تشيلي تختار التغيير: نحو دستور جديد لتجاوز آثار حقبة بينوشيه

21 مايو 2021
تشيليون يحتفلون في الشوارع بعد الانتخابات (Getty)
+ الخط -

بعد نحو خمسين عاماً على انقلاب 1973، لم تستطع تشيلي التحرر من إرث الديكتاتور أوغستو بينوشيه، إذ بقي الدستور دائماً عقبة في طريق طموحات التغيير التي تنشدها أطياف كبيرة في البلد الذي عُد يوماً من أثرى بلدان أميركا اللاتينية، فتوجهات الأحزاب السياسية التي تسلّمت السلطة، وعدم فاعِلية البرلمان في إدخال تعديلات قانونية لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة، كانت من الأسباب الأساسية التي أدت إلى استمرار النهج نفسه.

غير أن تدهور الأوضاع المعيشية للأغلبية الفقيرة في البلاد، دفع التشيليين للخروج إلى الشوارع في تظاهرات كبيرة عام 2019، لتُجبر النظام الحاكم على الاتجاه نحو تبنّي مطالب التغيير، والتي يبدو أنها ستبدأ بإعادة صياغة الدستور، وذلك بانتخاب التشيليين نهاية الأسبوع الماضي مجلساً يضم 155 عضواً لتولي مهمة وضع دستور جديد خلال 9 أشهر، قبل عرض النتائج على استفتاء شعبي، وسط خشية اليمين وطبقة الأثرياء، من التحوّلات التي تشهدها البلاد، وخصوصاً الاتجاه نحو تغيير شامل للنظام السياسي للحكم.

وأظهرت نتائج الانتخابات التي أجريت يومي السبت والأحد الماضيين، لاختيار 155 شخصية لكتابة دستور جديد في تشيلي، إدارة الشعب ظهره للأحزاب التقليدية، وتكبّد اليمين المتشدد الحاكم برئاسة رئيس البلاد سبستيان بنييرا، خسارة كبيرة. فقد حقق المرشحون المستقلون تفوقاً على مرشحي أحزاب اليمين، والتي ينظر إليها على أنها "امتداد للحكم الديكتاتوري" لأوغوستو بينوشيه. ولم ينل جناح اليمين في "التجمع الدستوري"، المنوط به العمل على استبدال دستور الديكتاتورية العسكرية منذ 1980، سوى 37 مقعداً، أي أقل من ثلث الأعضاء للحصول على نفوذ وتأثير في صياغة دستور البلاد. وصرح بنييرا بأن تياره "لم يكن على مستوى موجة مطالب وآمال الشعب".

ولم يكن وضع معسكر اليسار التقليدي أفضل حالاً في النتائج، فلم يحصل سوى على 25 مقعداً، بينما تقدّم التيار اليساري الجديد، غير التقليدي، محققاً 28 مقعداً، وهو الذي شارك بقوة في الاحتجاجات الشعبية عام 2019 التي فرضت ذهاب البلاد نحو دستور جديد. وذهبت بقية المقاعد للمستقلين، والذين أظهروا أيضاً تفهماً لمطالب الشعب بالعدالة والمساواة، وكانوا جزءاً من الحراك النقابي والطالبي الذي هز البلاد طيلة خريف 2019. ومن المثير في النتائج، حصول السكان الأصليين (شعب مابوتشي) على 17 مقعداً. وشارك نحو 850 ألف تشيلي يعيشون خارج بلدهم في انتخاب الجمعية التأسيسية.

ويُعد انتخاب الهيئة الدستورية (155 عضواً) مؤشراً قوياً إلى خيار التشيليين بالبحث عن بدائل للأحزاب السياسية المتهمة بترسيخ إرث بينوشيه الديكتاتوري، وخصوصاً عدم فاعِلية البرلمان في إدخال تعديلات لمصلحة الطبقات المحرومة والسكان الأصليين الذين تعرضوا لقمع شديد في العاصمة سانتياغو والمدن التي يشكلون فيها أغلبية، إذ استخدم الجيش، بدعم من طبقة الرأسماليين والأثرياء، القوة المفرطة في إطلاق النار والقمع لإخماد الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها البلاد في 2019.

