ترامب متهماً بقضية الوثائق: سابقة تاريخية في توقيت انتخابي حسّاس

11 يونيو 2023
واصل ترامب جمع التبرعات لحملته الانتخابية بعد توجيه التهم إليه (سكوت أولسون/Getty)
+ الخط -

دخل مسار الملاحقات القانونية بحق الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، أول من أمس الجمعة، مفترقاً جديداً، قد يكون الأخطر بالنسبة إلى ترامب، المرشح للرئاسة مجدداً في انتخابات العام المقبل، وبالنسبة إلى ما يمكن أن تقود إليه المحاكمة من تعميق الشرخ في الولايات المتحدة، بين الجمهوريين والديمقراطيين، وبين الجمهوريين أنفسهم.

وعلى أبواب معركة تمهيدية حامية لدى الحزب الجمهوري لاختيار مرشحه للرئاسة، يأتي توجيه الاتهام لترامب بتعريض الولايات المتحدة للخطر، بقضية احتفاظه بوثائق مصنفة سرّية في مقر إقامته بفلوريدا بعد مغادرته البيت الأبيض، عام 2021، مُحرجاً للحزب الجمهوري، رغم انقلاب العديد من وجوه الحزب على الرئيس السابق، ودعوة بعضهم علناً إلى الابتعاد عنه.

وفيما يصوّر ترامب القضية على أنها في إطار المعركة المفتوحة ضدّه من "اليسار الراديكالي"، في إشارة تحديداً إلى الحزب الديمقراطي، فإن الوضع لدى الحزب الجمهوري بعد الاتهام لن يكون كما قبله. ولا يزال ترامب متصدراً استطلاعات الرأي الجمهورية الرئاسية. وإذا لم يصدر الحكم في القضية سريعاً، فإن المعركة التمهيدية ستكون استثنائية وغير مسبوقة، من حيث منافسة رئيس سابق يواجه تهماً قد تقوده إلى السجن، علماً أن للقضية تداعيات أكثر خطورة لناحية ما كشفته من اختراق للأمن القومي الأميركي.

لائحة اتهام بتحقيق مارآلاغو

وأُبلغ ترامب منذ يوم الخميس الماضي، بأن المحقق الخاص جاك سميث، المكلف من قبل وزارة العدل بالتحقيق في قضية وثائق مارآلاغو (مقر ترامب في فلوريدا)، وكذلك بقضية اقتحام أنصار ترامب مقر الكونغرس في 6 يناير/ كانون الثاني 2021 لعرقلة التصديق على فوز بايدن بالرئاسة، قد أصدر لائحة اتهامات ضد ترامب بقضية الوثائق. وأعلن ترامب ذلك قبل إعلان سميث نفسه. وبحسب الإعلام الأميركي، فقد جهّز ترامب فيديو لينشره على منصته للتواصل الاجتماعي "تروث سوشال" بعد تبليغ محاميه، بأن سميث سيعلن أول من أمس الجمعة لائحة الاتهام.

قاضية معيّنة من ترامب ستشرف على جلسة الثلاثاء

وتعقد القضية من المخاطر القانونية المتزايدة بالنسبة إلى ترامب، الذي وجهت إليه بالفعل لائحة اتهام في نيويورك ويواجه تحقيقات إضافية في واشنطن وأتلانتا قد تؤدي أيضاً إلى توجيه تهم جنائية (قضية الممثلة الإباحية ستورمي دانيالز، قضية التدخل للتأثير بفرز الأصوات في انتخابات الرئاسة، قضية التهرب الضريبي، قضية التحريض لاقتحام الكونغرس).

ولكن من بين التحقيقات المختلفة التي يواجهها ترامب، فإن الخبراء القانونيين، بالإضافة إلى مساعدي الرئيس السابق نفسه، يرون منذ فترة طويلة، بحسب ما ذكرت وكالة "أسوشييتد برس" أمس السبت، أن تحقيق مارآلاغو هو التهديد الأكثر خطورة والأكثر نضجاً للمقاضاة.

