يتصاعد الجدل في الجزائر منذ استئناف تظاهرات الحراك الشعبي هذا الأسبوع، بشأن التزايد اللافت للشعارات الموجّهة ضد المؤسسة العسكرية، عبر وصف جهاز المخابرات بـ"المنظمة الإرهابية"، واستهداف "الجنرالات"، والمطالبة باستبعاد الجيش عن دوائر اتخاذ القرار. ويحصل هذا وسط تشكيك رسمي وسياسي في أن تكون غايات هذه الشعارات الإخلال بالسلطة الأدبية للجيش، والإساءة لصورته في ظرف داخلي وإقليمي بالغ الحساسية.
وتتزايد الدعوات لدى مكونات فاعلة ونخب في الحراك الشعبي بضرورة إحداث مراجعة جدية بشأن حزمة من الشعارات الموجهة ضد الجيش والمؤسسة الأمنية. مع العلم أن الأبعاد السياسية لهذه الشعارات ومضامينها لا تستهدف جسم الجيش كمؤسسة تضم أبناء الشعب وتحظى باحترام وتقدير شعبي، بقدر ما هي موجّهة إلى القيادات العسكرية التي تتمركز في قلب السلطة والقرار. لكنها تطرح مخاوف جدية من أن تؤدي هذه الشعارات لاحقاً إلى استدعاء الصدام مع الجيش، على غرار ما حدث في يوليو/تموز 2019، ما قد يؤدي إلى إجهاض مسار الحراك وفتح الباب أمام أزمة أعقد.
أُضيف شعار "دولة مدنية ماشي (ليس) عسكرية" في التظاهرات الأخيرة
ودخل أحدث شعار موجّه إلى المؤسسة العسكرية وأفرعها، سلة شعارات الحراك الجزائري، سواء في تظاهرات ذكرى الانطلاقة يوم الإثنين الماضي أو في تظاهرات أول من أمس الجمعة، وهو "المخابرات منظمة إرهابية". وحصل ذلك على خلفية ما أثير قبل فترة قصيرة بشأن تعذيب جهاز المخابرات معتقلي الحراك، لا سيما بعد الكشف عن قضية تعذيب واغتصاب الطالب وليد نقيش في مركز للاستخبارات. وفي السياق نفسه، برز شعار آخر جديد، وهو "دولة أولاد الحرام"، الذي يستهدف رجال الشرطة، رداً على عمليات قمع وتفريق المتظاهرين أو الاعتقالات التي تقوم بها قوات الأمن. وعلى الرغم من مضمونه السياسي الذي يشير إلى عدم شرعية السلطة ومؤسساتها وأجهزتها، إلا أنه يضمن تعرّضاً أخلاقياً لرجال الشرطة.
وبرز شعار "الجنرالات إلى المزبلة" في مسيرات الجمعة الماضية، وهو شعار ظل يتردد في الحراك منذ يونيو/حزيران 2019 مع شعارات أخرى، كانت موجّهة ضد بعض رموز المؤسسة العسكرية، بمن فيهم قائد الجيش الراحل الفريق أحمد قايد صالح. وهو سبب من الأسباب التي خلقت توترات وصداماً في المواقف بين الحراك وقيادة الجيش، منذ مسيرات يونيو 2019. في المقابل، فقد أُضيف شعار "دولة مدنية ماشي (ليس) عسكرية" في التظاهرات الأخيرة. وحمل العشرات، أول من أمس الجمعة، لافتات ورقية مطبوعة وبشكل موحّد كتب عليها هذا الشعار، ما يؤشر على وجود تركيز سياسي على هذا الشعار، للمطالبة بتمدين السلطة وإبعاد الجيش عن سلطة القرار.
في السياق، يعتبر أستاذ العلوم السياسية في جامعة غرداية، جنوبي الجزائر، جيدور بشير، أن الشعارات المتعلقة بالمؤسسة العسكرية والأمنية عموماً مرتبطة "بحساسية متجذرة من العسكر والأمن في نمطية التفكير الجزائري، واستمرت لأنه لم يأت ما يلغيها على الأقل منذ الأزمة السياسية الأولى بعد الانتخابات المحلية ثم العصيان المدني للإسلاميين في يونيو 1990". ويرى، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن تفسير طغيان الشعارات في مسيرات الحراك الشعبي يرتكز على عاملين "أن هناك قطاعاً من الحراكيين يستشعر فعلاً أن هناك تدخلاً مباشراً أحياناً ومستتراً أحياناً أخرى، من المؤسسة العسكرية في النشاط السياسي للدولة. ويعتبرون أن المنطق لديهم يجبرهم على مناهضته وعدم القبول به، خصوصاً بعد نجاح النسخة الأولى من الحراك في بلوغ هدفها الرئيسي، وهو تحييد وإسقاط الولاية الخامسة (لعبد العزيز بوتفليقة). وهو ما عزز الشعور بقيام دولة مدنية".