تكبّد اليمين المتشدد الحاكم برئاسة بنييرا خسارة كبيرة

ويوجد رهان كبير على الدستور الجديد ليشكل مخرجاً من أزمة الحكم والقوانين في البلاد، التي ورثت أنظمة تحظّر إدخال تعديلات من دون موافقة أغلبية مطلقة في البرلمان، الذي يسيطر عليه الجناح اليميني المقرب من بنييرا، وبالتالي تعد النتائج مؤشراً إلى ما يمكن أن تكون عليه أي انتخابات مقبلة، وخصوصاً الرئاسية المقررة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، والإعادة في 19 ديسمبر/كانون الأول. وأمام المنتخبين لصياغة الدستور الجديد نحو 9 أشهر، يمكن تمديدها ثلاثة أشهر إضافية، قبل أن تُعرض النتائج على استفتاء شعبي، يأمل اليسار الجديد والمستقلون أن تشارك فيه نسبة كبيرة من الشعب، إذ لم تسجَّل في انتخاب نهاية الأسبوع الماضي مشاركة سوى 43 في المائة من الناخبين.

ويخشى اليمين التشيلي، وطبقة الأثرياء، الأوفياء حتى اليوم لعهد الديكتاتورية العسكرية، ولشخصية بينوشيه، التحولات التي تشهدها البلاد وخصوصاً في الاتجاه نحو تغيير شامل للنظام السياسي للحكم، وهو ما يراهن عليه معسكر اليسار ويسار الوسط الداعي لخروج البلاد من عباءة عصر الديكتاتورية وآثارها المستمرة بعد أكثر من 3 عقود على نهايته، وذلك بالتركيز على مسائل المساواة والعدالة الاجتماعية لجذب فقراء البلد والشعب الأصلي للمشاركة أكثر في تقرير مصير بلدهم تشيلي.

وبدا واضحاً أن مزاج سكان سانتياغو اتجه أكثر نحو اليسار، إذ شهدت البلاد في اليوم نفسه انتخابات بلدية، حقق فيها الشيوعيون فوزاً في العاصمة التي سيرأسون مجلس بلديتها. وتنقسم العاصمة بين أحياء شمالية ثرية وأحياء فقيرة جداً، هذا عدا عن انتشار الفقر في مدينة سان أنطونيو التي تضم أكبر موانئ البلاد، لكنها تعيش وضعاً سيئاً لجهة البنى التحتية والبيوت وغلاء المعيشة من دون استفادة من الميناء وما يدره على البلاد من مداخيل. وغير بعيد عن مساكن الأثرياء المحاطة بجدران وبوابات وحراسات خاصة، تنتشر أحزمة فقر تشيلية، وخصوصاً من السكان الأصليين حول العاصمة.

تداعيات الحراك الشعبي

يأتي التوجه لوضع دستور جديد بعد خروج الشارع التشيلي في 2019 في تظاهرات كبيرة، وخصوصاً في العاصمة سانتياغو، إثر تدهور الأوضاع المعيشية للأغلبية الفقيرة في البلد، والتي طالبت بتعديلات تحقق لها عدالة في مجالات التعليم والتقاعد والنظام الصحي والأجور، إلى جانب الاحتجاج على وضع إمدادات المياه في أيدي القطاع الخاص، الذي أنهك جيوب محدودي الدخل، من خلال تحالف رجال السياسة والأعمال لخصخصة قطاعات كثيرة، بما فيها التعليم، والذي فجّر غضب طلاب الجامعات الذين انحازوا إلى الثورة الشعبية.

رهان كبير على الدستور الجديد للخروج من أزمة الحكم

بعد هذا الحراك، صوّت التشيليون في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بنسبة 78.3 في المائة بـ"نعم" لانتخاب جمعية تأسيسية، بعدما اتفقت مختلف التيارات السياسية نهاية 2019 على أن الدستور الجديد يعد مخرجاً لحالة أشبه بحرب شهدتها سانتياغو، وأججت مشاعر السكان الأصليين الذين قُمعوا في الجنوب وحضروا إليها للتعبير عن غضبهم، الذي وصل إلى القصر الرئاسي مطالباً باستقالة بنييرا. وتأجل التصويت على الجمعية التأسيسية للدستور الجديد أكثر من مرة بسبب تفشي وباء كورونا، إذ كان يفترض أن يجري في المرة الأولى في إبريل/نيسان 2020.