وتدعم هذا الرأي، والتهم الموجهة إلى ترامب، كمية الأدلة الممسوكة ضدّه، وحجمها، وخطورتها، وصعوبة نقضها، بعد مداهمة عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي "أف بي آي" مقر ترامب ومصادرتهم الوثائق الصيف الماضي. ولذلك، فإن فريق الرئيس السابق القانوني لم يتساءل يوماً ما إذا كان سميث سيُصدر لائحة اتهام، بل فقط متى سيحصل ذلك، بحسب "أسوشييتد برس".

وبالفعل، فقد خلص سميث، بعد انتهاء تحقيقه، إلى أن ترامب قد يكون عرّض الولايات المتحدة للخطر، عبر احتفاظه بعد مغادرته الرئاسة بوثائق سرّية، بما فيها أسرار عسكرية ونووية صدرت عن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) وأجهزة الاستخبارات المتعددة. ومن الممكن وصف لائحة الاتهام لترامب، بالتاريخية وغير المسبوقة بالنسبة إلى رئيس سابق، وهي مؤلفة من 49 صفحة، وتشمل 37 اتهاماً، 31 منها لاحتفاظه عن قصد بوثائق دفاعية حسّاسة. كذلك وجّهت 6 تهم إلى مساعد لترامب، هو والت ناوتا، لمساعدته في إخفاء الوثائق.

وخلال كشفه عن لائحة الاتهام في خطاب تلفزيوني مقتضب، قال المدعي الخاص سميث (عيّنه وزير العدل ميريك غارلاند للتحقيق في قضية الوثائق في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022)، إن "القوانين في الولايات المتحدة تطبَّق على الجميع"، مشدداً على أن تلك التي "تحمي المعلومات المتعلقة بالدفاع الوطني ضرورية، وانتهاكها يعرّض بلادنا للخطر"، مطالباً بـ"محاكمة سريعة" لترامب. ومن بين التهم الموجهة إلى ترامب، في هذه القضية، "الاحتفاظ غير القانوني بمعلومات تتعلق بالأمن القومي" و"عرقلة العدالة" وتقديم "شهادة زور".

ترامب ينتهك القانون

وثمّة قانون في الولايات المتحدة يُلزم الرؤساء بإرسال جميع رسائل البريد الإلكتروني والرسائل ووثائق العمل الأخرى إلى الأرشيف الوطني بعد مغادرتهم البيت الأبيض. ويحظر قانون آخر يتعلق بالتجسس الاحتفاظ بأسرار الدولة في أماكن غير مصرّح بها وغير آمنة. ولكن عندما غادر البيت الأبيض في يناير 2021 للاستقرار في فلوريدا، أخذ ترامب معه صناديق كاملة من الملفات السرّية. ووفقاً للائحة الاتهام، ظلّت تلك الصناديق مكدسة في إحدى القاعات قبل أن تُنقل إلى "غرفة تخزين" يمكن الوصول إليها من حوض السباحة، وهناك شوهدت وثائق تحمل عبارة "سرّي جداً" على الأرض. وتضم لائحة الاتهام صورة تُظهر أكواماً من الصناديق داخل حمام كبير.

وفي يناير 2022، وبعد طلبات متكررة، وافق ترامب على إعادة 15 صندوقاً تحوي أكثر من 200 مستند سري، وأكد محاموه في رسالة بعد ذلك عدم وجود أي وثيقة أخرى. لكن بعد فحص الوثائق، رأت الشرطة الفيدرالية أن ترامب لم يُعد كل شيء، وأنه ما زال يحتفظ بعدد كبير من الأوراق في ناديه في بالم بيتش. وبناءً على ذلك، دهم عناصر "أف بي آي" في 2 أغسطس/ آب الماضي، مقر إقامة ترامب في فلوريدا، وصادروا حوالى 30 صندوقاً آخر تحوي 11 ألف وثيقة، بعضها حسّاس جداً بشأن إيران أو الصين. وكان ترامب قد أكد أنه رفع السرّية عن الوثائق المصنفة سرّية عندما كان رئيساً، لكن فريقه الدفاعي رفض تقديم هذه الحجة في وثائق المحكمة.