أما العامل الثاني، وفق بشير، فيتجلى في "تكاثر الشعارات المناهضة للمؤسسة الأمنية، والتي تكون مرتبطة بسعي مستتر إلى شيطنتها في المخيال العام للمواطن الجزائري وحتى الأجنبي. وهنا لا بد من البحث عن جرعة البراءة من عدمها، وإن كان هذا الأمر مرتبطا بأجندات خارجية تبحث عن كسر عمود الدولة أو إحداث تشويه عليه، أم أن المسألة لا تعدو تطرفاً لفظياً وشعاراتياً مدفوعاً بالحماسة ومشاعر الغضب سرعان ما يزول وتتضح الرؤية مستقبلاً".
الشعارات والمواقف المعلنة من قبل الحراك الشعبي إزاء الجيش والسعي للدفع به إلى خارج دوائر القرار وتمدين الدولة وإبعاد تأثير جهاز المخابرات على الحياة السياسية والقضاء والإعلام وغيرها، تتأثر على اعتبارات ترتبط بتمركز الجيش في قلب صناعة القرار السياسي وتحديد الخيارات في البلاد منذ الاستقلال عام 1962. وكان الجيش وراء سلسلة انقلابات كانت تعزز في كل مرة تحكّمه في كامل مفاصل البلد، منذ انقلابه على الحكومة المؤقتة للثورة التي كان يفترض أن تتسلم إدارة البلاد من فرنسا صيف عام 1962، ثم الانقلاب على الرئيس أحمد بن بلة في يونيو 1965. وتدخّل الجيش وجهاز المخابرات عام 1979 لفرض العقيد الشاذلي بن جديد رئيساً للبلاد عقب وفاة الرئيس هواري بومدين، ثم فرض قرار وقف المسار الانتخابي ودفع الرئيس الشاذلي إلى الاستقالة في يناير/كانون الثاني 1992، وإدخال البلاد في مرحلة دامية، إضافة إلى مسؤولية الجيش في مجموع الاختيارات التي حدثت بعد ذلك، وصولاً إلى استدعاء الجيش للرئيس عبد العزيز بوتفليقة عام 1999، وحماية نظامه لعقدين كاملين.
يشعر بعض المعارضين بتدخل المؤسسة العسكرية في النشاط السياسي للدولة
في الوقت الحالي، توجّه في الغالب تهمة إنتاج هذه الشعارات والتركيز عليها في التظاهرات، إلى تيارات إسلامية، كانت ضحية تصرفات الجيش في التسعينيات، وتيارات تقدمية وحركات أمازيغية راديكالية، يقصد بهما حركة "رشاد" التي تقودها بعض القيادات السابقة في "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" المنحلّة، وحركة أمازيغية تطالب بانفصال منطقة القبائل (ذات غالبية السكان من الأمازيغ). وبغض النظر عن عدم إمكانية ضبط الشارع في تعبيراته السياسية، خصوصاً في ظل عدم وجود قيادة واضحة للحراك، فإن مراقبين يعتقدون أن استمرار الحراك في تصعيد الموقف والشعارات المعلنة ضد الجيش، قد يؤدي إلى حصول انقسام مجدداً في صفوف الحراك وحدوث تمايز، بسبب وجود قطاع هام من الحراكيين يرفضون المساس بالجيش.
كما دفع استخدام تظاهرات الحراك بشكل مكثف شعارات مناوئة للجيش، بعض قوى المعارضة التي دخلت أخيراً في تواصل مع الرئيس عبد المجيد تبون، إلى الإعلان الصريح رفضها ذلك. واعتبر القيادي في "جبهة القوى الاشتراكية" (الداعمة الحراك) سمير بوعكوير في تقدير موقف نشره أن "فهم شعار دولة مدنية وليس عسكرية، على أنه ترجمة للشعار التاريخي في ثورة التحرير القاضي بأسبقية السياسي على العسكري، هو عملية احتيال كبيرة". وأشار إلى أن "طرح هذا الشعار الموجه ضد الجيش عبث، خصوصاً في سياق ضعف الدولة الوطنية في خضم حالة عدم الاستقرار التي تعرفها المنطقة وما تحمله من تهديدات على الأمن الوطني، فالضرورة التاريخية المستعجلة والحيوية، تتعلق بالحفاظ على الأمن وإعادة الدولة إلى الأمة". وأضاف أن "هذا الشعار الذي زُج به في الحراك بطريقة ماكرة بعد سقوط نظام بوتفليقة، استبعد في المقلب الشعار الأصلي، والذي يفيد بأن الجيش والشعب أخوة، ويستهدف إذا ما تمت مقارنته بالواقع الجزائري إعادة البلاد لسنوات التسعينيات"، في إشارة إلى الأزمة الأمنية التي عاشتها البلاد في تلك الفترة.