تاريخ الصراع السياسي

تعود جذور الصراع السياسي في تشيلي إلى دستور 1980، الذي هندسه خيمي غوزمان، السياسي اليميني المحافظ، وجعله لمصلحة بينوشيه ومن المستحيل تعديله، ما أجبر كل الحكومات اللاحقة "على مواصلة سياسة بينوشيه"، وهو ما صرح به غوزمان نفسه. وكان انقلاب بينوشيه العسكري عام 1973 قد أطاح بالرئيس الاشتراكي المنتخب سلفادور أليندي. وحظي الانقلاب بدعم أميركي، لمصلحة شركات كبرى، خصوصاً أن أليندي وحكومته الاشتراكية اعتُبرا تهديداً للمصالح الأميركية.

ويُقدّر عدد المعارضين الذين اغتالهم بينوشيه بنحو 4000 معارض، عدا عن اضطرار الآلاف للهجرة، والعمل ضد سلطة الانقلاب من المنفى. هدفت سياسات الديكتاتورية العسكرية في زمن بينوشيه إلى تبنّي قوانين تمنع المشاركة الشعبية في السياسة، وإبقاء مفاصل الدولة والسياسة بيد حفنة من الشركات الخاصة لجني المزيد من الأموال. وأدت تلك السياسات إلى خصخصة واسعة في البلاد، ما جعلها تصطدم بعدم قدرة القطاع العام على التدخل في مجالات تهم المواطن التشيلي، وفق تقييدات دستور 1980. وأنتج ذلك مجتمعاً منقسماً بين أثرياء فاحشين، قادرين على الوصول إلى الخدمات المقدمة من القطاع الخاص، وأغلبية من الفقراء الذين ازدادوا فقراً في الأعوام الثلاثين الماضية، واتسعت الفجوة بين الطرفين. ويُتهم الرئيس الحالي سبستيان بنييرا، بامتلاكه وبعض أقاربه الكثير من المصالح الخاصة، بما فيها قطاع نقل الطيران، وفي مجالي الصحة والتعليم، وقاوم هو ومحيطه الاحتجاجات الشعبية.

في 1988، أجرى بينوشيه استفتاء على حكمه، معتقداً أنه سيفوز بنسبة كبيرة، إلا أنه فوجئ بتغلب معسكر "لا" لاستمراره ولو بنسبة ضئيلة. عام 1990، استقال بينوشيه، لكنه بقي يحتفظ بالسلطة على الجيش، وبمقعد في مجلس الشيوخ مدى الحياة. وفي 1998، اعتُقل الديكتاتور السابق في لندن، وبعد عام ونصف أطلق سراحه وعاد إلى تشيلي، وبقي فيها حتى وفاته في 2006 من دون أن تتمكن حكومات يسار الوسط من ملاحقته قضائيا داخل البلاد، بفضل تصميمه النظامَ ليعجز عن ذلك.

هذا هو الإرث السياسي الذي بدأ التشيليون بالثورة عليه منذ 2011، مع احتجاجات بدأتها الحركة الطالبية، في محاولات متكررة لتغيير الواقع الذي زاد في الفجوة الاقتصادية ووسع نسبة الفقراء مع تدني الأجور، وعدم فاعِلية النقابات في الدفاع عن مصالح هؤلاء، وتراجع الأوضاع الاقتصادية الذي يحمّله الناس للنخبة المستفيدة من اختلال التوازن في البلاد. وقوبلت تحركاتهم دوماً بحائط صد أسس له دستور بينوشيه، وتمثل في إعطاء المحكمة الدستورية حق النقض (الفيتو) لوقف كل مبادرة سياسية للتغيير. وعلى الرغم من وصول حكومات يسار وسط، ومشاركة من كافح ضد ديكتاتورية بينوشيه في الحكم، بقي الدستور دائماً عقبة في طريق طموحات التغيير التي نشدها التشيليون، قبل التحوّلات التي أنتجتها احتجاجات 2019 وأوصلت اليوم إلى أولى خطوات تغيير الدستور.

دلالات
المساهمون