ترامب ناقش مع محاميه إمكانية الكذب على الحكومة

وتتناول إحدى الوثائق دعم إحدى الدول الأجنبية للإرهاب بما يتعارض مع المصالح الأميركية. ونصّت لائحة الاتهام على أن هذه المواد الحكومية صادرة عن البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية ووكالة الأمن القومي ووكالات أخرى تابعة للاستخبارات. وقال ممثلو الادعاء إن ترامب أطلع شخصاً آخر على وثيقة لوزارة الدفاع وُصفت بأنها "خطّة هجوم" على دولة أخرى، وتآمر مع مساعده ناوتا لإخفاء الوثائق. وبحسب لائحة الاتهام، فإن ناوتا كذب على مكتب التحقيقات الاتحادي عندما أخبرهم أنه لا يعرف كيف انتقلت بعض الوثائق إلى أحد الأجنحة في منزل ترامب، بينما كان في الواقع متورطاً في نقلها إلى هناك من غرفة التخزين.

ولم يحتفظ ترامب بالوثائق السرّية فقط في مارآلاغو، بل أيضاً في نادي الغولف الخاص به في نيوجرسي. وجاء في لائحة الاتهام أن المنتجع استضاف عشرات الآلاف من الضيوف في أكثر من 150 حدثاً خلال الوقت الذي كانت فيه الوثائق هناك.

وبحسب لائحة الاتهام، فقد تضمنت الوثائق "معلومات تتعلق بالقدرات الدفاعية لكل من الولايات المتحدة ودول أجنبية، وبالبرامج النووية الأميركية". وتتعلق أيضاً بـ"نقاط ضعف محتملة للولايات المتحدة وحلفائها في حال تعرضها لهجوم عسكري، وخطط الرد المحتمل على هجوم أجنبي". وذكرت لائحة الاتهام الفيدرالية أن ترامب ناقش مع محاميه إمكانية الكذب على المسؤولين الحكوميين الذين يسعون لاستعادة الوثائق وحفظ بعضها في صناديق بالقرب من مرحاض ووزع صناديق تحتوي على بعض من هذه الوثائق في أنحاء منزله حتى لا تعثر عليها السلطات. ونقلت لائحة الاتهام عن ترامب قوله لأحد محاميه: "ألن يكون من الأفضل لو قلنا لهم إنه ليس لدينا أي شيء هنا؟"، مشيداً بمحامٍ سابق لوزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، قال إنه تمكن من محو 30 ألف رسالة بالبريد الإلكتروني الخاص بها، واصفاً عمله بـ"الرائع".

وكان ترامب قد استبق إعلان سميث، وأكد الخميس أن لائحة اتهام وجّهت ضدّه بقضية وثائق مارآلاغو، وأنه استدعي للمثول أمام محكمة في ميامي (فلوريدا) بغد غدٍ الثلاثاء (قبل يوم من بلوغ ترامب 77 عاماً). وشدّد ترامب على أنه "بريء"، مصوراً نفسه مجدداً على أنه ضحية مؤامرة دبّرها الديمقراطيون لعرقلة وصوله إلى البيت الأبيض مجدداً. وكتب ترامب على "تروث سوشال": "هذه لم تعد أميركا"، مؤكداً أنه "لم يكن لديه يوماً أي شيء يخفيه". كذلك هاجم المدعي العام سميث وكتب عنه: "إنه كاره لترامب، مريض نفسي، مختل، لا ينبغي أن يكون معنياً بأي قضية لها علاقة بالعدالة".

