يبدو أن لغة التهديد والوعيد الروسية، كما يصفها القادة العسكريون والسياسيون في دول الشمال الإسكندنافية، باتت تأتي بنتائج عكسية. وأعلن وزير الدفاع السويدي بيتر هولتكفيست، أمس الثلاثاء، أن بلاده "تحضر نفسها لتكون على المستوى من ناحية القدرات والجهوزية".
وخلال الأيام الماضية، لوحظ الإعلان عن توسيع الانتشار العسكري السويدي في منطقة غوتلاند على بحر البلطيق، والتي كانت مسرحاً لما يصفه السويديون "انتهاكات روسية" منذ العام 2014.
نشرت السويد سفن هجوم سريع في أرخبيل استوكهولم، الذي تعرض مرات عدة للاختراق من قبل غواصات روسية
وكانت كوبنهاغن قد عززت، أمس الأول، دفاعاتها، ودفعت بمزيد من الدبابات والطائرات المقاتلة والجنود نحو دول البلطيق، في سياق تعهدات متواصلة لدعم دول البلطيق الصغيرة، كما أكدت وزيرة دفاع الدنمارك ترينا برامسن، أمس الثلاثاء.
استعراض قوة للدول الإسكندنافية بوجه روسيا
التحركات الإسكندنافية ليست سرية، بل أقرب إلى استعراض قوة مُعلن، بكل ما يحمله ذلك من رسائل إلى روسيا. فوصف هولتكفيست الأوضاع بأنها "خطيرة"، كما صرح للتلفزة السويدية أمس، مشدداً على أنه "ليس هناك تصرف فردي في حال نشوب حرب"، يشير، برأي الباحث المتخصص في الحروب الروسية في أكاديمية الدفاع باستوكهولم أوسكار يونسون، إلى أن "المخاطر من اندلاع نزاع مسلح باتت حقيقية، وإلا لما وصف وزير الدفاع (هولتكفيست) الأمر كما وصفه".
وكانت وزارة الدفاع السويدية قد أعلنت، خلال الأيام الماضية، عن تعزيز الدفاعات في غوتلاند، المقابلة لجيب كاليننغراد الروسي على البلطيق، ونشرت سفن هجوم سريع في أرخبيل استوكهولم، الذي تعرض مرات عدة للاختراق من قبل غواصات روسية. وأشار هولتكفيست إلى أنه يجري تعزيز الدفاعات والاستعدادات بشكل غير مسبوق منذ 2015، مؤكداً أن "هناك المزيد من الحاجة للعمل" على هذا الأمر.
ورفضت استوكهولم في الفترة الأخيرة التصريحات الروسية، التي وصلت إلى حد استخدام لغة التحذير بألا تنضم إلى حلف شمال الأطلسي. وأكد هولتكفيست أن "المطالب الروسية غير مقبولة البتة، وتصرفات موسكو تتعارض مع القانون الدولي".
ويعتبر ذلك الموقف إشارة واضحة إلى تقدم علاقة استوكهولم بحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وسط إشارات إلى تراجع المعارضين لانضمام بلدهم إليه، بعد عقود من الحياد.
وأكدت رئيسة وزراء السويد ماغدالينا أندرسون، بعد لقاء مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، على أهمية "تعميق الشراكة بين الناتو والسويد"، بحسب منشور لرئاسة الوزراء على "تويتر" أخيراً.
تهديدات روسيا تسرّع تقارب الدول الإسكندنافية و"الناتو"
وتستند تحذيرات الكرملين للسويد وفنلندا من الالتحاق بالأطلسي إلى مخاوف من تغيير الواقع الجيوسياسي التاريخي في منطقة دول الشمال. فقد بقيت فنلندا طوال سنوات الحرب الباردة على علاقة وثيقة بالاتحاد السوفييتي السابق، ومن ثم روسيا، بعد سقوط جدار برلين. وبقيت اللقاءات شبه ثابتة بين ساسة البلدين، اللذين تربطهما حدود مشتركة تصل إلى نحو 1300 كيلومتر، شكلت بنظر موسكو "منطقة عازلة" مع الحلف.
