تعديل العقيدة النووية الروسية... غموض متعمّد لإخافة الغرب

12 أكتوبر 2024
بوتين داخل المعهد المشترك للأبحاث النووية، موسكو، يونيو 2024 (ألكسندر كازاكزف/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- روسيا تعدل عقيدتها النووية لتوسيع نطاق الردع ليشمل دولاً وأحلافاً جديدة، مع التركيز على تحييد التهديدات العسكرية، في ظل رفض الغرب السماح لأوكرانيا باستخدام أسلحة بعيدة المدى ضدها.
- العقيدة النووية الروسية تظل دفاعية دون إدراج ضربات استباقية، مما يثير تساؤلات حول فعاليتها في ردع الغرب، مع غموض متعمد يترك مجالاً للتفسير بناءً على رؤية القيادة السياسية.
- المسؤولون الروس يحافظون على الغموض بشأن استخدام السلاح النووي، مع استعداد لمواجهة طويلة الأجل مع الغرب وتوجيه رسائل إنذارية للولايات المتحدة.

مع ترقب العالم إعلان موسكو إتمام تعديل العقيدة النووية الروسية وخفض عتبة استخدام السلاح النووي، ثمة مؤشرات تظهر تزايداً في ترسخ الثقة لدى العالم بأن روسيا مستعدة لتخطي "الخط" والضغط على الزناد، بعد اقتراح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، توسيع حالات استخدام السلاح النووي، وسط عزوف الغرب عن السماح لأوكرانيا باستخدام أسلحته بعيدة المدى لضرب العمق الروسي. وفي وقت ما تزال فيه وثيقة "أساسيات سياسة الدولة في مجال الردع النووي" (التسمية الرسمية للعقيدة النووية الروسية) حيز الإعداد، تسري حالياً النسخة الأخيرة منها والمعدلة في عام 2020. يأتي ذلك وسط مخالفة بوتين التوقعات بالإبقاء على اللجوء إلى السلاح النووي بمثابة الخيار الأخير، حاسماً الجدل الداخلي الروسي على ضوء دعوات منظرين روس إلى اتخاذ خطوات "تقنع" الغرب باستعداد موسكو لاستخدام السلاح النووي، وحتى إدراج إمكانية شن ضربة استباقية على العقيدة النووية الروسية.

وكان بوتين قد أعلن خلال اجتماع اللجنة الدائمة للردع النووي التابعة لمجلس الأمن الروسي في 25 سبتمبر/ أيلول الماضي إدخال عدد من التعديلات على شروط استخدام السلاح النووي، من شأنها توسيع قائمة الدول والأحلاف العسكرية التي تُردع نووياً، وإكمال قائمة التهديدات العسكرية الجارية "فعاليات الردع النووي" من أجل تحييدها. وتحدّد العقيدة النووية الروسية بنسختها الحالية المراد تعديلها أربعة شروط لاستخدام السلاح النووي. الشرط الأول، ورود معلومات موثوق بها بانطلاق صواريخ باليستية لمهاجمة أراضي روسيا أو حلفائها، والشرط الثاني هو استخدام العدو سلاحاً نووياً أو غيره من أسلحة الدمار الشامل بحق روسيا أو حلفائها. والشرط الثالث، هو مهاجمة العدو منشآت حكومية أو عسكرية روسية حيوية بهدف تعطيل ردة فعل القوات النووية الروسية. أما الشرط الرابع فهو تعرّض روسيا لهجوم بأسلحة تقليدية يهدد وجود الدولة بحد ذاتها.

وتتعلق أبرز بنود العقيدة النووية المعدلة برفع "الحصانة" عن القوى غير النووية في حالة اعتدت على روسيا بدعم من قوة نووية أو بمشاركتها، بما يطبق نظرياً على الهجوم الأوكراني، الذي تشنّه كييف منذ أغسطس/ آب الماضي، على مقاطعة كورسك الحدودية أو أي هجمات أوكرانية على منشآت حيوية روسية باستخدام الأسلحة الغربية. كذلك يتم توسيع نطاق مفعول المظلة النووية الروسية على مستوى دولة الاتحاد مع بيلاروسيا والتي يرجح أن موسكو نشرت عدداً من القطع من أسلحتها النووية التكتيكية على أراضيها في العام الماضي، وقد شاركت مينسك في الصيف الماضي في تدريبات مشتركة مع موسكو على الاستعداد لاستخدام السلاح النووي غير الاستراتيجي.

