيين في اجتياح المدينة في مارس/آذار 2015، وتكرار الهجمات المميتة نفسها، ولكن بشكل أبشع من ذي قبل.
وفي السياق، اعتبرت الحقوقية اليمنية، إشراق المقطري، أنّ "العقاب الأكبر لمحافظة تعز كان في الاستهداف المباشر للسكان، عندما كانت ساحة الحرية عرضة للقصف المدفعي من المناطق المحيطة بها، التي كانت تسيطر عليها قوات النظام الحاكم حينها"، مشيرةً إلى أنه "بسبب ذلك سقط عدد من القتلى والمصابين، ولا سيما في هجومي 29 مايو و11 نوفمبر عام 2011".
وقالت المقطري، وهي عضو اللجنة الوطنية للتحقيق في انتهاكات الحرب، في حديث مع "العربي الجديد"، إنه "على الرغم من محاولة سكان تعز تطبيع الحياة بعد الفترة الانتقالية في 2012، إلا أنّ الانتقام عاد بشدة عندما حاول تحالف الحوثيين - صالح إخضاع المحافظة بالقوة للانقلاب. ومنذ مارس 2015 وإلى اليوم، يخضع سكان تعز لعقاب جماعي وحصار وقتل وقصف يومي". وأضافت "خلال السنوات الست الأخيرة، قتل الآلاف من أبناء تعز، وكانت مديرية صالة ثمّ مديرية المظفر تليهما مديريات صبر الموادم وجبل حبشي والمخا المناطق الأكثر تعرضاً للقصف وسقوط الضحايا. كما أنّ تعز هي الأعلى في عدد المعتقلين من المدنيين لدى جماعة الحوثيين والمحتجزين في سجونها غير القانونية".
وتسلّمت مليشيا الحوثيين راية العنف خلال الحرب الحالية، من قوات الحرس الجمهوري، واعتلت التلال الجبلية المطلة على مركز المدينة، وأمعنت في إمطار الأحياء السكنية بقذائف المدفعية والهاون العشوائية، وهذه المرة لأنّ تعز قالت أيضاً "لا للانقلاب".
في الوقت الراهن، تعيش مدينة تعز، التي تحتضن أكثر من 500 ألف نسمة، تحت وطأة حصار خانق يفرضه الحوثيون على المنافذ الرئيسية؛ شرقاً وشمالاً وغرباً، فيما بات المنفذ الجنوبي الغربي عبر مدينة التربة، هو الشريان الوحيد لسكان المدينة صوب العاصمة المؤقتة عدن.
رفض الحوثيون المبادرات الأممية والوساطات كافة التي قادتها وجاهات اجتماعية من أجل رفع الحصار عن تعز، ولو جزئياً بفتح المنفذ الشرقي الذي يربط المدينة مع العاصمة صنعاء. وعوضاً عن ذلك، تقوم باختطاف القادمين من مناطق الحكومة اليمنية وتزجّ بهم في مدينة سكنية بمنطقة الحوبان، تمّ تحويلها إلى معتقلات جماعية. ووفقاً لشهادات سكان تحدثوا لـ"العربي الجديد"، يحتاج سكان تعز الراغبون بالانتقال من مركز مدينة تعز، حيث مناطق الحكومة الشرعية، إلى منطقة الحوبان في المنفذ الشرقي الخاضع للحوثيين، إلى أكثر من 5 ساعات، يقطعون فيها طرقات جبلية وعرة وشديدة الخطورة، بعد أن كانت الفترة الزمنية لا تتجاوز 20 دقيقة قبل تشديد الحصار.
وأدى الحصار الحوثي إلى عزوف سكان مدينة تعز عن زيارة أقاربهم الذين يقطنون في منطقة الحوبان شرقاً أو في العاصمة صنعاء، وذلك جراء المخاطر الكبيرة التي تواجههم، فضلاً عن إمكانية تعرضهم للاعتقال على حواجز التفتيش الحوثية.
وسقط في تعز آلاف القتلى والجرحى من المدنيين خلال الأعوام العشرة الماضية، وذلك بنيران قوات صالح ومن بعدهم الحوثيين. ووفقاً لمنظمات رصد حقوقية، فإنّ فاتورة الحرية التي دفعتها المدينة، هي العليا من بين المدن اليمنية، خصوصاً أنها ما زالت مسرحاً دائماً للعنف المتصاعد.
