تتسارع خطوات النظام المصري للتعجيل بالتخلي عن أصول الدولة بدعوى استثمارها وتعظيم عوائدها، بعد التعديلات الأخيرة التي طاولت قانون "صندوق مصر السيادي"، التي أصدرها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وفقاً للقانون 197 لسنة 2020، في نهاية شهر سبتمبر/أيلول الماضي. وعززت التعديلات قراره الصادر في 3 سبتمبر الماضي، بنقل مجموعة من الأراضي والعقارات الشاسعة من ملكية الدولة إلى الملكية الخاصة بـ"صندوق مصر السيادي"، لتمكينه من استغلالها والتربح منها والشراكة مع المستثمرين والصناديق الاستثمارية الأخرى فيها. وتضمنت العقارات المنقولة ملكيتها: أرض ومبنى مجمع التحرير بميدان التحرير بوسط القاهرة، وأرض الحزب الوطني الحاكم سابقاً على كورنيش النيل بجانب المتحف المصري القديم في ميدان التحرير، وأرض ومباني الديوان العام القديم لوزارة الداخلية بالقرب من ميدان التحرير، وأرض ومباني المدينتين الاستكشافية والكونية بمدينة السادس من أكتوبر، وأرض ومباني ملحق معهد ناصر الطبي بشبرا مصر على النيل، وأرض حديقة الأندلس بطنطا.
يحق لـ"صندوق مصر السيادي" التصرف في مجموعة واسعة من الكيانات الاقتصادية
وبدأت الحكومة المصرية إعداد التعديلات التي أصدرها الرئيس المصري أخيراً بعد شهر واحد من إطلاقه مع ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، ما وُصف بـ"منصّة استثمارية استراتيجية مشتركة" في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، بقيمة 20 مليار دولار، مناصفة عبر شركة "أبوظبي التنموية القابضة" و"صندوق مصر السيادي".
وبعد عملية الإطلاق مباشرة، ذكرت وزيرة التخطيط المصرية هالة السعيد، أن نسب المساهمة في المنصة ستتوزع بواقع 50 في المائة لكل طرف، على أن تسهم مصر بأصول عينية، تعادل 10 مليارات دولار (نحو 160 مليار جنيه). في المقابل، توفّر شركة "أبوظبي التنموية القابضة"، ممثلة عن الجانب الإماراتي، سيولة مالية بنفس القيمة، إلا إذا تم الاتفاق على خلاف ذلك، على أن تتضمن المرحلة الأولى إنشاء ثلاثة صناديق فرعية في مجالات الصناعة الزراعية والقطاعات المالية والسياحة. وتتراوح مدة الاتفاق بين 7 و10 سنوات.
وبعد التعديلات يحق لـ"صندوق مصر السيادي" التصرف في مجموعة واسعة من الكيانات الاقتصادية التي تساهم فيها الدولة المصرية، من خلال جهاتها التنفيذية أو شركاتها القابضة والتابعة ومؤسساتها، وحتى الجيش والمخابرات والأجهزة السيادية والأمنية الأخرى، التي دخلت سوق الاستثمار بكثافة في عهد السيسي. مع العلم أنه منذ عامين كان يقتصر قانون الصندوق في تعامله على إعطاء الحق لرئيس الجمهورية، بناء على عرض رئيس الوزراء والوزير المختص، نقل ملكية أي من الأصول غير المستغلة أو المستغلة، شرط الاتفاق مع وزير المالية والوزير المختص، المملوكة للدولة ملكية خاصة أو للجهات التابعة لها، إلى الصندوق، مما يفتح الباب بشكل تلقائي لخصخصة آلاف الكيانات الحكومية.
وتم تعديل المادة الثالثة من القانون بحجة التوسع في أهداف صندوق مصر للمساهمة في "التنمية الاقتصادية المستدامة". وباتت المادة كالتالي: "إدارة أمواله وأصوله أو الجهات والكيانات المملوكة للدولة أو الجهات التابعة لها أو الشركات المملوكة للدولة أو تساهم فيها، متى عهدت تلك الجهات إلى الصندوق بإدارة تلك الأموال والأصول لتحقيق الاستغلال الأمثل لها، وفقاً لأفضل المعايير والقواعد الدولية، والضوابط المنصوص عليها في النظام الأساسي للصندوق، على أن يكون للصندوق في سبيل ذلك التعاون والمشاركة مع الصناديق العربية والأجنبية النظيرة والمؤسسات المالية المختلفة".