اعتبر رئيس الأركان السويدي أن الرضوخ للمطالب الروسية يعني تدمير أساس السياسات الأمنية لبلاده
إلا أنه منذ بداية توتر علاقات موسكو بالغرب في 2014 تغير الكثير في المنطقة. وساهم أيضاً توسع الوجود العسكري الروسي في البلطيق، ونشر صواريخ في جيب كاليننغراد، والتوسع في المنطقة القطبية الشمالية، بزيادة مخاوف هلسنكي واستوكهولم وبقية الدول الإسكندنافية، التي تخشى من مصير شبه جزيرة القرم.
ومنذ 2015 باتت مجموعة "دول الشمال" أكثر تنسيقاً في المجال الأمني الدفاعي، ضاربة عرض الحائط بالخطوط الحمراء لموسكو. فبالإضافة للعودة إلى الانتشار العسكري الذي كان سارياً في فترة الحرب الباردة، وبالأخص في منطقتي البلطيق، كغوتلاند السويدية وجزيرة بورنهولم الدنماركية، وفي بحر الشمال والمنطقة القطبية، فقد تزايد التنسيق بين النرويج والدنمارك والسويد وفنلندا.
وفي حين أن موسكو تركز على منع توسع "الناتو" شرقاً، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قلق أيضاً من ذهاب هلسنكي واستوكهولم نحو العضوية الكاملة في "الأطلسي". وهذه المنطقة تعتبر حيوية، سواء لحلف شمال الأطلسي أو لروسيا نفسها، التي تخشى الإطباق عليها من جهة البلطيق.
الرضوخ لمطالب روسيا يدمر السياسات الأمنية للسويد
وما يقلق "دول الشمال" أن ما تصفه "بعدوانية" الخطاب الروسي تتصاعد ضدها وضد دول البلطيق. وبحسب رئيس الأركان السويدي ميكائيل بودن، أخيراً، فإن "الرضوخ للمطالب الروسية يعني تدمير أساس السياسات الأمنية للسويد". ويظهر هذا الأمر وغيره من الإجراءات "الشمالية"، أن التحذيرات الروسية أصبحت تأتي بنتائج عكسية، سواء في استوكهولم أو هلسنكي.
ويذهب بعض المختصين في الأكاديمية الدفاعية السويدية إلى اعتبار محادثات الخميس الماضي، بين رئيس فنلندا سولي نينيستو ورئيسة وزراء السويد ماغدالينا أندرسون، بمثابة "اقتراب من دفع طلب العضوية إلى الأطلسي".
أقر البرلمان السويدي ما يشبه استراتيجية دفاعية ملزمة للحكومة، تستند إلى ما يطلق عليه "خيار الناتو"
وفي السياق ذاته، جاء أيضاً تأكيد أندرسون لستولتنبيرغ بضرورة "تعميق الشراكة" مع "الناتو"، وهو ما أكده الأمين العام للحلف باعتباره أن "السويد شريك مهم لحلف شمال الأطلسي. ونحن ندعم حق كل دولة في اختيار الحلول الأمنية الخاصة بها بحرية".
ومنذ 2020 ذهب البرلمان السويدي، بعد تغير مواقف يسار ويسار الوسط، إلى إقرار ما يشبه استراتيجية دفاعية ملزمة للحكومة، تستند إلى ما يطلق عليه "خيار الناتو"، أي الاستعداد للانضمام إلى الحلف. وهو ما ذهبت فنلندا إليه أيضاً، مع ملاحظة أن الجانبين دخلا خلال السنوات الأخيرة بمناورات وتدريبات عسكرية مع "الناتو" لتسهيل اندماج جيشي البلدين في عمليات الحلف.