وفي السياق، قال الناشط الحقوقي، رياض الدبعي، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ مدينة تعز "تعرّضت خلال العقد الماضي لإرهاب مكتمل، وقتل وأصيب آلاف المدنيين بالقذائف والقنص، وشُرّد مئات الآلاف، فيما حوصر من تبقى من المدنيين، وتم حرمانهم من الاحتياجات الأساسية"، مضيفاً أنّ "الحصار هو أبشع أنواع الجرائم".
زخم الثورة في تعز لم يمت بشكل كلي بعد مرور 10 أعوام على انتفاضة 11 فبراير
وعلى الرغم من الإمعان الحوثي في محاولة كسر تعز وإرهاب سكانها بجعل الأحياء السكنية كافة تحت رحمة القذائف الآتية من التلال الجبلية شرقاً، إلا أنّ زخم الثورة لم يمت بشكل كلي بعد مرور 10 أعوام على انتفاضة 11 فبراير، على الرغم من انخراط المئات من شباب الثورة في جبهات القتال، للدفاع عن مدينتهم من الاجتياح الحوثي، باعتبار ذلك استكمالاً لما بدأوه من نضال سلمي.
وباعتبارها مهد الثورة، تشهد تعز عشية 11 فبراير من كل عام، احتفالات شعبية وإطلاق الألعاب النارية من قلعة القاهرة التاريخية. كما يحرص شبابها على تنظيم مسيرات حاشدة وعروض كرنفالية بمناسبة ذكرى الثورة الشعبية، تنطلق من وسط المدينة إلى ساحة الحرية.
وتحتفظ ساحة الحرية بموقعها كقبلة دائمة لكافة المسيرات الاحتجاجية الشعبية؛ سواء تلك المنددة بالانتهاكات الحوثية، أو للمطالبة بإصلاحات حكومية للأوضاع المعيشية. إذ تشكّل الساحة، نقطة النهاية لمعظم المسيرات التي تنطلق غالباً من شارع جمال عبد الناصر وسط المدينة، وتستقرّ في ميدان الحرية الذي احتضن أول خيام الثوار في 2011.
وبعيداً عن المسيرات المرتبطة بالمناسبات، احتفظت ساحة الحرية بنوع من الوهج الثوري، وذلك كملتقى أسبوعي يؤدي فيه المئات من سكان المدينة صلاة الجمعة، وممارسة الطقوس نفسها التي كانت تتم قبل 10 سنوات، عند انطلاق ثورة 11 فبراير، حيث يقفون في صفوف منسقة ويرفعون لافتات موحدة تعبّر في الغالب عن موقف سياسي مؤيد للحكومة الشرعية، أو مندد بالحوثيين بدرجة رئيسية.
وفيما يؤكد ناشطون أنّ ساحة الحرية ما زالت أيقونة لكل الثوار، ولم تتحول إلى مجرد ذكرى من الماضي، يقول البعض الآخر ممن شاركوا في احتجاجات 11 فبراير، إنّ الميدان تحوّل في الوقت الراهن إلى مجرّد مكان لأداء صلاة الجمعة، وإنّ المواقف التي تصدر منه، تعبّر فقط عن حزب "التجمع اليمني للإصلاح" الإسلامي، وليس عن كافة مكونات تعز وشبابها الثوري، إذ يستغل الحزب الساحة لتمرير رسائل سياسية ضد "الشرعية" أو لدول "التحالف العربي" الذي تقوده السعودية.
وفي هذا الإطار، قال الصحافي اليمني، محمد السامعي، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ تعز "ما زالت رائدة في الحراك الشعبي منذ عشر سنوات، ولا وجود لزخم ثوري حقيقي في اليمن في هذه المرحلة، سوى في مدينة تعز، فهي الوحيدة التي تعبّر عن سخطها بكل حرية ومن دون تحفظات، وتقول كلمة لا لجميع الأطراف المتحاربة من دون أدنى خشية". وأضاف: "مساحة الحرية في تعز ما زالت واسعة، والاحتجاجات مستمرة بشكل أسبوعي، وأحياناً بشكل شبه يومي، ما يوحي بأنّ المدينة تأبى أن تهادن أي طرف لا يعمل من أجل اليمن".