تسمح التعديلات للنظام بسرعة التصرف تحت غطاء قانوني في الأصول المملوكة للدولة
ويسمح النص الجديد للنظام بسرعة التصرف تحت غطاء قانوني في الأصول المملوكة للدولة، سواء بنقلها لحيّز ملكية الصندوق السيادي ومن ثم التصرف فيها لحسابه، أو بالتصرف فيها مباشرة للمستثمرين الأشخاص أو الشركات. وسيتكامل لاحقاً هذا النص مع التعديلات الجديدة المقرر إدخالها على قانوني قطاع الأعمال العام والتعاقدات الحكومية لإتمام هذه المنظومة، والتي تفرّغ إجراءات تقييم وبيع أملاك الدولة من الشفافية والقواعد المعيارية التي سبق وضعها، لضمان سرعة التصرف في أملاك الدولة، والتخفيف من القيود أيا كانت درجتها. وتجيز أيضاً للجهات الإدارية، بموافقة الوزير أو المحافظ المختص، تقييم الأصول العقارية المملوكة لها بمعرفة ثلاثة مقيمين عقاريين من المقيدين بالهيئة العامة للرقابة المالية، أو المعتمدين لدى البنك المركزي. ويُعدّ متوسط هذه التقييمات الثلاثة هو القيمة المرجحة لهذه الأصول، مع تعطيل المادة 15 من قانون التعاقدات الحكومية، التي كانت تلزم الوزير أو المحافظ عند رغبته في تقييم العملية أو العقار محل التعاقد، سواء بالبيع أو الإيجار أو منح حق الانتفاع، وذلك عبر تشكيل لجنة من الخبراء، تعمل على تحديد القيمة التقديرية أو الثمن الأساسي للعملية، من خلال دراسة السوق والتعاقدات السابقة لنفس الجهة وغيرها من الجهات، وذلك كله قبل البدء في اتخاذ إجراءات الطرح.
وإلى جانب توسيع وتمدد الصندوق السيادي ليشمل الشركات التي تساهم الدولة فيها، تضمنت التعديلات استجابة مباشرة لطلب إماراتي، سبق لـ"العربي الجديد" أن كشفته في تقرير لها مطلع العام الحالي بعد إعداد المسودة الأولى للتعديلات، بعدم الاعتماد على هيئة الخدمات الحكومية المصرية التابعة لوزارة المالية بإجراء عملية تقييم الأصول "نظراً للمبالغة أحياناً في تقديرها" بحسب مصدر حكومي مطلع. بالتالي تمّت إضافة نص إلى المادة الثامنة من القانون، يجيز لمجلس إدارة الصندوق إسناد عملية "تقييم الأصول في دفاتر الصندوق إلى أحد بيوت الخبرة العالمية، في الأحوال التي تقتضي ذلك"، مما يرجح أن يكون هذا الإجراء بناء على طلب الطرف الثاني المتعاقد في الصندوق أو المستثمر فيه.
وفي إطار محاولات اجتذاب أكبر قدر من الاستثمارات بتسهيلات غير مسبوقة، قال المصدر الحكومي، إن الإمارات كانت قد طلبت بوضوح إعفاءً ضريبياً كاملاً لعمليات الاستحواذ والشراء والبيع من خلال الصندوق، لكن الحكومة المصرية وبعد مفاوضات مطولة اكتفت بإقرار تسهيل استثنائي عن القوانين الضريبية، أضيف بفقرة جديدة إلى المادة 19 من القانون. وتنصّ الفقرة على رد الضريبة على القيمة المضافة التي تسدد من الصناديق الفرعية، أو الشركات التي يساهم فيها الصندوق بنسبة تزيد على 50 في المائة من رأسمالها، في حدود نسبة مشاركة الصندوق فيها. مع العلم أنه عند صدور القانون كان يعفي من الضريبة العمليات بين الصندوق والصناديق الفرعية فقط، ولم يكن يعفي الصناديق الفرعية والشركات التي يساهم فيها الصندوق من جميع الضرائب والرسوم، باستثناء توزيع الأرباح، فضلاً عن استحداث الإعفاء من رسوم الشهر العقاري لعمليات نقل الكيانات للصندوق.