ويدرك ترامب وفريقه خطورة الاتهامات الموجهة إليه، ليس فقط لجهة ارتداداتها على مستقبله السياسي، بل لأنه في حال إدانته، من الصعب عليه الإفلات من عقوبة السجن. ولم يسبق في التاريخ الأميركي أن وجهت محكمة اتهامات اتحادية لرئيس أميركي سابق. ونظراً لأنه سيقضي أي عقوبات محتملة فوراً، فإن الحد الأقصى للسجن الذي يواجهه هو 20 عاماً لعرقلة العدالة.

وفي تطور أيضاً لافت، قد يؤثر بمجرى الأحداث، كُلِّفَت القاضية أيلين كانون التي كان ترامب قد عيّنها في عام 2019 بمقاطعة فلوريدا، الإشراف على جلسة الثلاثاء المقبل، من دون أن يعرف بعد ما إذا كانت ستتابع القضية بأكملها أو سترأس المحاكمة أيضاً. وكانت كانون قد تصدرت عناوين الصحف العام الماضي، عندما حكمت لصالح ترامب في مرحلة محورية من القضية، قبل إلغاء الحكم في الاستئناف. وستحدد كانون أموراً عدة، من بينها موعد إجراء المحاكمة والحكم على ترامب في حالة إدانته.

وبالإضافة إلى التداعيات القانونية، فإن لهذه القضية تداعيات سياسية هائلة أيضاً في البلاد، من المحتمل أن تقلب الانتخابات التمهيدية الرئاسية للجمهوريين التي لا يزال ترامب يسيطر عليها. وتختبر القضية من جديد استعداد ناخبي الحزب الجمهوري وزعماء الحزب ومنظومته للالتزام بمرشح وجهت إليه اتهامات، وقد يواجه مزيداً من التهم. وتمهد القضية الطريق لمحاكمة مثيرة، تركز على الاتهامات القائلة بأن رجلاً كلّف يوماً حماية أسرار البلاد الأكثر حراسة، قام عن عمد وبشكل غير قانوني، بتخزين معلومات حسّاسة تتعلق بالأمن القومي، ما يضع حزبه في موقف حرج، وخصوصاً ما لم يصدر الحكم قبل الانتخابات التمهيدية للحزب لاختيار مرشحه للرئاسة، والمقررة بداية العام المقبل.

وبحسب وكالة "أسوشييتد برس"، فإن ترامب انطلق الخميس بعملية لجمع التبرعات من أجل حملته الرئاسية، فور إبلاغه بلائحة الاتهام، وأمضى يوم الجمعة بحسب "واشنطن بوست" في لعب الغولف، بعدما كرّر على "تروث سوشال" الخميس، أن التحقيق هو استكمال لما يسمّيه "مطاردة الساحرات"، في إشارة إلى الاتهام الذي يردّده منذ تحقيق التدخل الروسي في الانتخابات (2016)، والموجه إلى الحزب الديمقراطي وما يرى ترامب أنه "مؤامرة" من "الدولة العميقة" عليه. ويحق لترامب الاستمرار بترشحه للرئاسة، وهو يواجه لوائح اتهام، ويحق له أيضاً البقاء مرشحاً، إذا ما أدين، لكن لم يسبق أن حصل ذلك في التاريخ الأميركي لمرشح من الحزبين الرئيسيين.

وبحسب تعبير صحيفة "واشنطن بوست"، فإن لائحة الاتهام "تخبر الكثير عن قصة غطرسة ورياء"، في إشارة إلى كيفية احتفاظ ترامب بالوثائق والكذب على المحققين. وكشفت شبكة "سي أن أن"، أمس، أن ترامب أقرّ في تسجيل صوتي يملكه المحققون بأنه لم يرفع السرّية عن الوثائق. وبرأي "واشنطن بوست"، فإن القضية بإمكانها ليس فقط تغيير مجرى السباق إلى البيت الأبيض العام المقبل، بل الديناميات السياسية للأمن القومي الأميركي، ونظرة الجمهور لوزارة العدل والرئيس الـ45 للولايات المتحدة، أي ترامب.

(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز، أسوشييتد برس)

المساهمون