تركيا- اليونان: فاروشا يعيد التوتر إلى شرق المتوسط

30 يوليو 2021
تحولت فاروشا إلى مدينة يدافع عنها العالم (فرانس برس)
+ الخط -


فاروشا حيّ ساحلي سياحي صغير من أحياء مدينة فاماغوستا الواقعة في الشطر الشمالي من جزيرة قبرص. ولو لم يزره الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يوم التاسع عشر من يوليو/تموز الحالي، لما تذكّره أحد، على الرغم من أن هذا الحيّ كان يتمتع بشهرة كبيرة في زمن غابر يعود إلى ما قبل النزاع في الجزيرة وتقسيمها إلى شطرين: جنوبي يوناني يحظى بالاعتراف الدولي وعضوية الاتحاد الأوروبي منذ عام 2004، ويشكل قرابة 59 في المائة من مساحة الجزيرة، بينما لم تعترف بالجمهورية التي أعلنها القبارصة الأتراك في الشطر الشمالي في 1983 سوى تركيا، وهي تقع على مساحة 36 في المائة من الجزيرة. أما بقية مساحة الجزيرة، وهي حوالي 4 في المائة، فتشغلها قوات الفصل الدولية التابعة للأمم المتحدة. هذه القوات دخلت الجزيرة بعد التدخل العسكري التركي في 20 يوليو 1974، والذي حصل بعد الانقلاب الذي قام به المجلس العسكري اليوناني بالتعاون مع قوى يمينية قبرصية - يونانية ضد الرئيس الأسقف مكاريوس، بهدف ضم الجزيرة إلى اليونان.

لم يتراجع أردوغان أمام التحذيرات الدولية، وقام بزيارة الشطر التركي القبرصي في الذكرى الـ47 للتدخل التركي

فاروشا شاطئ ساحر وشارعان، أحدهما حمل اسم الرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي، وهو يضم مجموعة من الفنادق الشاطئية كانت تصل إلى حدود 200 فندق، منها "فندق أرغو"، وهو الذي كانت تفضله الممثلة الأميركية الراحلة إليزابيت تايلور. وفاروشا مفردة تركية، تعني الضاحية، وجرى إطلاق هذا الاسم على المنطقة الواقعة خارج أحياء مدينة فاماغوستا الساحلية التي كانت قبل أن تندلع الحرب، قبلة سياحية، على الرغم من أن مساحتها لا تتجاوز 200 كيلومتر مربع، وعدد سكانها أقل من 40 ألف نسمة، وما بين 1970 و1974 كانت واحدة من أشهر المرابع السياحية في العالم، وشكلت مقصداً خاصاً للسينمائيين العالميين، من أمثال ريتشارد بيرتون، راكيل وولش وبريجيت باردو. وهجر الأهالي من يونانيين وأتراك المنطقة، بسبب المواجهات التي دارت بين الجيشين اليوناني والتركي في 1974. وجرت محاولات تسوية عدة لعودة السكّان وتعويض اليونانيين منهم، ولكنها لم تنجح بسبب تعثر مساعي حلّ القضية القبرصية التي وصلت إلى طريق مسدود عام 2017، بعد مفاوضات كانت مبشرة، واستمرت سنوات عدة برعاية الأمم المتحدة.

ويبدو أن المفاجأة التي روّجت لها وسائل إعلامية تركية، قبل زيارة أردوغان للشطر الشمالي، من دون أن تفصح عن مضمونها، كان الرئيس التركي قد أبلغها إلى أطراف دولية، لاسيما الاتحاد الأوروبي، الذي تحظى قبرص اليونانية بعضويته. ويفسر ذلك التصريح الذي صدر عن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، والتي استبقت اقتراح أردوغان بحلّ الدولتين بتحذير أنقرة. وقالت: "أوضحنا للسيد أردوغان موقفنا من الزيارة وما هي حدودها".

ولكن الرئيس التركي لم يتراجع، وقام بزيارة الشطر التركي القبرصي في الذكرى الـ47 للتدخل التركي، يرافقه زعيم الحركة القومية دولت بهجلي، وذهب حتى فاروشا التي حرّكت ضده ردود فعل دولية لم تكن في الحسبان، وأبرزها تصريح وزير خارجية الولايات المتحدة أنتوني بلينكن الذي كان حاداً في رد فعله، ودان ما وصفها بـ"الخطة التوسعية بنقل السيطرة على مدينة تشكل رمزاً لتقسيم قبرص، إلى القبارصة الأتراك"، مشدداً على أن الخطوة "مخالِفة لقرارات مجلس الأمن الدولي". وتبعت تصريح بلينكن ردود فعل من وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، ونظيره الفرنسي جان إيف لودريان الذي انضم إلى دعوة الوزير الأميركي لنقل القضية إلى مجلس الأمن الدولي.