الإمارات كانت قد طلبت بوضوح إعفاءً ضريبياً كاملاً لعمليات الاستحواذ والشراء والبيع
وهناك تعديل آخر تضمنه القانون الجديد كان قد أثار جدلاً وقت اقتراحه نهاية العام الماضي، لكن مجلس النواب الموالي للسلطة مرره من دون أي معارضة. ويتعلق التعديل بتحصين جميع التعاملات على أملاك الصندوق، واقتصار الطعن في قرارات رئيس الجمهورية بنقل ملكية الأصول إلى الصندوق، أو الإجراءات التي اتُخذت بناء على ذلك من الجهة المالكة، ومنع رفع دعاوى بطلان العقود إلا من أطراف التعاقد دون غيرهم. وأيضاً تم استحداث المادة السادسة مكرراً والسادسة مكرراً "أ" اللتين تتفقان في مجموعهما مع فكرة تحصين العقود الإدارية، كما نص عليها القانون 32 لسنة 2014، الذي كانت فكرة إماراتية بحتة، مع إعلان المستثمرين الإماراتيين عنها قبل مناقشتها في مجلس الوزراء المصري وإصدارها بواسطة الرئيس المؤقت آنذاك عدلي منصور.
وكانت حجة المستثمرين الإماراتيين وقتها خشيتهم من استمرار إصدار أحكام بطلان العقود من القضاء الإداري، لكن هذه المرة، تكرر دولة السيسي هذا التنظيم الذي يحمي الفساد، من منطلق "تشجيع الاستثمار الأجنبي" بحسب مصدر حكومي. وأضاف أن "فكرة تحصين العقود باتت من أولويات أي مستثمر أجنبي في مصر، بسبب التنازل السابق عن حق القضاء في الرقابة عليها".
ووفقاً لنص القانون الذي أصدره السيسي، ونُشر في الجريدة الرسمية يوم الأربعاء الماضي، فإنه يتوجب على المحاكم من تلقاء نفسها عدم قبول الطعون أو الدعاوى المتعلقة بتلك المنازعات، طالما أتت من أشخاص غير متعاقدين، سواء كانوا من العاملين في الكيانات التي سيتم بيعها أو استثمارها، أو حتى من الكيانات المنافسة.
واللافت في هذا الإطار أن تقرير اللجنة المختصة بمجلس النواب عن إضافة هذه المادة، لم يتطرق من قريب أو بعيد إلى مناقشة أسباب وآثار هذا التحصين، بل اكتفى بالإشارة إلى استحداث إشهار قرارات رئيس الجمهورية بنقل ملكية الأصول العقارية إلى ملكية صندوق مصر بطريق الإيداع في الشهر العقاري، وبغير رسوم، وأن يترتب على هذا الإيداع آثار الشهر القانونية.
ويسمح قانون "صندوق مصر السيادي" باستغلال واستثمار وبيع الأملاك العامة، المفترض دستورياً أن تديرها الدولة نيابة عن الشعب، بحجة أن تلك الأملاك هي أصول غير مستغلة، وأن الدولة عاجزة عن استغلالها بالصورة المثلى. وسيتم نقلها بعد تطبيق القانون عليها بقرار جمهوري من حيّز الملكية العامة إلى الحيّز الخاص، وستضفي عليها صفة أنها من أملاك الدولة الخاصة. ما يعني أن حصيلة استغلال تلك الأملاك لن تخصص للمنفعة العامة، بل سيعاد تدويرها واستغلالها في أنشطة الصندوق الأخرى التي ستمارس بمعزل تام عن الأجهزة الرقابية.
وبحسب تقارير سابقة لهيئات محاسبة، فإن من بين الأصول التي من الممكن التصرف بها الآن، الأراضي المملوكة لشركات "الحديد والصلب المصرية" (بقيمة 500 مليون جنيه، نحو 32 مليون دولار)، و"النصر لصناعة الكوك (الفحم)"، و"النصر لصناعة المطروقات"، و"الأهلية للإسمنت في أبوزعبل"، و"المصرية للجبسيات"، و"القابضة للغزل والنسيج" وشركاتها في المحافظات، و"القابضة للنقل البحري والبري"، و"القابضة للتأمين"، و"القابضة للتشييد والتعمير"، و"القابضة للأدوية"، و"القومية للإسمنت" (منها 800 فدان في حلوان، نحو 3.3 كيلومترات مربّعة). ويتم حالياً إجراء تعديلات على قانون قطاع الأعمال العام لتسهيل تصرف الصندوق فيها.