بقاء الطابع الدفاعي في العقيدة النووية الروسية

يأسف الخبير في مركز بحوث قضايا الأمن التابع لأكاديمية العلوم الروسية، قسطنطين بلوخين، لعدم إدراج إمكانية شن ضربة نووية استباقية كأداة للضغط النفسي ضمن العقيدة المعدلة، معتبراً أن الزمن وحده كفيل بالكشف عما إذا كانت النسخة الجديدة من العقيدة النووية الروسية ستقنع الغرب بجدية "الخطوط الحمر" الروسية. ويقول بلوخين في حديث لـ"العربي الجديد"، إنه "للأسف، تم الإبقاء على الطابع الدفاعي للعقيدة من دون إدراج إمكانية شن ضربة نووية استباقية على عقيدتنا النووية على غرار العقيدة النووية الأميركية، إذ لا تريد موسكو، على ما يبدو، أن تظهر في عيون العالم بنفس صورة الولايات المتحدة التي يراها العالم أجمع، لا سيما دول الجنوب العالمي، دولة عدوانية". وفي معرض إجابته عن سؤال حول ما إذا كانت العقيدة المعدلة ستؤدي مهام الردع، يعتبر بلوخين أن "الزمن وحده سيحكم إلى أي مدى ستؤدي العقيدة المعدلة مهمة الردع وما إذا كان الغرب استوعب التحذيرات الروسية". ويوضح أنه "حتى الآن، ترفض الدول الغربية إعطاء الضوء الأخضر لأوكرانيا لضرب العمق الروسي بأسلحته بعيدة المدى، ولكنها قد توافق على ذلك لاحقاً مثلما قررت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، تسليم أوكرانيا صواريخ هيمارس ودبابات أبرامز ومقاتلات أف-16 بعد تردد طويل".

قسطنطين بلوخين: الزمن وحده سيحكم إلى أي مدى ستؤدي العقيدة النووية الروسية المعدلة مهمة الردع 
 

ورغم أن العقيدة النووية الروسية المعدلة تنصّ على الحالات العامة لاستخدام السلاح النووي، إلا أن بلوخين يقر بأنها تترك مجالاً واسعاً لتفسيرها، قائلاً إن تفسير هذه العقيدة يعتمد "على رؤية القيادة السياسية الروسية، إذ ثمة من يرى أن الهجمات على قاعدة إنغيلس الجوية المحتضنة لقاذفات استراتيجية روسية في نهاية عام 2022 تقع تحت مفعول العقيدة النووية حتى بنسختها قبل التعديل، ولكن لم تُفعّل". وبرأيه فإنه "بأي حال من الأحوال لن تطبق أحكام العقيدة النووية رداً على أعمال ما تلقائياً، وإلا لكان يمكن إسناد اتخاذ القرار إلى الذكاء الاصطناعي". وكان مطار إنغيلس العسكري الواقع في مقاطعة ساراتوف جنوبي روسيا، والذي يحتضن قاذفات "تو-160" الاستراتيجية الملقبة بـ"البجعة البيضاء"، قد تعرّض في ديسمبر/كانون الأول 2022 لهجومين أوكرانيين باستخدام مسيّرات أسفر عن مقتل بضعة عسكريين روس.

من جهته، يقرّ الباحث بمركز الأمن الدولي بمعهد "بريماكوف" للاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية التابع لأكاديمية العلوم الروسية دميتري ستيفانوفيتش هو الآخر بأن حالات تفعيل العقيدة النووية الروسية المعدلة تتسم بدرجة عالية من الغموض، معتبراً، في حوار مع برنامج المراجعة الدولية المذاع على قناة روسيا 24 الحكومية الروسية، في الوقت نفسه أن هذا الأمر طبيعي في ظل اعتماد القوى العظمى الأخرى باستثناء الصين، صيغاً حتى أكثر ضبابية. وبحسب ستيفانوفيتش، فإنه "لا مجال للحديث عن أي معايير دقيقة، وحالة روسيا ليست فريدة من نوعها من هذه الجهة. تتضمّن العقائد النووية لدول أخرى مفاهيم من قبيل الظروف الطارئة والمصالح الحيوية التي لا يذكرها أحد على وجه الدقة. العقائد النووية الأميركية والبريطانية والفرنسية حتى أكثر ضبابية". وبرأيه فإن الصين هي القوى العظمى الوحيدة التي وضعت على عاتقها الالتزام بعدم استخدام السلاح النووي إلا رداً على ضربة نووية، مضيفاً أن "ثمة حالة استثنائية متمثلة بالصين التي تقول صراحة إنها لن يكون لها السبق باستخدام السلاح النووي. لكن من جانب آخر، فإن الصين تتسم بدرجة عالية من الغموض والانغلاق وانعدام الشفافية في شتى المجالات المتعلقة بالسلاح النووي، وربما لا تنافسها في ذلك سوى إسرائيل".