ومع أن الجزيرة مقسمة منذ 47 عاماً، تحولت فاروشا في ردود الفعل الدولية إلى مدينة يدافع عنها العالم، في حين أنها عبارة عن حيّ أشباح مدمر ومنسي نبتت فيه الأعشاب البرّية، وصار مسرحاً للسلاحف البحرية، بحسب تحقيق لشبكة "بي بي سي" الإخبارية. وبات العالم يلوّح بهذا الحيّ ضد تركيا، بوصف اقتراح أردوغان يتعارض مع قراري مجلس الأمن الدولي رقمي 550 و789، اللذين يطالبان بإدارة فاروشا من قبل الأمم المتحدة. واستقبلت أوساط تركية الرسائل الدولية على أنها غير منفصلة عن الموقف من الرئيس التركي، وعلى صلة بالنزاع في شرق المتوسط والحدود البحرية والغاز، والدليل أنه لم تتم إثارة هذه الضجة، حين أعاد الجيش التركي فتح أجزاء من شاطئ فاروشا العام الماضي، قبل أسابيع على انتخاب رئيس الشطر الشمالي أرسين تتار في أكتوبر/تشرين الأول 2020.

استقبلت أوساط تركية الرسائل الدولية على أنها غير منفصلة عن الموقف من أردوغان، وعلى صلة بالنزاع في شرق المتوسط

وكانت قبرص على الدوام نقطة نزاع يوناني تركي، والمرة الوحيدة التي عرفت فيها الجزيرة استقراراً نسبياً، كانت بفضل الدستور الذي وضعته بريطانيا عام 1960 بموافقة القبارصة اليونانيين والأتراك واليونان وتركيا. ووقعت الأطراف على وثيقة استقلال قبرص من بريطانيا وإعلان الجمهورية التي ترأسها مكاريوس الثالث الذي أطاح به الانقلاب اليوناني في 17 يونيو/حزيران 1974، وكان ذلك سبباً في الحرب وتقسيم الجزيرة. ولاحت فرصة ثانية للاستقرار من خلال انضمام قبرص إلى الاتحاد الأوروبي عام 2004، ولكن التمييز الأوروبي بضمّ الشطر اليوناني فقط حال دون ذلك، بذريعة أن دولة شمال قبرص تم إعلانها من طرف واحد. وبعد فشل مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، بدت قضية قبرص مستعصية على الحل أكثر من أي وقت مضى. وفي الوقت الراهن، أضافت التوترات حول الطاقة في شرق المتوسط عنصراً جديداً إلى النزاع القبرصي.

وهناك عنصر لا يقل أهمية، وهو يتعلق بالسياسة الخارجية التي تنتهجها تركيا، والتي لا تكف أوساط غربية عن توصيفها على أنها في سياق طموحات عودة الإمبراطورية العثمانية القديمة. ومن المؤكد أن الآفاق الجغرافية للرئيس التركي قد توسعت في الأعوام الأخيرة، من خلال الحضور العسكري والسياسي القوي في ملفات عدة، منها ليبيا، سورية وأذربيجان، وذلك في ظل اقتصاد ديناميكي ومتنامٍ على الرغم من الآثار السلبية لوباء كورونا. ولم تلق تحركات تركيا في شرق المتوسط ارتياحاً، وغالباً ما تم تصوير الأتراك على أنهم يتحركون على نحو أحادي لتحقيق جزء من مصالحهم، وهو ما أزعج أطرافاً إقليمية ودولية على حد سواء. 

ولكن بنفس القدر، رأت تركيا ما تعتبرها مصالحها الوطنية الحيوية مهددة - ليس أقلها في سورية - حيث تشعر بخيبة أمل من قبل العديد من حلفائها الغربيين في حلف شمال الأطلسي، ومن بينهم الولايات المتحدة. ولذلك، سعت إلى توجيه مسارها الخاص وجهة أخرى، والانخراط مع لاعبين آخرين مثل روسيا وإيران عند الضرورة. وجاء ذلك في الوقت الذي جرت فيه تفاهمات إقليمية دولية من أجل غاز المتوسط، شاركت فيها إسرائيل، اليونان، مصر، قبرص، فرنسا، وجرى استبعاد تركيا الدولة المتوسطية، وصاحبة أطول شاطئ على البحر المتوسط. وبالتالي، من شأن تفاهمات جديدة لترسيم الحدود البحرية تأخذ مصالح تركيا بالحسبان، أن تقود في نهاية المطاف إلى تقليل التوترات، وربما حتى فتح الطريق لحل مشكلة قبرص طويلة الأمد أيضاً.

المساهمون