غموض مقصود؟

بموازاة ذلك، تعمّد كبار المسؤولين الروس بعد الإعلان عن تعديل العقيدة النووية، الإبقاء على حالة من الغموض حول الحالات التي قد يستخدم فيها السلاح النووي، إذ أوضح الناطق الرسمي باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، في حديث مع الإعلامي المقرب من الكرملين، بافيل زاروبين، نهاية الشهر الماضي، أن التعديلات المدرجة على العقيدة النووية الروسية ضرورية نظراً لتغير الوضع الدولي و"تنامي التوتر" على الحدود الروسية. وقال إنه "في الواقع، بدأت قوى نووية بالمشاركة في النزاع دعماً لأوكرانيا"، مشيراً إلى أن اقتراب البنية التحتية العسكرية التابعة لحلف (شمال الأطلسي) ناتو من الحدود الروسية وتطورات الوضع "تتطلب تحريراً إضافياً وتقنيناً للظروف الجديدة". واعتبر في الوقت نفسه أن "الرؤوس العاقلة" في الغرب تلقت الإشارة، بينما "تواصل الرؤوس الساخنة انتهاج سياسات قد تكون لها تداعيات سلبية للغاية على الجميع". ومع ذلك، أحال السؤال المباشر حول اللحظة التي قد يستخدم فيها السلاح النووي إلى العسكريين، لافتاً إلى أنهم "يتابعون عن كثب ما هي الأسلحة المستخدمة تحديداً وكيف تستخدم، ويرصدون الضلوع المباشر لبلدان الغرب الجماعي في النزاع حول أوكرانيا".

تعمّد كبار المسؤولين الروس الإبقاء على حالة من الغموض حول الحالات التي قد يستخدم فيها السلاح النووي

من جهة أخرى، لم يستبعد رئيس لجنة الدفاع بمجلس الدوما (النواب) الروسي، أندريه كارتابولوف، أن يشكل السماح لكييف بشن ضربات على العمق الروسي بواسطة أسلحة بعيدة المدى ذريعة لاستخدام السلاح النووي بموجب العقيدة النووية الروسية المعدلة. وقال كارتابولوف لوكالة نوفوستي الحكومية الروسية، أخيراً: "قد يصبح ذلك مسوغاً، ولكن القرار سيتخذه القائد العام"، أي بوتين. وأشار إلى أن هناك عوامل كثيرة تتطلب تقييماً، ولذلك لا يمكن الجزم بإمكانية استخدام السلاح النووي أو استبعاده، مضيفاً أنه لذلك "شعر شركاؤنا الغربيون السابقون بالتوتر، لأن هذه الحجة جادة".

بدوره، أكد نائب وزير الخارجية الروسي المعني بقضايا العلاقات مع الولايات المتحدة ومنع الانتشار والرقابة على الأسلحة، سيرغي ريابكوف، أن روسيا تستعد للمواجهة طويلة الأجل مع الغرب، قائلاً في تصريحات صحافية في ختام اجتماع كتلة حزب "روسيا الموحدة" الحاكم، مطلع أكتوبر/تشرين الأول الجاري: "تبادلنا الآراء حول آفاق تحسين العلاقات، بما في ذلك على ضوء الانتخابات المرتقبة في الولايات المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني". وأوضح أنه "يجب ألا نتوهّم نظراً لإجماع الحزبين (الديمقراطي والجمهوري) في الولايات المتحدة على معاداة روسيا. يجب أن نستعد للمواجهة طويلة الأجل مع هذا البلد، ونحن مستعدون لذلك من كافة النواحي". وأضاف أن موسكو تصدر "كافة الرسائل الإنذارية إلى خصمنا حتى لا يقلل من أهمية حزمنا"، متوعداً بأن خطط الولايات المتحدة إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا "لن تتحقق"، دون الإشارة صراحة إلى ما إذا كان تعديل العقيدة النووية الروسية هو المقصود بالرسائل الإنذارية.

المساهمون